مع عبد الرحمن بن خلدون فى ذكرى رحيله – 5
د. حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 4503
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
رابعا:أهم إسهاماته النظريــة في علم الاجتمــاع
ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع، وبالتالي فهو المؤسس الأول للنظرية السوسيولوجية، والحق أن ذلك الحكم ليس من قبيل التفاخر الأجوف بتاريخ وتراث مجيد قد ولى، نبكي عليه كالنسـاء، لأننا لم نحافظ عليه كالرجال، كما قالت عائشة الحرة لابنها أبو عبد الله محمد الثاني آخر ملوك غرناطة عندما تنازل عنها للأسبان في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي عام 1492، ولكننا نؤكد ذلك بشهادات علماءالغرب ومفكريهم.
فالمفارقة العجيبة أن ابن خلدون قد طواه النسيان في عالمنا العربي الإسلامي لمدة تجاوزت خمسة قرون، وعلماء الغرب هم أول من اكتشفه وذلك في نهاية القرن السابع عشر 1697، على يد المستشرق الفرنسي ‘بارت دربلو’ الذي يعد أول من كتب مقالا عن ابن خلدون في العصر الحديث،وذلك في كتابه (المكتبة الشرقية) Bibliotheque Orientale كما نشر فيه مقتطفات من المقدمة، وعلى الرغم من أن المقال كان كثير الأخطاء، إلا أن مجرد الفات ذلك المستشرق لابن خلدون الذي كان قد غرق في بحر النسيان بعدا أمرا يستحق التقدير. (زينب الخضيري 1989: 38 – 39)
ثم أعيد بعثة في أوائل القرن التاسع عشر عندما نشر المستشرق الفرنسي ‘ إسحاق سيلفستر دي ساسي ‘ سنة 1806م ترجمة فرنسية لما جاء في المقدمة عن البيعة والملك في قاموسه المســـمى مقتطفــات عربيــــة Chrestomathie Arabe ثم نشر في عام 1816 ترجمة أوفى لحياة ابن خلدون وتحليلاً للمقدمة في قاموس التراجم الشامل Biographie Universal ألا أن الفضل الأكبر في إبراز أهمية ابن خلدون، وأهمية المقدمة يرجع إلى المستشرق النمسوي فوت هامر الذي نشر في عام 1813 رسالة بالالمانية أشاد فيها بابن خلدون وبابحاثه المقدمة ثم نشر مقالاً في المجلة الآسيوية عام 1822 تحدث فيه عن أصالة بحوث المقدمة وعمق تفكير ابن خلدون وأشار الى ضرورة ترجمة المقدمة.
وفي عام 1825 نشر المستشرق الالماني ‘ شولتز’ مقالاً عن ابن خلدون تناول فيه بحوثه وأظهر اهميتها ونادي بضرورة ترجمتها ونشرها كاملة ، وفي عام 1832م نشر المستشرق دي همز مقالاً تحت عنوان ‘ تقرير عن المؤلف التاريخي الضخم للفيلسوف الافريقي ابن خلدون ‘ نبه فيه الى ضرورة دراسة هذا المفكر الذي لم ينل بعد حظه من الاهتمام .وفي عام 1858م نشر المستشرق الفرنسي كاتر مير المقدمة بالعربية في باريس. وفي عام 1863م نشر البارون دي سلان المقدمة كاملة وعلق عليها وشرح الغامض منها وقدم لها بترجمة لابن خلدون وقد جاءت هذه الترجمة في ثلاثة أجزاء نشرت على التوالي في عام 63- 65 - 1868م. (زينب الخضيري 1989: 39 – 40)
وبعد أن أصبحت المقدمة في متناول أيدي علماء الغرب تغيرت كثير من الآراء التي كانت سائدة لديهم فيما يتعلق بنشأة العلوم الاجتماعية، فاكتشفوا مثلا أن الإيطالي (فيكو) لم يكن أول من بحث في فلسفة التاريخ، بل كان ابن خلدون أول من فعل ذلك، كما اكتشفوا أن أوجست كونت ليس أول من أنشأ علم الاجتماع، إنما سبقه إلى ذلك ابن خلدون بأربعة قرون. (زينب الخضيري 1989: 40)
والحقيقة أننا لا يمكن أن نعرض لكل القضايــا النظرية التي طرحها ابن خلدون في هذا الإطار الضيـق، ولـذا فإننا سنكتفي بعرض ‘إشــارات’ أو خطوط عريضة لبعض إسهاماته في تأسيس النظرية السوسيولوجية:
- ابن خلدون المؤسس الأول لعلم الاجتماع:
حيث حدد موضوعه ومنهجه وسماه ‘علم العمران البشري’ يقول في ذلك: ‘ وكأن هذا علم مستقل بنفسه, فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني, وذو مسائل, وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى. وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أم عقلياً’. (المقدمة:62)
ثم يحدد أهمية علمه الجديد، وعظم فائدته واختلافه عن بعض علوم عصره فيذكر:( وأعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص. وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية، فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في إقناع الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه. ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية؛ إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه. فقد خالف موضـوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشـبهانه). (المقدمة:62 - 63)
ويتحدث عن ريادته في تأسيس علمه الوليد فيقول: وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا، فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون؛ وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل. (المقدمة:63)
ويختم كلامه في هذا الشأن بكلام يعكس تواضع العلماء فيقول: ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاماً، وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره، وجهينة خبره. فإن كنت قد استوفيت مسائله، وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية. وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره مسائله، فللناظر المحقق إصلاحه، ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق. والله يهدي بنوره من يشاء. (المقدمة 66)
- العمران البشري هو موضوع العلم الجديد:
يحدد ابن خلدون موضوع علمه الجديد, وهو العمران البشري, والاجتماع الإنساني، وما يعرض له من الأحوال، يقول:
ونحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك ونقول: لما كان الإنسان متميزاً عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها. فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الني تميز به عن الحيوانات، وشرف بوصفه على المخلوقات. ومنها الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر، إذ لا يمكن وجوده دون ذلك، من بين الحيوانات كلها إلا ما يقال عن النحل والجراد، وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهامي لا بفكر وروية. ومنها السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه، لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه، وهداه إلى التماسه وطلبه، قال تعالى: ‘ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ‘ . (المقدمة 66-67)
ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر (يعني دولة) أو حِلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما سنبينه. ومن هذا العمران ما يكون بدوياً، وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال، ومنه ما يكون حضرياً، وهو الذي بالأمصار والقرى والمدن للاعتصام بها والتحصن بجدرانها. (المقدمة67)
- الاجتماع الإنساني ضروري
يطرح ابن خلدون في هذا السياق قضية نظرية قد تبدو بديهية، ولكنه يدلل عليها بأدلة علمية (سوسيولوجية) وهي أن الإنسان اجتماعي بطبعه، فيقول:
(إن الاجتماع الإنساني ضروري, ويعبر الحكماء من ذلك بقولهم (الإنسان مدني بالطبع) أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ. وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حباً من غير علاج، فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل. ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد. فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف. (المقدمة 70)
- العوامل المؤثرة في العمران البشري
يحدد ابن خلدون بعض العوامل المؤثرة في العمران البشري والاجتماع الإنساني، وهي عوامل متعددة ومتنوعة، من هذه العوامل:
1. العوامل الطبيعية:
فهو يري أن الظروف الجغرافية كالحرارة والبرودة والموقع الجغرافي تؤثر في السلوك الاجتماعي, فقد كتب جزءاً في المقدمة عنوانه (أثر الهواء في أخلاق البشر) أوضح فيه أن اختلاف الأقاليم في الحرارة والبرودة يؤدي إلي إختلاف البشر في ألوانهم وميولهم وسلوكهم وأجسامهم, وكثير من صفاتهم الأخلاقية والبدنية, كما يؤدي إلي اختلاف العادات والتقاليد والأفكار وشئون الأسرة, ونظم الحكم والسياسية. وقد قسم ابن خلدون المعمور المعروف في عصره إلي سبعة أقاليم: إثنين شديدي الحرارة, وثلاثة معتدلين, وإثنين شديدي البرودة, ورتب علي ذلك اختلاف أحوال العمران. يقول في ذلك:
قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه و البرد في الشمال. و لما كان الجانبان من الشمال والجنوب متضادين من الحر و البرد، وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا، فالإقليم الرابع أعدل العمران والذي حافاته من الثالث و الخامس أقرب إلى الاعتدال و الذي يليهما و الثاني والسادس بعيدان من الاعتدال و الأول و السابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم و الصنائع و المباني و الملابس و الأقوات و الفواكه بل و الحيوانات و جميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال و سكانها من البشر أعدل أجساماً و ألواناً و أخلاقاً و أدياناً حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها و لم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية و لا الشمالية و ذلك أن الأنبياء و الرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم و أخلاقهم قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس و ذلك ليتم القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله. (المقدمة 141 – 142)
2- العوامل الاقتصادية:
إذا يؤكد علي أهمية العوامل الاقتصادية في العمران البشري مثل, العمل, وأنواع المهن, وتأثير المهن علي من يمتهنها, والأنشطة الاقتصادية المختلفة كالزراعة والرعي والصناعة والتجارة, كما ناقش بعض القضايا الاقتصادية المرتبطة بالدولة كفرض الضرائب, وزيادة إنفاق الدولة علي الترف والملذات, وتأثير ذلك علي سقوطها.
وفي حديثة عن أهمية تحصيل الرزق يقول في فصل عنوانه: في حقيقة الرزق و الكسب و شرحهما و أن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية: (إعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته و يمونة في حالاته وأطواره من لدن نشوءه إلى أشده إلى كبره و الله الغني و أنتم الفقراء و الله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان و امتن به عليه في غير ما آية من كتابه، و يد الإنسان مبسوطة على العالم و ما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك. و ما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض، فالإنسان متى اقتدر على نفسه و تجاوز طور الضعف سعى في اقتناء المكسب، لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته و ضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: فابتغوا عند الله الرزق) (المقدمة 565)
وفي تصنيفه للمهن والأعمال وأهميتها ميز بين الضروري والكمالي، وحدد الضروري في الفلاحة والتجارة والصناعة، وعد الفلاحة متقدمة عليهما، لارتباطها بالعمل والإنتاج، ويعكس تثمينه لدور الزراعة بسبب ارتباطها بالعمل المنتج وما يعكسه من قيم ضرورية لاستمرارية المجتمع. (عبد الباسط عبد المعطي 56-57)
3- العوامل النفسية الاجتماعية:
مثل قوة العادات والتقاليد والانصياع الشديد لها, وتلك فكرة أشبة بفكرة دور كايم عن القوة القهرية للظاهرة الاجتماعية, ومن العوامل النفسية أيضاً الميل إلي التقليد ومن هذه العوامل العصبية وهي نزعة طبيعية تؤدي إلي الاتحاد والالتحام بين أفراد النسب الواحد, وهي ترجع في الأصل إلي صلة الرحم, قد تناول ابن خلدون كل تلك القضايا بالتفصيل في أماكن متفرقة من المقدمة، فقد كتب مثلا فصلا بعنوان أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغائب، وتناول بشكل مطول موضوع العصبية وتأثيره على العمران في غير موضع.
- قضايا نظرية ابتدعها ابن خلدون:
طرح ابن خلدون جملة من القضايا يمكن اعتبارها بمثابة نظريات سوسيولوجية مبكرة، وذلك من واقع ملاحظاته الميدانية، وقراءته للتاريخ السياسي والاجتماعي، من هذه القوانين:
أ- الظلم مؤذن بخراب العمران:
يقول ابن خلدون في فصل يحمل هذا العنوان:(إعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم في المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال وابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة والسلطان. (المقدمة 507)
ثم يستطرد: ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة وخصاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الخطر فيه موجودة فكان تحريمه مهما وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر. (المقدمة 510)
ومن خلال ما سبق يمكن توضيح أهم القضايا التي تطرحها نظرية ابن خلدون كما يلي:
- عدوان الحاكم على أموال الناس يذهب بآمالهم في التحصيل والكسب، ومن ثم يتوقفون عن العمل.
- ازدهار العمران يكون بالعمل والسعي، فإذا قعد الناس عن العمل والسعي حدث الاختلال في الدولة والمجتمع، حيث تنعدم الأرباح، وينهار العمران، وتسوء أحوال الناس، ويقل عدد السكان، وتخلو الديار من أهلها، يختل حال الدولة وبالتالي يختل حال المجتمع.
- يحدد ابن خلدون أنواع الظلم، فالظلم ليس أخذ أموال الناس وممتلكاتهم فقط، وإنما هو أشمل من ذلك، فالظلم يتضمن أخذ الممتلكات من مال وأرض ومتاجر ومصانع وغيره، العمل غصبا، وهو النظام المعروف بالسخرة أي دون أجر، فرض حقوق لم يفرضهاالشرع.
- يحدد ابن خلدون أنواع الظالمين، وهم جباة الأموال بغير حق، المعتدون على الأموال، المانعون لحقوق الناس، المغتصبون للأملاك. (مصطفى الشكعة1992: 207 – 208)
- ويمكن استنادا لرؤية ابن خلدون واستنباطا منها رصد أنماط أخرى من الظلم ربما لم تكن واسعة النطاق على عهد ابن خلدون، منها مصادرة حرية الإنسان في إبداء فكره وآرائه في حدود المعقول والمألوف، ومرة حق الإنسان في أن يعمل، ومصادرة حقه في السفر، واتهامه بجرائم لم يرتكبها، والتعذيب بمختلف أشكاله وألوانه،طرد الإنسان من بيته أو أرضه بغير حق. . . إلخ. (مصطفى الشكعة (209:1992)
ب- المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب:
- كتب ابن خلدون فصلا يحمل عنوان أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، أوضح فيه نظرية سوسيولوجية سُميت بعد ذلك بنظرية التقليد Imitation theory التي صاغها العالم الفرنسي جابرييل تارد، وبالتالي فإن الأسبقية تكون لابن خلدون في صياغة النظرية، وفحوى النظرية أن المنهزم يكون دائما ميالا إلى تقليد المنتصر في معظم شئون حياته.
- يقول ابن خلدون: (والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به وذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، إنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله)
ج- ممارسة السلطان للتجارة مضرة بالرعايا والدولة:
في فصل يحمل عنوان (في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية، يطرح ابن خلدون نظرية مهمة في علم الاجتماع، وهي أن اشتغال الحاكم بالتجارة يضر المواطنين، ويؤثر ذلك على موارد الدولة (التي يسميها ابن خلدون الجباية) يقول ابن خلدون:
اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات، وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية، فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم، كما قدمنا ذلك في الفصل قبله، وتارة بالزيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم، وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد، وهو غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة فأولا مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد ثم إن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضا أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه ثم إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات وحصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك الأصنافى من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضا جامدة ويمكثون عطلا من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدد ذلك ويتكرر ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة.(المقدمة 499 – 500)
يوضح ابن خلدون أن قيام الحاكم بممارسة الزراعة والتجارة، ليحصل منهما على دخل كبير يسدد به تبعات الأعباء الملقاة على عاتتقه مثل عطاء الجند، ورواتب الموظفين والحاشية ونفقات الدولة وتنمية ثروته الخاصة، يعد أمرا مضرا للشعب، ويدين ابن خلدون ذلك السلوك من جانب الحاكم، ويقرر أنه غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة، يمكن تلخيصها – من واقع ما ذكره ابن خلدون فيما يلي:
- مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوانات والبضائع، ومزاحمتهم في أرزاقهم، لعدم التكافؤ بين رأس مال السلطان ورؤؤس أموالهم المحدودة، ولإن مال السلطان أعظم من أموالهم، فيسد عليهم الطريق (ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد).
- إن الحاكم ينتزع البضائع من مصادرها بأيسر ثمن، ولا يجد من يناقشه في شرائه، فيبخس الأثمان على من يشتري منهم.
- ما يقوم به الحاكم من إرغام التجار على شراء غلاته من زرع أو حرير أو عسل أو سكر وغيرها، وغالبا ما تبقى البضائع بأيديهم فترة طويلة تحسبا لتحسن السوق، فإذا دعتهم الضرورة إلى شيئ من المال بتعوا تلك السلع بأبخس ثمن.
- إن ممارسة الحاكم للتجارة والزراعة يعتبر ضارا بالعمران، ويقول في ذلك (ثم فيه التعرض لأهل عمرانه واختلال الدولة بفسادهم ونقصهم فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات وكان فيها تلاف أحوالهم ). (مصطفى الشكعة1992: 225 – 226)
- يعد التغير الاجتماعي (تغير العمران بتعبير ابن خلدون) حقيقة أساسية في فكره:
قدم ابن خلدون نظرية علمية عن التغير الاجتماعي، حيث رصد أسبابه، وحدد مراحله، فهو يرى أن أحوال العالم والأمم, وعوائدها ونحلها لا تدوم علي وتيرة واحدة, إنما هو اختلاف علي الأيام والأزمنة, وانتقال من حال إلي حال, ويري ابن خلدون أن العصبية هي أهم عوامل التغير الاجتماعي.
ففي حديثه عن الدولة وتطورها يري أن لها عمراً كالأشخاص, فعمرها مائة وعشرون عاماًمقسم إلي ثلاثة أجيال, كل جيل مدته أربعون عاماً, الجيل الأول هو جيل البداوة وخشونتها, تكون السلطة قائمة علي قوة العصبية والجيل الثاني هو جيل الملك, حيث تتحول البداوة والخشونة إلي الترف والدعة والسكون, وتضعف قوة العصبية, وتقوي فكرة الملك القائمة علي الوراثة, أما الجيل الثالث فتختفي العصبية تماماً وتنسي خشونة البداوة, ويبلغ الترف غايته, فتذهب الدولة للانهيار ثم ما تلبث أن تزول.
- قدم ابن خلدون رؤية جديدة للتاريخ
فموضوع التاريخ لديه لا يقف عند أحوال الدول والملوك, بل يشمل كل ما يطرأ علي الحياة الاجتماعية من تغيرات اقتصادية وثقافية وسياسية, فكأن المقصود عنده هو تاريخ الحضارة, وليس التاريخ السياسي. إن إبن خلدون يقدم نظرة مختلفة للتاريخ, هي فلسفة التاريخ, حيث يري أن للتاريخ ظاهراً وباطناً, فظاهره إخبار عن الحوادث الماضية, وفي باطنه نظر وتحقيق, وتعليل للحوادث, وتفسير لها, وهو بذلك يعد رائداً لفلسفة التاريخ ومؤسساً لها.
يقول في مستهل كتاب العبر:( أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال ، وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال ،وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق). (المقدمة 2)
ويظهر تميز ابن خلدون في نظريته عن علم التاريخ أو فلسفته، في أنه ذهب إلى أن التاريخ فرع نوعي من المعرفة، يهتم بكامل مجال الظواهر الاجتماعية للتاريخ الفعلي، ويكشف المؤثرات المختلفة التي يعمل فيها، وباستمرار الأسباب والنتائج، وبالمكونات الطبيعية والنفسية. ولهذا فإن نظرية التاريخ عند ابن خلدون أوسع من مفهومه المرتبط بتسجيل الحوادث وتدوينها، بحيث تشمل وصفاً للعلاق ات الاجتماعية الداخلية والخارجية يبنى على تعليل الحوادث ، ومعرفة أسرارها، ومطابقتها لقانون السبب والمسبب.((محمد علي الأحمد 13:2007)
- قواعد المنهج العلمي عند ابن خلدون
تتجلى عبقرية ابن خلدون في أنه لم ينشئ علم العمران البشري والاجتماع الإنساني، فحسب، وإنما وضع أيضا لهذا العلم قواعد منهجية قوية، وكان يفعل ذلك بحس منطقي وعقلية علمية، فيقول واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقة مبتدعة وأسلوبا. ويشير بوضوح إلى اهتمامه بالمنهج فيقول: (وبعد أن استوفيت علاجه، وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه، وأوضحت بين العلوم طريقه ومنهاجه. (حسن الساعاتي86:2006)
ولذلك فقد اتسم فكر ابن خلدون بالدقة والتنظيم والموضوعية, حيث كشف خطورة الأكاذيب والأخطاء التي وقع فيها المؤرخون, وحدد أسبابها, وأكد علي ضرورة تلاشيها والبعد عنها، ورأي أن علم العمران البشري هو الأداة الفعالة في تمحيص الأخبار وتعليل الوقائع, وبالتالي انتفاء وقوع الأخطاء والأكاذيب.
وقد ارتكز المنهج العلمي الخلدوني علي عدة قواعد هامة, منها دقة المعرفة العلمية, والشك وصولاً لليقين, وعدم المبالغة في التعميم والاستقراء, والتحقيق العقلي من الأخبار, والمقارنة,والتجربة. وقد قدم عالم الاجتماع الكبير الراحل الدكتور حسن الساعاتي تحليلا وافيا لقواعد المنهج عند ابن خلدون وذلك في كتابه القيم علم الاجتماع الخلدوني، الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1972، ويمكن للقارئ الكريم الرجوع له للاستزادة حول القواعد المنهجية التي أرساها ابن خلدون.
9-04-2015
|