في جدلية العلاقة بين النص الديني والواقع: قراءة في مشكلة الطلاق عند الأقباط
د. حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4804
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أثيرت في الآونة الأخيرة في المجتمع المصري مشكلة الطلاق والزواج الثاني عند الأقباط، والواقع أن تلك المشكلة ليست جديدة تماما، وإنما هي هَمُّ شاغل منذ زمن طويل لعدد غير قليل من المسيحيين الذين لم ينجحوا في زواجهم، وواجهتهم مشكلات ومعوقات كبيرة في حياتهم الزوجية بحيث أصبح الاستمرار في الزواج أمرا شبه مستحيل.
والحقيقة أنه لا توجد إحصاءات رسمية لعدد المطالبين بالطلاق من المسيحيين (أو المسيحيات) في مصر، غير أن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن هذا العدد يقدر بالآلاف، وربما بمئات الآلاف، (أنظر على سبيل المثال التحقيق المنشور بجريدة الأهرام في الرابط التالي http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=1005607&eid=1962 وأيضا التحقيق المنشور بجريدة المصري اليوم http://www.almasryalyoum.com/news/details/145031 ) وفي كل الأحوال، وبغض النظر عما إذا كان العدد كبيرا أو صغيرا، فتلك مشكلة اجتماعية تخص طائفة من البشر – بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية تستحق الاهتمام والمراجعة والمواجهة. وكاتب هذا المقال باعتباره باحثا اجتماعيا يتناولها هنا باعتبارها مشكلة اجتماعية عامة وليست مجرد مشكلة خاصة ببعض المسيحيين.
إن جوهر المشكلة في ظني يكمن في تمسك الكنيسة ببعض النصوص الكتابية ترى أنها تمنع منعا باتا وقوع الطلاق بين الزوجين إلا في حالة وقوع الزنا، وهو ما تعكسه العبارة الشهيرة التي يرددها رجال الكنيسة (لا طلاق إلا لعلة الزنا) حيث ورد بالعهد الجديد على لسان السيد المسيح عليه السلام ‘وأما أنا فأقول لكم أن مَنْ طَلَّق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني’ (متى 5:32) وأيضًا ‘وأقول لكم أن مَنْ طلق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوَّج بأخرى يزنى’ (متى 19: 9) وغيرهما من النصوص المماثلة.
لابد أن نقرر ابتداء قبل مناقشة تلك القضية حقيقتين أساسيتين: الأولى أن النص الديني باعتباره نصاً يعتقد المؤمنون به أنه وحي إلهي شيئ، والتفسير الإنساني لهذا النص شيئ آخر مغاير تماما، فالأول وحي إلهي ثابت، والثاني فعل بشري اجتهادي متغير، الحقيقة الثانية أنه لا توجد قراءة نهائية مطلقة للنصوص -بما فيها النص الديني - تتجاوز شروط الزمان والمكان، فالقراءة والفهم والتفسير هي عمليات إنسانية مبدعة تحاول سبر أغوار النص في ظل الواقع الاجتماعي المتجدد دوما، والذي يفرز كل لحظة متغيرات جديدة لم تكن حاضرة في زمان النص الأول ولا في مكانه.
والحقيقة أن ثمة نظاما معرفيا إنسانيا تبلور وتطور على نحو كبير يهتم بمعضلة تفسير النصوص بشكل عام، وهو فلسفة التأويل أو (الهرمنيوطيقا) فالقضية الأساسية التي تتناولها الهرمنيوطيقا هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء أكان نصا تاريخيا أم نصا دينياٍ، والأسئلة التي تحاول الإجابة عنها– من ثم – أسئلة كثيرة معقدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة، وعلاقته بمؤلفه من جهة أخرى. والأهم من ذلك أنها تركز بشكل لافت على علاقة المفسر (أو الناقد في حالة النص الأدبي) بالنص. هذا التركيز على علاقة المفسـر بالنص هو نقطة البدء والقضية الملحة عند فلاســــفة الهرمنيوطيقا.
والأمر اللافت أن مصطلح الهرمنيوطيقا ذاته مصطلح قدبم (لاهوتي الجذور) حيث بدأ استخدامه أولا في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني (الكتاب المقدس). فقد ارتبط فن التأويل بإشكالية قراءة الكتابات اللاهوتية والنصوص المقدسة، مما دفع أحد اللوثريين (نسبة إلى رائد الإصلاح الديني المعروف مارتن لوثر) وهو ماتياس فلاسيوس (Matthias Flacius) إلى الثورة على سلطة الكنيسة في مسألة مصادرة حرية قراءة النص المقدس ليقترح أولوية التراث في تأويل بعض المقاطع الغامضة من النص، وطابع الاستقلالية في فهم محتوياته بمعزل عن كل إكراه أو توجيه قسري. (يمكن للقارئ الكريم أن يقرأ المزيد عن مفهوم الهرمنيوطيقا في الرابط التالي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=261499 )
واستنادا لذلك فإن جوهر مشكلة الطلاق ومن ثم الزواج الثاني لدى الأقباط يكمن في الإصرار من جانب بعض رجال الكنيسة على تقديم رؤية أحادية، وفهم واحد للنص الديني، واعتبار ذلك الفهم هو الرؤية الوحيدة الصحيحة، وما عدا ذلك يعد خطأ جسيما، وربما هرطقة تودي بصاحبها مواطن الهلاك، وهو ما يعني في النهاية الادعاء بملكية الحقيقة المطلقة، والادعاء تبعا لذلك بأنهم الوحيدون القادرون على فهم النص الديني بطريقة صحيحة، وهم أكثر البشر كفاءة في إدراك مراد الله، وبالتالي إقصاء أي وجهة نظر أخرى مغايرة.
فالقراءة المغايرة للنص المتعلق بالطلاق ينبغي الاهتمام بها والحوار معها، وسوف يؤدي ذلك إلى قراءة مثمرة ستنتج بالتأكيد حلولا مبدعة لما يعانيه الآلاف من البشر، هذه القراءة ترى أن القول بأن السيد المسيح عليه السلام قال إن لا طلاق إلا لعلة الزنى وأن من يتزوج بمطلقة يزن.. إلخ هو قول مجتزء من سياقه الكتابي والتاريخي، فالواقع أنه لا يوجد نص كتابي يقول (لا طلاق إلا لعلة الزنى) لكن النص يقول بوضوح إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزنى، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزنى متى 5:31 وهذا النص يفسره السيد المسيح فى نفس الإنجيل فى الإصحاح 19 إذ يقول إنجيل متى: (وجاء إليه الفريسيون ليجربوه (يقصد السيد المسيح) قائلين له هل يحل لرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ وكان هذا السؤال لأن الرجل اليهودى كان يطلق امرأته بالإرادة المنفردة لكل سبب وأى سبب، لذلك كان السؤال عن الطلاق بالإرادة المنفردة للرجل، وكانت إجابة السيد المسيح: «من طلق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوج بأخرى يزن»، والرد هنا أنه ليس على الرجل أن يطلق امرأته بالإرادة المنفردة إلا إذا وجدها متلبسة بالزنى، أما الطلاق لأسباب أخرى فلابد من الحوار مع الزوجة، وهذه إجابة السؤال. وقال لهم: إنه من البدء خلقهما ذكرا وأنثى، وإن ما جمعه الله لا يفرقه إنسان، قالوا له: فلماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلق؟ قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم إذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا. لم يقل السيد المسيح عليه السلام إن موسى أخطأ، لكنه قبل الطلاق إذا توافرت قساوة القلب ، وهذا الذى ترجمه القمص فيلثاؤس بعمل الشر للآخر وإيذائه، وترجمته لائحة 38 19(سيأتي الحدبث عنها بعد قليل) باستحالة العِشرة، أما عن الزواج الثانى فقد قال السيد المسيح تكملة للحوار: إن المطلق الذى يتزوج بأخرى يزنى، والذى يتزوج بمطلقة يزنى، قال له تلاميذه: إن كان هذا أمر الرجل مع المرأة فلا يوافق إن تزوج فقال لهم: ليس الجميع يقبلون هذا الكلام. أى هناك من يرفضه لأنه صعب بالنسبة له، والسيد المسيح يقبل الاثنين، من يقبل ومن يرفض. ثم قال السيد المسيح: من ينظر لامرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه، وإذا طبقت هذه الكلمات وتلك المعاني يصبح الطلاق فى المسيحية أمرا سهلا حسب ما يرى هذا الفريق. (راجع هذه القراءة بالتفصيل في الرابط التالي http://www.masress.com/shorouk/265026)
وبالإضافة إلى ذلك - كما يرى هؤلاء أيضا – فإن هناك مبدأ أساسيا فى المسيحية يعلو فوق كل المبادئ الأخرى هو الغفران، ولقد قال السيد المسيح لتلاميذه: ما تربطونه فى الأرض يكون مربوطا فى السماء وما تحلونه فى الأرض يكون محلولا فى السماء. وقال لهم أيضا: صلوا قائلين: وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، وأردف: لأنه إن لم تغفروا للناس زلاتهم لن يغفر لكم أبوكم السماوى زلاتكم، أى لا توجد خطيئة بلا غفران مدى العمر، وإذا رفض التلاميذ أن يغفروا للناس لن يغفر الله لهم. (ويمكن قراءة المزيد من المعلومات عن هذا الرأي أيضا في الرابط التالي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=219341)
ومن جانب آخر فإن إحدى النقاط الهامة في تحليل النصوص الدينية بوجه عام – من وجهة النظر السوسيولوجية – هي فهم السياق الاجتماعي والثقافي الذي ظهر فيه النص الأول، حيث أن القراءة الواعية لذلك السياق تكشف كثيرا من الأبعاد التي تساهم في فهم الفلسفة العامة التي يريد النص أن يؤسسها. وهو ما يمكن أن نسميه المسكوت عنه أو غير المتكلم فيه الذي لم يشر إليه النص لأسباب متعلقة بالواقع الاجتماعي الثقافي السائد في ذلك الوقت، فالذين يتحدثون عن أن الطلاق في المسيحية أمر جائز، ولا يشترط علة الزنا في ذاتها يقولون إن السياق الذي ورد فيه النص هو سياق اجتماعي – ثقافي معقد يتم التعامل مع المرأة فيه بكثير من التعالي وعدم التقدير ، فهي في ظل هذا المجتمع تعاني من التهميش والإقصاء، ويُنظر إليها كشئ لا قيمة له، وبالتالي كان يتم التخلص منها لأي سبب وبأي سبب، فكان الهدف من كلام السيد المسيح هو الحد من الطلاق نتيجة انتشاره بصورة واسعة في وسط المجتمع اليهودي لأتفه الأسباب، فكان اليهودي - كما ذكرنا منذ قليل - يطلق امرأته لمجرد أنها نسيت أن تضع ملحا في الطعام مثلا، وبالتالي فلم يكن الهدف هو إلغاء الطلاق، وإنما وضع ضوابط محددة له حماية للمرأة وحفاظا عليها.
ومن ناحية أخرى فإن الواقع الاجتماعي قد يفرز أسبابا أخرى للطلاق لا تقل في خطورتها وأهميتها من الزنا، مثل إصابة الزوج بمرض معدي كالإيدز مثلا، والالتهاب الكبدي، أو إصابته بمرض نفسي عضال يصعب الشفاء منه، أو انحرافه سلوكيا وأخلاقيا كإدمانه للمخدرات ولعب القمار، وكذلك عدم قدرته على العبش مع زوجته لأسباب تتعلق بعدم التوافق الاجتماعي أو النفسي أو الفكري أو غيرها.
وقد فطن مجموعة من رجال الدين لكل تلك الأبعاد، فقدموا قراءة مغايرة للنص الديني، من أجل حل المشكلات المترتبة على عدم الطلاق، فتم وضع لائحة للأحوال الشخصية تبيح الطلاق لأسباب أخرى غير الزنا، وأقرها البابا كيرلس، وهي المعروفة إعلاميا بلائحة 1938، والتي جاء فيها:
- يجوز لكلا الزوجين أن يطلب الطلاق لعلة الزنا.
- ينفسخ الزواج إذا خرج أحد الزوجين عن الدين المسيحى.
- إذا غاب أحد الزوجين 5 سنوات متوالية بحيث لا يعلم مقره ولا يعلم حياته من وفاته وصدر حكم بإثبات غيبته جاز للزوج الآخر أن يطلب الطلاق.
- الحكم على أحد الزوجين بعقوبة الأشغال الشاقة والسجن لمدة تزيد على سبع سنوات فأكثر يسوغ للزوج الآخر طلب الطلاق.
- إذا أصيب أحد الزوجين بجنون مطبق يجوز للزوج الآخر أن يطلب الطلاق إذا كان قد مضى خمس سنوات على الجنون وثبت أنه غير قابل للشفاء.
ويجوز للزوجة أن تطلب الطلاق إذا أصيب زوجها بمرض العنه وثبت انه غير قابل للشفاء، وكانت الزوجة فى سن يخشى عليها فيه من الفتنة، ولم يكن قد مضى على الزواج 5 سنوات.
- إذا اعتدى أحد الزوجين على الآخر وإذا اعتاد إيذاءه إيذاء جسيما يعرض حياته أو صحته للخطر جاز للمجنى عليه أن يطلب الطلاق.
الخلاصة مما سبق أنه ينبغي أن يكون هناك حلا إنسانيا لتلك المشكلة، ذلك أن الاقتصار على جعل الطلاق مرتبطا بالزنا فقط، يضطر الراغبين في الطلاق إلى سلوك الطريق الثاني للحصول على الطلاق الذي تقره الكنيسة وهو تغيير الدين أو الطائفة، ولما كانت الكنائس المصرية المختلفة قد اتفقت على عدم إعطاء إفادة بتغيير الملة، فيكون الطريق الوحيد أمام المسيحي للحصول على الطلاق هو اعتناق الإسلام حتى يحصل على الطلاق، وبعد ذلك يعود للمسيحية مرة أخرى، وهذا أمر من شأنه أن يشعل فتنا طائفية، ويحدث مزيدا من الاحتقان الطائفي داخل المجتمع المصري، وبالتالي تتحول المشكلة من مجرد مشكلة دينية بسيطة إلى مشكلة اجتماعية عامة قد تعصف بوحدة المجتمع المصري وتناغمه، وهو ما لانريده ولا نرضاه.
إن تناولي للحديث في هذه القضية نابعا من اعتقادي بأن تلك المشكلة ليست مشكلة قبطية فقط، ولكنها بالإضافة إلى ذلك مشكلة مصرية، تخص مجموعة من أبناء هذا الشعب، استنادا لاقتناعي بأن المسيحيين جزء من نسيج هذا الوطن، وأن هموهم ومشكلاتهم جزء من هموم الوطن التي هي همومنا جميعا، ووفي النهاية أقول إن ما ورد بهذه المقالة هو تعبير عن وجهة نظر في القضية قابلة للنقد والتقييم والمراجعة بطبيعة الحال.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: