د. أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9304
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
غاية الإنسان في الوجود – كما حددها خالق الإنسان – إنما هي تحقيق العبودية الخالصة لله عز وجل، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }( الذاريات : 56 – 58 )،
ولأجل ذلك فإن حياة الإنسان في الدنيا إنما هي رحلة سفر إلى الله تعالى، كما في الحديث : " كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل " ( صححه الألباني )(1)
ولذلك قيل أن " الدنيا دار ممر وليست بدار مقر، الزاد منها، والمقيلُ في غيرها "، تلك حقيقة راسخة من حقائق الإسلام، ولو تغافل عنها المتغافلون،
النَّاس قَدْ عَلِمُوْا أنْ لا بَقَاءَ لَهُمْ ... لَوْ أنَّهُمْ عَمِلُوْا مِقْدَارَ مَا عَلِمُوْا
ولقد حفّت الدنيا بالمحن والابتلاءات، وغمرت بالمصائب والفتن، لحكمة جليلة ذكرها الله تعالى في قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }( الملك : 2 )، وهي دار التكليف والعمل، وليست بدار النعيم والأمل، ومع ذلك فقد غفل كثير من المسلمين عن تلك الحقيقة!!! غفلوا عن قول الله تعالى : {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى }( العلق : 8 )، وقوله تعالى أيضا : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى }( النجم : 42 )، فالرجعى والمنتهى والمصير والمآل إلى الله عز وجل يوم القيامة، ليلقى كل واحد منا جزاء ما عمل وقدم،
ومن الحقائق التي ينبغي ألا يغفل عنها الإنسان أن الطريق إلى الله عز وجل – خلال تلك الرحلة - ليس مفروشا بالورود، وإنما هو مليء بالعقبات والمعوقات والأشواك والأعداء المتربصين ، ومن ثم كان لزاما عليه أن يكون على بينة ووعي ومعرفة كاملة بتلك العقبات وهؤلاء الأعداء، ليكون بإمكانه أن يتقيها ويجابهها ويجاهدها لينتصر عليها إذا ما أراد أن يضمن سلامة الوصول إلى غايته، والفوز بما يؤمل ويريد،
وهذا يعني أن الحياة الدنيا – بالنسبة للإنسان - ساحة صراع ومنازلة، علم الإنسان أم لم يعلم، رضي الإنسان أم أبى تلك هي طبيعتها وحقيقتها، ومن المبادئ الأساسية التي لا يمكن الإنتصارُ بغيرها في أي صراع مهما كان نوعه أو طبيعته :
- المبدأ القائل: " إعرِفْ عَدُوَّك تنتصر عليه "، وهذا يعني أولاً أن يكون الإنسان على وعي كامل وإدراك وبصيرة بالأعداء الذين يناصبونه العداء ويترصدون له ويتربصون به على طريقه في سيره نحو ربه،
- وبعد المعرفة والوعي والبصيرة، يتوجب على الإنسان أن يتخذ العدو عدوا، قال تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }( فاطر: 6 )، ففي الآية خبرين توسطهما أمر من الله عز وجل، أما الخبر الأول : أن يعي الإنسان ويعلم يقينا أن الشيطان عدو له، أما الأمر : فهو أن يتخذ الإنسان الشيطان عدوا، ثم يأتي الخبر الثاني ليوضح غرض الشيطان ومهمته مع الإنسان، إذ أنه يدعو أتباعه إلى الضلال ليكونوا من أصحاب النار الموقدة.، وكم من الناس يعلمون عداوة الشيطان لكنهم لا يتخذونه عدوا ولا يحذرونه وكثيرا ما يطيعونه ويتبعون خطواته،
- تحديد طبيعة كل عدو من هؤلاء الأعداء، ونقاط ضعفه ونقاط قوته، وأساليبه وحيله، ومداخله وخطواته، حتى لا يجد مدخلا عليه،
- ترتيب أولوية هؤلاء الأعداء من حيث درجة الخطورة، والقوة والضرر، ومن حيث المكر والخداع، وذلك للتعامل بداية مع الأخطر فمن هو دونه،
إن التعرف على العدو والوعي بسبله وطرائقه ومداخله وأسلحته لتجنبها وتوقيها قاعدة جليلة جاء في الشرع الحنيف تقريرها، وذلك في قول الله تعالى : {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }( الأنعام : 55 )،
وقوله سبحانه وتعالى : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }( الأنعام : 153 )،
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من كل شرّ يأخذ بها عن جادة الطريق، فكما أنه صلى الله عليه وسلم عرفنا أبواب الخير جميعها ودلنا عليه، فما ترك منها شيئا، وعرفنا أبواب الشر جميعا ونهانا عنها وحذرنا منها، وفصل القول في كل ما يبعد عن الله تعالى ويقود إلى مهاوي الردى، فجعل النجاة في اجتنابه كلِّه، صغيره وكبيره، دقيقه وجليله،
نعم إن طريق الإنسان إلى الله تعالى – في الحياة الدنيا - يرابط عليه مجموعة من الأعداء الذين يترصدون للإنسان لعرقلة سيره، وصرفه عن غايته، وإثنائه عن عزمه، وهو أمر تضافرت عليه النصوص المقدسة ، وأجمع عليه العلماء، وإن اختلفوا في طبيعة هؤلاء الأعداء وعددهم على عدة أقوال منها ما يجمل، ومنا ما يفصل، فمنهم من يجعل أعداء الإنسان خمسة وهم : ( شيطانه، نفسه الأمارة بالسوء، و حظوظ النفس المكروهة " المذمومة "، والدنيا، وإخوان السوء )، وفي ذلك ينقل العلامة " محمد الحسن الددو " حفظه الله قول المختار بن بُنى رحمه الله تعالى :
للإنسان شيطانٌ ونفسٌ وحظها ** ودنيا وإخوانٌ حميتهم خطرْ
ولله فضلٌ لا يزالُ ورحمةٌ **ومنٌ وتوفيقٌ وعفوٌ لــــمن وزرْ
إلهي اكفنا الخمس التي في اتباعها* هلاكٌ وعاملنا بخمستكَ الأُخر
فهؤلاء خمسة أعداء يحيطون بالإنسان، ويتربصون به على طريق سيره إلى غايته، ويمثلون الصوارف والشواغل التي تصرف الإنسان عن مهمته في الحياة كما أرادها له خالقه جل وعلا، وتصرفه عن أن يستغل نعمة العمر الذي منحه الله تعالى له، وأن ينتهز الفرصة لإنقاذ نفسه ولنجاته من الموقف عندما يعرض على الله، (2)،
ومن العلماء من يجعل هؤلاء الأعداء أربعة : ( إثنان خارج ذات الإنسان وهما الشيطان والدنيا، واثنان داخل الإنسان وهما النفس والهوى )، ولذلك قيل :
إنِّي بُلِيْتُ بأربْعِ ما سُلِّطُوا ** إبْلِيْسُ والدُنْيَا ونَفَّسِي والهَوَى
إلَّا لأجْلِ شَقَاوَتي وعَنَائِي ** كَيْفَ الخَلاصُ وكُلَّهُم أعدائي
ونظمها بعضهم بقوله :
إني بليت بأربـــــــع يرمينني** بالنبل قد نصبوا علي شراكاً
إبليس و الدنيا و نفسي و الهوى** من أين أرجو بينهن فكاكا
يا رب ساعدني بعفو إنني** أصبحت لا أرجو لهن سواكا
وآخر في قوله :
إني بليت بأربــــــع يرمينني** بالنبل عن قــــــــــــوس لها توتير
إبليس والدنيا و نفسي و الهوى** يا رب أنت على الخلاص قدير
وقال القرطبي : " فمن أطاع مولاه و جاهد نفسه و هواه، و خالف شيطانه و دنياه، كانت الجنة نزله و مأواه، و من تمادى في غيه و طغيانه و أرخى في الدنيا زمام عصيانه، و وافق نفسه و هواه في مناه و لذاته و أطاع شيطانه في جمع شهواته كانت النار أولى به، قال الله تعالى : {فَأَمَّا مَن طَغَى{37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا{38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى{39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى{40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{41}( النازعات : 37- 41 ) (3)
ومن العلماء من ذكر أنهم ثلاثة أعداء، وفي ذلك يقول " يحيى بن معاذ الرازي" : " أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات " (4)، وقال الحسن في قوله تعالى : {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ }( البلد : 11 )، هي والله عقبة شديدة، مجاهدة الإنسان نفسه و هواء وعدوه الشيطان،
وصفوة القول، أن ثمة أعداء للإنسان عليه أن يكون على علم بهم وأن يتخذ كافة الإحتياطات التي تمكنه من النجاة مما يدبرون له وأن يلجأ إلى ربه معتصما به، لائذا بحماه، مستجيرا به طالبا تأييده ونصرته، متوسلا إليه بصالح الأقوال والأفعال، هؤلاء الأعداء هم : قرناء السوء الذين يحسنون القبيح، ويقبحون الحسن، والشيطان، والدنيا، والنفس، والهوى، وقانا الله شر الأعداء وأيدنا بروح منه وهو ولي ذلك والقادر عليه،
الهوامش :
(1) – الحديث أخرجه البخاري ( 11 / 195 ) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال : " كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل "،
أنظر : محمد ناصر الدين الألباني : " السلسلة الصحيحة "، مكتبة المعارف – الرياض، (د.ت )، ج3، ص : 231
(2) - محمد الحسن ولد محمد الملقب بـ"الددو" الشنقيطي : " دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي "، : دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، رقم الدرس : 45، ص 6
http://www.islamweb.net
(3) - الإمام ابو عبدالله القرطبي : " التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة "، تحقيق : محمد عبد القادر عطا، المقطم للنشر والتوزيع، 2010م، ج2، ص :31
(4) - محمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية : " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين "، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1393 هـ - 1973م،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: