حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4122
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يحمل الوحي الإلهي قيما وفضائل أخلاقية وإنسانية عالية، وهذه القيم بمثابة قواسم مشتركة بين كل الأديان السماوية في نصوصها الصحيحة، فالعدل، والخير والحق كلها مبادئ متواترة في الخطاب الإلهي بتجلياته المتعددة. بيد أن هناك نصوصا معينة مرتبطة بسياقات محددة تتحدث عن الحرب والقتال أو الجهاد وفق ضوابط صارمة تحددها الشرائع الدينية، وهنا نجد أن كثيرا من رجال الدين يؤلون تلك النصوص لتحقيق مصالح ومغانم معينة، أو خدمة حاكم أو دولة أو جماعة.فالمشكلة ليست في النص ذاته، وإنما في الفهم البشري للنص، أو كما يقول المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم ليست المشكلة في كلام الله، وإنما تكمن المشكلة فيما فعله الرجال بكلمات الله.
والأمر اللافت للانتباه أن كثيرا من الناس يهاجمون الإسلام ويتهمونه بالإرهاب والحث على القتل، نظرا للفهم الملتبس لبعض النصوص من ناحية، وتحامل الكثير من الباحثين وخاصة المستشرقين وبعض غلاة الأديان الأخرى، من ناحية أخرى ونتيجة بعض الممارسات السلبية غير المقبولة لنفر من المسلمين سواء أكانوا أفرادا أو جماعات من ناحية ثالثة. والغريب أيضا أن الكثير من الباحثين والمفكرين لا يلتفتون لما فعله أصحاب الأديان الأخرى وخاصة رجال الدين المسيحي – باسم الرب - على مدار تاريخهم بالمسلمين وبغيرهم من البشر، ويتخيل بعضهم عن خطأ مقصود أو غير مقصود أن تاريخ الشرق الإسلامي أنهار من دماء جارية، وأن تاريخ الغرب المسيحي أنهار من عسل مصفى.
فلماذا لا يرجع هؤلاء لكتب التاريخ ليروا مافعله أتباع ديانة المحبة والسلام مع غيرهم ومع بعضهم أيضا. نتيجة تعصب أعمى أو جهل بطبيعة الدين الذي يحض وفق نصوصه الصحيحة على السلام والوئام والمحبة. تعالوا نرى جانبا مما فعله الرجال بكلمات الله.
في 27 نوفمبر من عام 1095 ألقي البابا اوربان الثاني Urban II خطابه الشهير في مدينة كليرمون في الجنوب الفرنسي يحث المسيحيين فيه على استخلاص القبر المقدس (مدينة القدس) من أيدي المسلمين. وكان هذا الخطاب نقطة البدء لكل الحروب الصليبية.
كان البابا قد أعد خطبة احتفالية بمناسبة انتهاء الأعمال التي ناقشها مجمع كليرمون على مدى الأيام التي مضت منذ بداية انعقاده في اليوم الثامن عشر من نوفمبر، ويبدو أن البابا الذي أعد نفسه للدعوة إلى حملة مقدسة تحت راية الصليب قد استعد لهذا اليوم الاستعداد الذي يضمن له النجاح، إذ أنه طلب من الأساقفة ومقدمي الأديرة الفرنسيين أن يدعوا كبار الأمراء الإقطاعيين في مناطقهم لسماع البابا.ويبدو أن الاستجابة كانت مرضية إلى حد كبير. (1)
توضح المصادر التاريخية أن البابا كان يدعو لحملة مقدسة هدفها فلسطين، اعتمادا على نصوص وردت في الأناجيل، وأهمها نص من إنجيل لوقا (27:14) يقول: ‘ ومن لايحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذا’ وثانيا أنه كان يدعو إلى هذه الحملة المسلحة المقدسة باسم الرب بوصفه نائبا عنه في الأرض، حيث يقول ( . . .ومن ثم فإنني لست أنا، ولكنه الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات. . .) لقد تحدث اوربان بهذه الصفة ليحث الفرسان على شن الحرب في سبيل المسيح، وبررهذه الحرب بأن هدفها أن تحرر الكنيسة الشرقية من ربقة المسلمين، وأن تخلص الأرض المقدسة من سيطرتهم، هذه الأرض التي وصفها الكتاب المقدس بأنها الأرض التي ستفيض باللبن والعسل، ووصفها اوربان الثاني بأنها ميراث المسيح. (2) كانت تلك خطبة رأس الكنيسة الكاثوليكية، فماذا فعل المحاربون المسيحيون (الأتقياء الودعاء المحبون) لتنفيذ خطبة البابا وتعاليم الكتاب المقدس؟
في السابع من يونيه عام 1099 أربعون ألفا من الصليبيين يحاصرون بيت المقدس لمدة خمسة أسابيع، وفي يوم الجمعة الخامس من يوليو 1099الموافق 22 شعبان 492 هجرية يتمكن الصليبيون من فك الحصار ويتدفقون إلى بيت المقدس ، ويرتكبون واحدة من أبشع مذابح التاريخ (قتل في المسجد الأقصى وحده 70 ألف مدني)، وأبيحت المدينة للسلب والنهب والقتل عدة أيام وفاض الدم وظلت الجثث مطروحة في شوارع القدس عدة أيام، في هذا الجو الموحش الكئيب ، اجتمع الصليبيون في (كنيسة القيامة لأداء صلاة الشكر).(3)
هذا جانب مما فعله المسيحيون الصليبيون في بيت المقدس، أما ما وقع للمسلمين بعد سقوط الأندلس في عام 1492 (4) على أيدى المسيحيين بأوامر ومراسيم من رجال الدين فيندى له جبين الشــرفاء والأحــرار في كل مكان وفي أي زمان.
بعد سقوط غرناطة،تم إبرام معاهدة تنص على أن يسلم حكام غرناطة المدينة للإسبان مقابل ضمان خروج الحكام بأموالهم إلى إفريقيا، كما تضمنت المعاهدة ثمانية وستين بنداً منها تأمين الصغير والكبير على النفس والمال والأهل، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم وعقارهم، وأن تبقى لهم شريعتهم يتقاضون فيها، وأن تبقى لهم مساجدهم وأوقافهم، وألا يدخل الكاثوليك دار مسلم، وألا يغصبوا أحداً، وألا يولى على المسلمين إلا مسلم، وأن يُطلق سراح جميع الأسرى المسلمين، وألا يؤخذ أحد بذنب غيره، وألا يُرغم من أسلم من الكاثوليك على العودة إلى دينه، وألا يعاقب أحد على الجرائم التي وقعت ضد الكاثوليكية في زمن الحرب، وألا يدخل الجنود الإسبان إلى المساجد، ولا يلزم المسلم بوضع علامة مميزة، ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم من أمور دينه.
وقد وقع على المعاهدة الملك الإسباني والبابا في روما، وكان التوقيعان كافيان لكي تكون المعاهدة ضمانة للمسلمين في إسبانيا، وبناء على هذه المعاهدة خرج أبو عبد الله بن أبي الحسن ملك غرناطة صباح يوم 2/1/1492م، من قصر الحمراء وهو يبكي كالنساء حاملاً مفاتيح مدينته وملكه الزائل، فأعطاها الملكة إيزابيلا وزوجها فرديناند.
الذي حدث أنه فور دخول الإسبان إلى غرناطة نقضوا المعاهدة التي أبرموها مع حكامها المسلمين، إذ كان أول عمل قام به الكاردينال مندوسيه عند دخول الحمراء هو نصب الصليب فوق أعلى أبراجها وترتيل صلاة الحمد الكاثوليكية، وبعد أيام عدة أرسل أسقف غرناطة رسالة عاجلة للملك الإسباني يعلمه فيها أنه قد أخذ على عاتقه حمل المسلمين في غرناطة وغيرها من مدن إسبانيا على أن يصبحوا كاثوليكًا، وذلك تنفيذًا(لرغبة السيد المسيح الذي ظهر له وأمره بذلك) فأقره الملك على أن يفعل ما يشاء لتنفيذ رغبة السيد المسيح, عندها بادر الأسقف إلى احتلال المساجد ومصادرة أوقافها، وأمر بتحويل المسجد الجامع في غرناطة إلى كنيسة، فثار المسلمون هناك دفاعًا عن مساجدهم، لكن ثورتهم قمعت بوحشية مطلقة، وتم إعدام مائتين من رجال الدين المسلمين حرقًا في الساحة الرئيسة بتهمة مقاومة المسيحية.
وظهرت محاكم التفتيش تبحث عن كل مسلم لتحاكمه على عدم تنصره، فهام المسلمون على وجوههم في الجبال، وأصدرت محاكم التفتيش الإسبانية تعليماتها للكاردينال سيسزوس لتنصير بقية المسلمين في إسبانيا، والعمل السريع على إجبارهم على أن يكونوا نصارى، وأحرقت المصاحف وكتب التفسير والحديث والفقه والعقيدة وكانت محاكم التفتيش تصدر أحكامًا بحرق المسلمين على أعواد الحطب وهم أحياء في ساحة من ساحات مدينة غرناطة أمام الناس، وقد استمرت هذه الحملة الظالمة على المسلمين حتى العام 1577م، وراح ضحيتها حسب بعض المؤرخين الغربيين أكثر من نصف مليون مسلم، حتى تم تعميد جميع الأهالي بالقوة..
ثم صدر مرسوم بتحويل جميع المساجد إلى كنائس، وفي يوم 12/10/1501م صدر مرسوم آخر بإحراق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فأحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة بغرناطة، ثم تتابع حرق الكتب في جميع المدن والقرى، ثم جاءت الخطوة التالية، عندما بدأ الأسقف يقدم الإغراءات الكثيرة للأسر المسلمة الغنية حتى يعتنقوا الكاثوليكية، ومن تلك الإغراءات تسليم أفرادها مناصب عالية في السلطة، وقد استجاب له عدد محدود جدًّا من الأسر الغنية المسلمة، وهو ما أثار غضب العامة من المسلمين فهاجموا أسر الذين اعتنقوا الكاثوليكية وأحرقوا بعضها.
عندها أعلن الكاردينال خيمينيث أن المعاهدة التي تم توقيعها مع حكام غرناطة لم تعد صالحة أو موجودة، وأعطى أوامره بتعميد جميع المسلمين في غرناطة دون الأخذ برأيهم، أو حتى تتاح لهم فرصة التعرف إلى الدين الجديد الذي يساقون إليه، ومن يرفض منهم عليه أن يختار بين أحد أمرين: إما أن يغادر غرناطة إلى إفريقيا من دون أن يحمل معه أي شيء من أمواله، ومن دون راحلة يركبها هو أو أحد أفراد أسرته من النساء والأطفال، وبعد أن يشهد مصادرة أمواله، وإما أن يُعدم علنًا في ساحات غرناطة باعتباره رافضًا للمسيحية. كان من الطبيعي أن يختار عدد كبير من أهالي غرناطة الهجرة بدينهم وعقائدهم، فخرج قسم منهم تاركين أموالهم سيرًا على الأقدام غير عابئين بمشاق الطرقات ومجاهل وأخطار السفر إلى إفريقيا من دون مال أو راحلة، غير أنه بعد خروجهم من غرناطة كانت تنتظرهم عصابات الرعاع الإسبانية والجنود الإسبان، فهاجموهم وقتلوا معظمهم، وعندما سمع الآخرون في غرناطة بذلك آثروا البقاء بعد أن أدركوا أن خروجهم من إسبانيا يعني قتلهم، وبالتالي سيقوا في قوافل للتعميد، ومن كان يكتشفه الإسبان أنه قد تهرب من التعميد كانت تتم مصادرة أمواله وإعدامه علنًا..
وقد فرَّ عدد كبير من المسلمين الذين رفضوا التعميد إلى الجبال المحيطة في غرناطة محتمين في مغاورها وشعابها الوعرة، وأقاموا فيها لفترات وأنشأوا قرى عربية مسلمة، لكن الملك الإسباني بنفسه كان يشرف على الحملات العسكرية الكبيرة التي كان يوجهها إلى الجبال، حيث كانت تلك القرى تُهدم ويُساق أهلها إلى الحرق أو التمثيل بهم وهم أحياء في الساحات العامة في غرناطة.
وعلى المنوال نفسه، سارت حملات كاثوليكية في بقية المدن الإسبانية، وقد عُرف المسلمون المتنصرون باسم المسيحيون الجدد تمييزًا لهم عن المسيحيين القُدامى، وعرفوا أيضاً باسم الموريسكوس، أي المسلمين الصغار، وعوملوا باحتقار من قبل المسيحيين القدامى، وتوالت قرارات وقوانين جديدة بحق الموريسكيين, فعلى سبيل المثال صدر في العام 1507م أمر بمنع استعمال اللغة العربية ومصادرة أسلحة الأندلسيين، ويعاقب المخالف للمرة الأولى بالحبس والمصادرة، وفي المرة الثانية بالإعدام، وفي العام 1508م جددت لائحة ملكية بمنع اللباس الإسلامي، وفي سنة 1510م طُبِّقت على الموريسكيين ضرائب اسمها الفارضة، وفي سنة 1511م جددت الحكومة قرارات بمنع اللباس وحرق المتبقي من الكتب الإسلامية ومنع ذبح الحيوانات على الطريقة الإسلامية.
إن كل هذه الفظائع التي ارتكبت باسم تعاليم الله، لاعلاقة لها بالدين باعتباره وحيا إلهيا ، ولكنها افعال ارتكبها بشر بذريعة تنفيذ أوامر الله، لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية.
وفي العصور الحديثة شهدت أوربا ما يعرف بالحروب الدينية، وجاء في الموسوعة الحرة عن هذه الحرب مايلي: يطلق اسم ‘الحروب الدينية في أوروبا’ على سلسلة من المعارك الاوربية التي حدثت في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي بعد ظهور حركة الإصلاح البروتستانتية. ورغم أن الدين لا يدخل أحيانا كسبب مباشر، إلا أن جميع هذه الحروب كانت مرتبطة بالتغير الديني في تلك الفترة والصراع والتنافس الذي أدى إليه. واستمرت الحروب الدينية بصورة متعاقبة لمدة مئة وواحد وثلاثين سنة بين عامي (1517 - 1648 م)، وجرت في سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، بوهيميا، هولندا، إنكلترا، سكوتلندا، إيرلندا، والدنمارك.
ومن أشهر الحروب الدينية حرب الثلاثين عاماً التي قامت بين الكاثوليك والبروتستانت خلال القرن الـ 17 في ألمانيا، استمرت هذه الحرب ثلاثين عاما وإنتهت بأوبئة ومجاعات وتدمير شامل بكافة النواحي عام 1648 م. وبدأت الكنيسة الكاثوليكية بما يسمى الحرب الدينية المقدسة ضد البروتستانية، حيث أبادت 40% من شعوب أوروبا الذين ينتمون للبروتستانت، وما يقرب من نصف سكان ألمانيا تحديداً، والسبب الأصلي في إندلاع هذه الحرب هى حركة الاصلاح البروتستانتية، التي قام بها الراهب الكاثوليكي “مارتن لوثر” عندما انتقد الكاثوليكية ورفض أفكارها التي يرى انها تنافي المنطق، خاصة صكوك الغفران، وامكانية شراء المناصب الدينية العليا كالمطران والباباوية، فقام البابا بإستدعاءه إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية فرفض لوثر، فقام البابا بعزله من الكنيسة ، كما أمر بإحراق كل ما خطه قلمه. (5)
إن القضية كما قلت لكم في صدر المقال أن المشكلة ليست أبدا في كلمات الله، ولكن المشكلة تكمن فيما صنعه الرجال بكلمات الله.
-----------
المراجع:
1 – قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 149، الكويت، مايو 1990، ص 90.
2 – المرجع السابق، ص 92.
3 - قاسم عبده قاسم، المرجع السابق، ص 106، وانظر أيضا محمد غريب جودة، موجز تاريخ العالم،الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومشروع مكتبة الأسرة، 2000، ص 102
4 – اعتمدنا في عرض هذا الجزء بشكل أساسي على المرجع التالي:
عبد الرحمن شيخ حمادي،محاكم التفتيش أسوأ الحقب دموية بحق المسلمين ، موقع قصة الإسلام الأليكتروني، إشراف الدكتور راغب السرجاني.مايو 2011.
5 - أميرة أحمد، الحروب الدينية في اوروبا .. وواقعنا العربي، موقع أرجيك في الرابط التالي
http://www.arageek.com/2014/11/01/religious-wars-in-europe-and-our-arabian-world.html
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: