حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4201
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ثمة فهم ملتبس ومغلوط للتدين منتشر بين قطاعات واسعة من الناس، تتجلى أبرز مظاهره في اختزال التدين في الاستغراق في أداء الطقوس والشعائر و(المظاهر) الدينية، والإهدار شبه التام للبعد العملي والسلوكي والإنساني للدين، وكأننا نتحدث عن طرفي نقيض لا يجتمعان.
والأمر اللافت للانتباه والمثير للاستغراب في ذات الوقت – استنادا إلى ذلك – أنه على الرغم من ذلك الاستغراق في الجانب الشعائري والمظهري للدين، إلا أن المجتمعات الإسلامية تحتل المراتب الدنيا في مجالات التنمية والتصنيع والإنتاج والعمل والعدالة وحقوق الإنسان، والشفافية، وهو ما يكشف عن فجوة عميقة بين الجانب الشعائري والجانب السلوكي – الإنساني، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى الدراسة التي أجراها البروفيسور حسين عسكري Hossein Askari الأستاذ بحامعة جورج واشنطن عن أكثر الدول التزاما بتعاليم الإسلام، حيث جاءت النتائج صادمة تفيد خلاصتها أن الدول الاسلامية ليست هي التي تحتل المراتب الاولى في الالتزام بتعاليم القرآن، بل أن دولا مثل إيرلندا والدانمارك ولوكسمبورغ تأتي على رأس القائمة. واحتلت ماليزيا، كأول دولة مسلمة في المؤشر الذي أنجزه البروفيسور، المرتبة 33 . (يمكن الرجوع لملخص الدراسة في التقرير الذي أوردته جريدة التليجراف البريطانية في عددها الصادر في 10 يونيه 2014 في الرابط التالي):
http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/europe/ireland/10888707/ Ireland-leads-the-world-in-Islamic-values-as-Muslim-states-lag.html )
إن الدراسة السابقة وغيرها من الدراسات تشير إلى قضية جوهرية وهي أن ثمة انفصاما حادا بين الطقوس والشعائر من جهة، والممارسات العملية الحياتية من جهة أخرى، وهو ما يعكس قصورا في فهم فلسفة الإسلام ومبادئه التي لا تركز على الشعائر في ذاتها وإنما في مدى انعكاسها في الفعل الاجتماعي بتجلياته المتعددة.
تشهد مجتمعاتنا تراجعا مذهلا للمعنى السليم للتدين والذي يمكن أن أسميه التدين العميق، واستبداله بتدين طقوسي براني قائم على الاستغراق في أداء الشعائر الدينية، وانفصال ذلك عن السلوك الواقعي، بحيث لا تتجلى فضائل الطقوس في إصلاح النفوس، ولا يظهر أثر الشعائر في ترقيق المشاعر وتنمية الضمائر. فالإيمان في الإسلام على سبيل المثال ليس مجرد شعارات براقة، ومظاهر لافتة، وإنما هو قبل ذلك سلوك (إنساني) رشيد، فكما جاء في القرآت الكريم والأحاديث النبوية الشريفة: (البر حسن الخلق) و(ليس الإيمان بالتمنى ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل). و(قل آمنت بالله ثم استقم) و (من لا تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له( و(رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش).
إن فلسفة الوجود الإنساني وفق التصور الإسلامي تقوم على جانبين مترابطين لا انفصام لهما، وهما التوحيد الخالص لله وعمارة الأرض، أي البعد العقائدي الأخلاقي، والبعد العملي السلوكي الإنتاجي الخلاق، والبعد الثاني امتداد للأول، فكل عمل عبادة، طالما كان خالصا لله ونافعا للناس.
فالتوحيد في التصور الإسلامي يمثل ذروة ما بلغته البشرية في مسيرتها بصدد تطور العقيدة، فهو لم يخلص العرب من الوثنية فحسب، وإنما عدل تعديلا جوهريا في التصورين اليهودي والمسيحي بصدد الألوهية: الاعتقاد اليهودي في إله يستوي مع البشر في صفاته الجسمية والنفسية بما يعرف بالتشبيه والتجسـيم، والتصـور المسـيحي الذي يضفي الألوهية على إنسان. جاء الإسلام وسطا بين التصورين، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (البقرة 143) ومع ارتقاء الاعتقاد كان لابد أن يرتقي فكر الإنسان، ومن ثم ترتقي الحضارة.
وهكذا يؤسس الإسلام قواعد العقيدة الصحيحة التي تمثل حجر الأساس لحياة الإنسان في الأرض ، لكي يكون خليفة، يعبد الله فيها ويعمرها، ويؤسس فيها ما يشاء من نظم اجتماعية وسياسـية واقتصادية. وبذلك تقوم الحضارة وتزدهر.
أما عمارة الأرض وفق التصور الإسلامي فهي جوهر الوجود الإنساني، حيث قدم الإسلام تصورا مغايرا للمسيحية حول تلك القضية سـواء بصدد فلسفة الحياة على الأرض أم بصدد المثل الأعلى للإنسان، فلم يكن نزول آدم إلى الأرض عقوبة على خطيئة، وإنما ليكون خليفة في الأرض دون الملائكـة،:’وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة’ ســـورة البقرة 30، ورفض الإسلام حياة الرهبنة، ليستبدل بها عمارة الأرض:’ هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها’ سورة هود 61, فالمثل الأعلى للمسلم هو العالم العامل بعد أن كان الراهب الناسك.
رفض الإسلام عقيدة الخطيئة الأولى ، واعتبرها فكرة غير عادلة، فكيف يحاسب الأبناء على خطأ ارتكبه أبوهم، وكيف لله بجلاله وعظمته أن ينزل من عليائه ويجعل نفسه ندا لآدم ذلك المخلوق الضعيف ، ألا يملك بجلالـه وعفوه ورحمته ومغفرته أن يسامح ذلك المخلوق بكلمة واحدة؟
إن آدم ( القرآني) هو الإنسان الذي أخطأ بعصيان الأمر الإلهي، ثم أدرك خطأه وتاب أمام الله بمعونة من الله:( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 37 فليس ثمة نقمة إلهية تجاه البشر،وليس ثمة خطيئة أزلية ارتكبها آدم وورثها بنوه من بعده؛ لأن ذرية آدم من عموم البشر، لم يشهدوا الخلق الأول ولم يعصوا الأمر الإلهي، ومن ثم لاتجوز محاسبتهم على ما لم يرتكبوه، حسبما تنص الآية القرآنية:( ولا تزر وازرة وزر أخرى) سورة الأنعام 164،وسورة الإسراء 15،وسورة فاطر 18، وسورة الزمر 7.
إن خلافة الإنسان على الأرض تعني – وفق التصور الإسلامي - أمرين:
الأول: المكانة المرموقة للإنســان الذي اجتمعت فيــه على حد تعبير ابن عربي (كمالات الوجـــود كلها الروحية والفكرية والمادية، بما لم يجتمع لمخـلوق آخر حتى الملائكة) ، الثاني: أن الخلافة تقتضي أن يفوض الإله – بمشـيئته المطلقة – للإنسان الحرية من أجل عمارة الأرض، بعد أن علمه – دون سائر ملائكته – الأسماء كلها ، وبالعلم اكتشف الإنسان الكون، وهكذا أشـــاع الإسلام نظرة للحياة متفائلة، بديلا عن التصور اللازم عن الخطيئة الأصلية في المسيحية.
إن الحياة الدنيا في الإسلام ليست رجسا ، بل هي من ملك الله وطيباته، فالله هو صاحب الدنيا كما هو صـاحب الآخرة، وهو خالق الحس بما يفرضه من دوافع الحياة ومطالبها، وهو فاطر طلبها في النفس . .. وإنما هي الحدود الشرعية يفرضها الله في دينه، فإن السعي في سبيل الدنيا على سنن تلك الحـدود، يمسي تحصيلا للمثوبة في الآخرة بالطاعة والإحسان.
لقد كان الإسلام ثورة عالمية عقيدية واقتصادية واجتماعية، وفكرية أيضا، وكان من البديهي أن يأتي بتصورللحياة و للتاريخ البشري في ماضيه وحاضره ومستقبله، وبمعنى آخر اكتسب الوجود الإنساني قيمة أفضل مما انطوت عليه اليهودية بنزعنها العنصرية الضـــيقة، والمسيحية التي ترى في الحياة الدنيا قنطرة عبور للأخرة ليس إلا.
وليس أدل على تبجيل الإسلام للواقع الإنساني المعيش، من اعتبار السلوك البشري إبان الحياة الدنيا هو المدخل الأساسي للحياة الأخرى، قال تعالى ‘: ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره’ سورة الزلزلة 7 -8 ، كذا دعوته الصريحة لإعمال العقل في تدبيرشئون الخلق دون حدود،(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) سورة العنكبوت 20 هذا فضلا عن تحديد مسئولية البشر وحرية إرادتهم فيما يصنعون، بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صنع الإنسان، وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق.
هكذا كانت نظرة الإسلام للحياة على الأرض بأنها ليست عقوبة على جـريمة، مع مـا يرتبط بمفهوم العقوبة من قسوة وضيق وكآبة، وإنما الحياة على الأرض مليئة بالغبطة والسـعادة في حدود المنهج الإســلامي الإنساني، ولكي تكتمل السعادة في الحياة الدنيا لابد أن يزود الإنسـان بالملكات والقدرات التي تؤهله للعيش والتفاعل والإنجاز، و العقل أهم تلك الملكات.
ورغم الوضوح الكبير في الرؤية الإسلامية لفلسفة الوجود الإنساني في الحياة على الأرض، إلا أن الواقع يدهشنا بنماذج صارخة لذلك التفاوت بين الشعائر والسلوك، فالكثير من الشباب المواظب على الصلاة والصيام وغيرهما من الفرائض لا يجد غضاضة في أن يغش في الامتحانات ما استطاع إلى ذلك سبيلا، والموظف أو المسئول في المصالح الحكومية يترك أمامه أمما من الناس لديهم حوائج لديه ليذهب لصلاة الظهر، وهو لا يعلم أن قضاء حوائج الناس من العبادة، ويتبارى الأغنياء في أداء فريضة الحج سنويا، رغم أن فرضيتها لمرة واحدة، ولو أنفق هؤلاء تلك الأموال الطائلة في بناء المدارس أو المصانع أو المشافى لكان ذلك عند الله أفضل وأحسن.
يطلق الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ فهمي هويدي مصطلح التدين المنقوص على ذلك النمط من التدين، ويرى بحق أنه يمثل ثغرة في الوعي الديني، يقول في كتابه الذي يحمل عنوان التدين المنقوص: لماذا شاع الفهم المنقوص للدين؟ لماذا أصبحنا في مواجهة تدين يفصل بين الدين والدنيا، وبين العبادة والعمل، وبين اللاهوت والناسوت؟ ثم يستطرد: إننا إذا سلمنا بأن الدين لم ينزل منقوصا، وبأن المسلمين لم يخرجوا إلى الدنيا – من دون كل البشر – معوقين فكريا، وبأن الفقه في مصادره المعتمدة لبى مصالح العباد في المعاش والمعاد حسب مفرداته، إذا سلمنا بذلك فلابد أن يكون هناك خطأ ما، ثغرة ما، تسللت منها جرثومة الفهم العليل، أو اللافهم للتعاليم الدينية.
ترى ما هذا الخطأ وما تلك الثغرة هذا ما سوف نناقشه في مقال قادم بإذن الله.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: