أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3827
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تبين لنا في الحلقة لأولى من هذه السلسلة كيف أن من الأمور الهامة التي أثارت وتثير الخلافات، وتجعل الجدل محتدما أثناء مؤتمرات الأمم المتحدة حول المرأة والأسرة والسكان، تلك المحاولة المستميتة من بعض الأطراف المهيمنة على لمنظمة لدولية لفرض بعض المصطلحات والمفاهيم الجديدة ولغريبة على كثير من الدول المشاركة في تلك المحفل والمؤتمرت، والتي تهدف – في المقام لأول - إلى عولمة المفاهيم والقيم السائدة في المجتمعات الغربية، والحضارة الغربية . . وقد بدأت بعض هذه المصطلحات والمفاهيم في الانتشار بالفعل في الأدبيات العالمية، وفي العديد – للأسف الشديد - من الكتابات والدراسات المعنية بالأسرة والمرأة وحقوق الانسان في مجتمعاتنا العربية والإسلامية،
ورأينا كيف أن هذا الإصرار من هيئة الأمم ومؤتمراتها التي تروج لها، وتعقد بين الحين والآخر على عولمة تلك القيم الاجتماعية الغريبة عن هويتنا الثقافية والحضارية، والمتمثلة في الركيزة الأصلية للمجتمع المسلم، والحصن الحصين لحماية المجتمع وسلامته واستقراره وهو الأسرة، ظهر بعدما لمست تماسك مؤسسة الأسرة وقوتها في البلاد الإسلامية،
وتناولنا في الحلقة السابقة مصطلح " الحياة غير النمطية " وبينا ما فيه من الخطورة والعوار،
وفي هذه الحلقة نتناول مصطلحا آخر من منظومة مصطلحات الأمم المتحدة المتعلقة بالاسرة، وتروج لهها في مؤتمراتها المتلاحقة، وهو مصطلح " المتحدون والمتعايشون "، وهو كما سنرى وثيق الارتباط بمصطلح " الحياة غير النمطية "،
مصطلح " المتحدون والمتعايشون " : Unions and Couples
ظهر مصطلح " المتحدين والمتعايشين " Unions and Couples لأول مرة في مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994م (1)، في نهايات القرن الماضي، وكان هذا المصطلح من أكثر المصطلحات التي أثارت الجدل داخل أروقة المؤتمر لكونه تناول حقوق " المتحدين والمتعايشين "، بعيداً عن أي إشارة أو ذكر لـمؤسسة " الأسرة " بوصفها الأساس الطبيعي والوحيد لأي مجتمع بشري،
وهو الأمر الذي تكرر في بكين واسطنبول ولاهاي، بما يعني الإصرار الواضح، والسعي الدؤوب من أجل تقنين " الشذوذ الجنسي " الذي بات معترفاً به من جانب بعض الكنائس والدول الغربية،
ولقد أيدت الأمم المتحدة في مناسبات عدة مطالب الفئة الشاذة، وأبدت استعدادها لدعم مطالبها، وفي هذا المجال جاء لقاء "ماري روبنسون" المفوضة العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة عام 1998م بالحلف الدولي للشواذ، الذي أكدت فيه ( في اعتراف واضح ) أن اهتمام الأمم المتحدة بحقوق الشواذ بدأ مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م، والذي تضمن في ثناياه حماية "حق التوجّه الجنسي "، ولقد دعمت "روبنسون" في هذا اللقاء جهود هذا الحلف، وأعلنت عزمها على تعيين مراقب خاص لمتابعة حقوق الشواذ " (2)، ومنها بطبيعة الحال حق زواج الجنس الواحد، ومكافحة القوانين المضادة للشذوذ الجنسي، على أن كل تفرقة على أساس السلوك الجنسي تعتبر غير قانونية من وجهة نظرها !!!
ومما سبق يمكن لنا أن نستشف معنى هذا المصطلح المشتبه والمضلل والضبابي " المتحدون والمتعايشون "، إذ من الواضح من السياقات التي ورد فيها في مناقشات مؤتمرات الأمم المتحدة أنه إنما يعني " زواج المثليين " (3) أي أنه يشير إلى إقامة علاقة زواج بين المنتمين إلى جنس واحد، أي زواج الرجل بالرجل، وزواج المرأة بالمرأة، وأن هذا حق من حقوق الانسان على المجتمع أن يعترف به ويقره، بل ويحميه، ولا يحق للمجتمع اتخاذ أي إجراءات تمس هذا الحق،
المساس بالمفهوم التقليدي للأسرة وتحريفه :
ولعل ذلك يحيلنا على أخطر ما حمله يحمله مصطلح " المتحدين والمتعايشين "، وهو يعترف عالميا – ولأول مرة في تاريخ الإنسانية – بزواج المنتمين إلى الجنس الواحد من بعضهم البعض وما لهذا من آثار مدمرة على مؤسسة الأسرة، ورأينا ذلك الانحراف الخطير، والتحريف المتعمد الذي طرأ على مفهوم / مصطلح " الأسرة "، فبينما نلاحظ أن وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة تروج لتعدد أنماط الأسرة، فلقد حاولت كثير من بلدان العالم، والدول العربية والإسلامية، والفاتيكان، وبعض دول أمريكا اللاتينية، والصين، التأكيد على أن الزواج هو العقد المبرم بين الرجل والمرأة، والذي يؤدي تلقائيا إلى تكوين " الأسرة " كجهاز اجتماعي مسئول عن إنجاب وتربية الأطفال، ومرة أخرى يتجدد الصراع في " مؤتمر بكين " 1995م، عندما أكدت وثيقته أن للأسرة أنواعًا وأنماطًا تختلف حسب المجتمع، وحاولت الدول المعارضة لهذا التعريف – عبثًا - إضافة وصف (التقليدية) في وصف الأسرة وأنماطها، ولم تصمد أمام موقف الدول الغربية الرافضة لإدخال كلمة (التقليدية) كوصف للأسرة وأنماطها.
وهكذا قدمت وثائق الأمم المتحدة مفهومًا للأسرة غير الذي تعارفت عليه الأديان جميعها - وهو مفهوم الأسرة القائمة على الزواج الشرعي بين ذكر وأنثى - فهي (أي وثائق الأمم المتحدة) تتحدث عن " اقتران " Coupling لا يقوم على الزواج - وهو ما يشيع في العلاقات المحرمة دينيًّا بين العشيق والعشيقة، أو بين رجلين، أو امرأتين - عند الشواذ " (4)،
ويزداد الأمر وضوحا وانكشافا وغرابة حين نعلم أن وثيقة برنامج عمل مؤتمر القاهرة للسكان لا تقف عند إباحة هذه الأشكال من " الأسرة " ، وإنما ترتب لها " حقوقًا " ، وتدعو إلى إزالة كل عقبات وألوان التمييز بين هذه العلاقات والاقترانات الشاذة والمحرمة، وبين الأسرة القائمة على الزواج، فتقول الوثيقة : " وينبغي القضاء على أشكال التمييز في السياسات المتعلقة بالزواج وأشكال الاقتران الأخرى "، واستخدمت الوثيقة لذلك مصطلحًا هو:The Family-in-all-its Forms، وجعل المؤتمر من أهدافه وضع سياسات وقوانين تقدم دعمًا أفضل للأسرة، وتسهم في استقرارها، وتأخذ في الاعتبار تعددية أشكالها.
ثم جاء بعد ذلك في الوثيقة ما يفسر هذه التعددية بمثل : زواج الجنس الواحد، والمعاشرة بدون زواج، والكل في الحقوق متساوٍ " (5)،
وهكذا نجد أنفسنا أمام مفاهيم جديدة وغريبة ومشبوهة عن العلاقات والممارسات الجنسية، ومفاهيم عن الأسرة والاقتران تجعل الجنس القائم على التراضي، والمأمون من أن يؤدي إلى الأمراض الفتاكة حقًّا لكل جسد، مثله كمثل الغذاء، لا تضبطه ضوابط الزواج الشرعي بين الذكر والأنثى، وإنما هو مباح بين الذكور والإناث دون زواج، وفي كل الأعمار، وبين المراهقين والمراهقات، وأيضًا بين الأمثال من الشاذين والشاذات،
وأخيرا نود أن نشير إلى أن بعض الأكاديميين في مجالات العلم الاجتماعي ومهن المساعدة الإنسانية عندنا ( قد ابتلعوا الطعم ) فشرعوا يستخدمون تلك المصطلحات في كتاباتهم دون مناقشتها، ونقدها وتفنيد محمولاتها القيمية من الزاوية العلمية، فرأينا مثلا أحد المنتمين إلى حقل لخدمة الاجتماعية في مصر يستخدم ذات المصطلح الذي تناولناه في هذه الحلقة وهو مصطلح " المتحدين والمتعايشين "، فكتب يقول : " تتصف ممارسة الخدمة الاجتماعية اليوم على مستوى الوحدات الصغرى " ضيقة النطاق " وهي الافراد، الزوجان، الاسر، والجماعات بالتوسع المتنوع في العديد من وجه الممارسة .............." (6)، ولم يسأل صاحبنا نفسه ما الفرق بين الزوجان والأسر، وأليس الزوجان في بداية زواجهما يكونان أسرة، أم أن الأمر يتعلق بمعنى آخر، وهو نفس المعنى الذي يشير إليه المصطلح الذي نحن بصدده، فلقد ترجم صاحبنا اللفظ Couple إلى زوجان !!! دون ان يوضح الامر او يناقشه، أو يشير إلى أصله أو منبته، وهل يوجد في ثقافتنا ومجتمعاتنا العربية الإسلامية " زوجان " خارج نطاق الأسرة، حتى يصبح هذان الزوجان من وحدات العمل المستهدفة في الخدمة لاجتماعية،
الهوامش والحوشي :
===========
(1) – وهو المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي نظمته الأمم المتحدة ( صندوق الأمم المتحدة للسكان )، والذي عقد في مدينة القاهرة، في الفترة من 5 إلى 13 سبتمبر 1994م، ويعد أكبر مؤتمر تم عقده على مستوي الحكومات في دول العالم حول السكان والتنمية، بحضور 11,000 مشارك يمثلون الحكومات، ومنظمات ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة، والمنظمات الحكومية الدولية، والمنظمات غير الحكومية، ووسائل الإعلام. وقد شاركت أكثر من 180 دولة في مفاوضات لوضع اللمسات الأخيرة لبرنامج عمل المؤتمر في مجال السكان والتنمية على مدى العشرين سنة المقبلة، وقد نتج عنه برنامج عمل عبارة عن وثيقة توجيهية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، وتضمن برنامج عمل المؤتمر، الذي تم اعتماده بالتزكية في 13 سبتمبر 1994م، استراتيجية جديدة تؤكد على الصلة الوثيقة بين السكان والتنمية، وتركز على تلبية احتياجات الأفراد من النساء والرجال، بدلاً من التركيز على تحقيق الأهداف الديموغرافية.
(2) – راجع كلا من :
- نهى قاطرجي : " قراءة في مصطلحات الأمم المتّحدة المتعلّقة بالجندر "، مجلّة المجتمع الكويتية، العدد (1634 )، في 27 ذو القعدة 1425هـ، ص : 40،
- حمدي عبيد : " قراءة في مصطلحات مشبوهة "، مجلة المنار الجديد، العدد (11)، ربيع 2000م، ص : 62
(3) – " زواج المثليين " هو زواج يعقد بين شخصين من نفس الجنس، أو من نفس الهوية الجنسية، والاعتراف القانوني بزواج المثليين يدعى المساواة في الزواج كذلك وبالخصوص من قبل مؤيديه، ولقد أصبح الموضوع يشغل العديد من الدول، خاصة منذ أواخر التسعينات وبداية القرن الواحد والعشرين، والزواج مثليي الجنس مسموح به حاليا في هولندا، بلجيكا، إسبانيا، كندا، جنوب أفريقيا، النرويج، السويد، الدنمارك، البرتغال، آيسلندا، الأرجنتين، أوروغواي، نيوزلندا، البرازيل، فرنسا، بريطانيا (إنجلترا وويلز واسكتلندا فقط)، وبعض الولايات في أمريكا والمكسيك !! وزواج المثليين المعقود في هذه الدول معترف به في إسرائيل، جزر أروبا، كوراساو، وسانت مارتن (الزواج المعقود في هولندا فقط)، هذا وتعتبر هولندا هي أول بلد يسمح للأزواج من نفس الجنس على الدخول في الزواج المعترف به قانونا، اعتبارا من عام 2001م، كما أن الزواج المدني ( وهو الزواج الذي يتم في الغالب بمعزل عن المطالب الدينية )، والشراكة المنزلية .....وأنواع أخرى للاعتراف بعلاقات الجنس المثلي موجودة في كل من : ألمانيا، أندورا، أيرلندا، كرواتيا، التشيك، فنلندا، إسرائيل، لوكسمبورغ، ليختنشتاين، سلوفينيا، سويسرا، المجر، ولايات نيوساوث ويلز، كوينزلند، تاسمانيا، وأستراليا الغربية في أستراليا، وولايات مختلفة في الولايات المتحدة "، أنظر : الموسوعة الحرة، ويكيبيديا، http://ar.wikipedia.org/wiki/
(4) - محمد عمارة : " صراع القيم بين الغرب والإسلام "، مكتبة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1997م، ص : 22 ،
(5) - الحسيني سليمان جاد : " وثيقة مؤتمر السكان والتنمية.. رؤية شرعية "، سلسلة كتاب الأمة، العدد ( 53 )، الدوحة، جمادى الأولى 1417هـ، ص : 59،
(6) – حمد محمد لسنهوري : " الممارسة العامة المتقدمة للخدمة الاجتماعية وتحديات القرن الواحد والعشرين "، ج1، دار النهضة العربية، القاهرة، 2002م، ص : 409،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: