أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4623
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تناقلت وسائل الاتصال في الأيام الفارطة قرار الفنان المنصف ذويب بإغلاق (سيني فوق) الفضاء الثقافي الذي افتتحه قبل سنتين في الكرم نتيجة الصعوبات المالية التي عجز عن حلّها، هذا الخبر المفجع سبقه في نفس الأسبوع خبر آخر لا يقلّ عنه خطورة يتمثل في الترفيع في معاليم الخدمات التي تقدّمها المكتبة الوطنية لروّادها كما سبقهما نبأ يتعلق بتدمير دار الثقافة في قليبية وآخر يتمثل في توظيف ضريبة سنويةجديدة على الفرق المسرحية بحيث لا يمرّ أسبوع إلا وتصلنا فظائع وجرائم تُرتكب في حق الثقافة في تونس، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا تنفض الدولة أيديها من النشاط الثقافي؟ وهل أن ذلك خيار منها أو هو ناتج عن صعوبات ظرفية؟ وما هو موقع الثقافة في البناء والخطاب السياسي منذ تغيير السابع من نوفمبر إلى اليوم؟ وكيف تمت ترجمة سياسة الدولة المعلنة وخياراتها إلى أعمال فنية وأدبية؟.
في تقديري أن الثقافة لقيت من دولة الاستقلال كامل الرعاية والعناية باعتبارها خدمة تقدم للمواطن دون انتظار عائد مادي فقد شهدت السنوات الأولى للاستقلال نهوضا ثقافيا كبيرا من خلال مؤسّسات جديدة كالساتباك والنغم والدار التونسية للنشر وغير ذلك، وما زلنا لحدّ الآن نعيش على ما ترك لنا أسلافنا من رائق الشعر والفنون وجدِّيِ التأريخ وعلميِّ الدراسة، غير أن هذا الانتشار الذي لامس كامل أرجاء الوطن شهد انحسارا بعد سبعينات القرن الماضي لمّا تحولت الدولة إلى الاقتصاد الحرّ لتصبح الثقافة سلعة كباقي السلع ويقع التعامل معها على هذا الأساس فتمّ التفريط في كلّ المؤسّسات الثقافية التي كنا نفخر بها لنصل في نهاية الأمر إلى مشهد منفلت من عقاله وحالة من الفوضى أدّت إلى ما نحن فيه اليوم من هوان وضعف.
هذا التغير في التعامل مع الشأن الثقافي من خدمة إلى سلعة بجانب تعيين وزراء لا علاقة لهم بهذا الميدان كل ذلك أدّى إلى غياب رؤية استراتيجية وبوصلة تحكم عمل الوزارة التي ضمر دورها إلى مجرد جهاز إداري متكلس لا دور له سوى توزيع الهبات والعطايا على الموالين والأصدقاء والأحباب تحت ستار الدعم، وحتى لا يلقى الكلام على عواهنه أتناول بالبحث مسألة الكتاب والسياسة التي انتهجتها وزارة الثقافة إزاءه طوال العشريتين الماضيتين علما بأن الخطوط العريضة التي حكمت هذه السياسة هي نفسها نجدها في باقي المجالات الثقافية وفق ما هو رائج من أخبارها، فمن خلال معاشرتي للكتاب وعالم النشر أستطيع القول بأن ما صدر عن الوزارة منذ ما يفوق العشرين سنة لا يرتقي إلى مستوى ما كان يصدر عن المأسوف عليهما الدار التونسية للنشر والشركة التونسية للتوزيع لأن الدعم المخصّص للكتاب لم يعُد يصرف قبلا والآن إلا لاعتبارين اثنين لا ثالث لهما:
1) التوصية السياسية ولو لم تستند إلى معرفة وذلك لإرضاء رغبة هذا الطرف النافذ أو ذاك.
2) الولاءات والصداقات الشخصية مثلت العامل الأساسي لدعم أي مشروع بصرف النظر عن محتواه وجدواه وقيمته الفنية أو الأدبية.
الكتاب
بعد الاستقلال نشرت وزارة الثقافة مجموعة كبرى من المصادر والنصوص الأصلية التي بقيت لحد الآن مطلوبة ومرغوبا فيها لأهميتها وريادتها لمؤلفين تونسيين كبار من وزن خير الدين باشا وابن أبي الضياف والسنوسي والطاهر الحداد والشابي و الشيخين العاشوريين الأب والابن كما نشرت البعض من عيون النصوص التراثية للقاضي عبد الجبار والجرجاني والسيوطي وغيرهم، إلا أنه بعد تبدل الأحوال بغياب كبار المثقفين عن الوزارة وتفليس مؤسساتها أعادت وزارة الثقافة نشر ما نشر سابقا دون إضافة بقصد إيهام السلطة السياسية بأنها تنشر كتب الإصلاح والتنوير، ترى ما الذي يبرّر إعادة نشر مقدمة أقوم المسالك أو الإتحاف مصوّرين عن الطبعة الأولى وما الذي ترجوه الوزارة من فائدة لمّا تنشر الأعمال الكاملة للشيخ الحبيب بلخوجة أو فهارس فوضوية لا علمية لتفسير التحرير والتنوير في مجلدين، في ظل هذا الوضع الذي تسوده الجهالة اكتفت الوزارة بإصدار سلسلتين من الكتب:
1) سلسلة موافقات وقد استحوذ عليها جماعة قسم الحضارة بمنوبة فنشروا فيها دروس البعض من الأساتذة تحت ستار التنوير والتجديد، وأحمد الله أن السلسلة توقفت بعد أن تيقن المسؤولون وقتها أنها أصبحت أداة للارتزاق من ناحية وفي خدمة الخصوم السياسيين من ناحية أخرى.
2) سلسلة ذاكرة وإبداع وقد كان الهدف منها تمكين المواطن من التعرف على الذوات والشخصيات التونسية المغمورة وهو هدف نبيل ووطني ما في ذلك شك غير أن الاستسهال طغى على بعض كتابها الذين اكتفوا بجمع نصوص من هنا وهناك مع تقديم بسيط فضلا عن أن بعضها لم يخضع للتقييم العلمي قبل نشره فجاء خلوا من أي فائدة محشوا بأخطاء في منتهى الفظاعة كالكتاب المخصّص لمحمود بورقيبة الذي كان من المفروض أن يسحب من السوق لأنه مثل جريمة كاملة الأركان في حق الرجل وفي حق الثقافة التونسية.
أمّا مجلة الحياة الثقافية فأمرها عجيب لأن العادة أن المرء إذا تصفح مجلة يستطيع أن يحدّد الزمان والمكان الذي صدرت فيه من خلال مقالاتها غير أن مجلتنا لا علاقة لها لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا لهذا السبب لا نجد لها أثرا يذكر في الفضاء الثقافي العام لأن قراءها هم كتابها.
بجانب هذا قامت الوزارة بنشر الأعمال الكاملة لبعض الكتاب إلا أن الاختيار لم يقم على أساس أهمية الكاتب وموقعه ومدى إضافته وإشعاعه بل قامت على أسس أخرى منها التساند المهني، فالمسعدي لا يمثل إضافة أو استثناء لافتا للنظر في التاريخ الثقافي لتونس فلو لم يتول وزارة التربية ولو لم يدرج نصوصه في برامج التعليم لما سمع به أحد لأن مدونته المكتوبة متواضعة كما وكيفا(1)، ضمن نفس السياق كان من المتوقع أن تعقد سنة 2011 مائوية محمد البشروش وتنشر أعماله كاملة بنيّة التقرّب من أحد مستشاري الرئيس السابق الذي نشر كتابا عن الرجل في إطار عمل جامعي إلا أن أحداث تلك السنة أفسدت على الوزارة مخططها.
آخر ما تفتحت عليه عبقرية البيرقراطية الجامعية أن مؤسّسة الترجمة لدينا عقدت اتفاقا لترجمة دائرة المعارف الإسلامية ودفعت أموالا مهولة والحال أن المصلحة تقتضي إما ترجمة ما يخصّ تونس أو ما كتبه تونسيون فيها فتقدم بذلك خدمة لمواطنيها أما أن تعيد ترجمة ما ترجم سابقا قي مصر ولدى بعض دور النشر فتظاهر مخز بالانفتاح والتواصل لا موجب له كما أن هذه الترجمة لا حاجة تدعو إليها لأن مستعملي هذه الموسوعة هم من الأكاديميين الذين يحسنون اللسانين الفرنسي والانكليزي ولن تضيف هذه الترجمة إلا المكافآت التي ستنزل في جيوب أصدقاء المركز ومديره، ومن نوادر هذا المركز أنه ترجم ونشر ما سبقت ترجمته وانتشر بين الناس لينطبق عليه المثل العامي "يسخن في البايت".
وممّا لا يفوتني ذكره أن وزير ثقافة سابق اقتنى من مجلد صُوَر عائلية نشره صهره بما يقارب 50 ألف دينار وضعت في مخازن الوزارة ولا أدرى ما الذي حدث لها بعد تغير الأحوال، ألا يعدّ هذا فسادا ونهبا للمال العام؟.
بيت الحكمة
كان من المفروض أن تمثل هذه المؤسسة العقل والإبداع التونسيين في أجلى مظاهرهما ولكنها تحولت إلى مجرد دار ثقافة تتلى فيها النصوص ثم تطبع بعد ذلك وأعتقد أن هذا الانحراف عن دورها يعود إلى:
1) غلبة الجانب السياسي في اختيار أعضاء مجلسها العلمي ورئيسها فالأصل في هذا النوع من المؤسسات أن لا يدخلها ويتولاها سوى المشهود لهم بالمعرفة وغزارة الإنتاج الذين لهم حضور في المجامع العلمية العربية وغيرها، أما في حالتنا التونسية فإنك تجد في المجلس العلمي لبيت الحكمة من نشر 60 صفحة قبل 20 سنة ولكنه يكتسب صفة المجمعي لأن الثالوث الحاكم قرّر ذلك، أما رئيس البيت فهو من النوع الذي يصدق فيه قول الشاعر:
إِذا كانَ رَبُّ البَيتِ بِالدُفِّ مولــعــاً***فشيمَةُ أَهلِ البَيتِ كُلِهِمِ الرَقصُ
2) أما على مستوى الإنتاج والنشاط فإن بيت الحكمة لا تختلف عن أي دار ثقافة إلا بتضخم ميزانيتها التي تسمح لها باستدعاء الضيوف وسفر منتسبيها، وفي المحصلة ما الذي قدمت هذه المؤسسة في عهدها الأخير منذ أن تولاها سي عبد الوهاب بوحديبة للثقافة التونسية فحتى الموسوعة التونسية الصادرة في جزأين مثلت فضيحة بأتم ما في الكلمة من معنى حيث انفردت بجملة من الاخلالات من بينها:
- إهمالها نسبة الفصول إلى أصحابها ونشرها غفلا من ذلك والاكتفاء بجمع الكتاب في قائمة واحدة وهذه بدعة لا نظير لها إلا في بيت الحكمة وأسباب ذلك تجدونها فيما يلي.
- استحواذ بيت الحكمة على نصوص الآخرين دون علمهم والتصرف فيها بالنشر.
- الامتناع عن تمكين من نهبت نصوصهم ونشرت من حقوقهم المادية وحتى من نسخة من الموسوعة المنهوبة.
المكتبة الوطنية
خلال هذه الأيام صدر في الرائد الرسمي أمر ينصّ على الترفيع في معاليم الدخول إلى المكتبة الوطنية وغيرها من الخدمات، وقد برّرت مديرة المكتبة ذلك بمحاولتها توفير موارد مالية جديدة وكما يقول العرب ربّ عذر أقبح من ذنب فالمكتبة الوطنية أيتها السيدة المديرة هي ذاكرة الأمة ومخزونها الثقافي الذي يجب أن يبقى مفتوحا في وجه كل تونسي وتونسية ولا دور للإدارة سوى المحافظة على تراث الأمة من التلف والسرقة والعناية به ترميما وحفظا، ذاك هو الدور الذي اضطلع به مديروها السابقون سادة الكتاب والمعرفة من وزن عثمان الكعاك رحمه الله أو إبراهيم شبوح حفظه الله ومتعه بالصحة، ولأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها شغلت السيدة المديرة نفسها بالتفاهات وتركت جانبا ما أعتقد جازما أنه لا يجول لها بخاطرها ممثلا في:
1) تجميع كل المطبوعات التونسية منذ إنشاء مطبعة الرائد التونسي سنة 1860 من المكتبات الخاصة ومن غيرها في البلاد الأخرى، إذ يعلم العارفون بأن المنشورات التونسية الأولى غائبة من رصيد المكتبة الوطنية وأذكر أن الشيخ أحمد أديب المكي طبع رسالة له عن التجانية مرتين في بدايات القرن الماضي حفظتها لنا مكتبة آل النيفر وطبعت مرة ثالثة في مصر ورابعة في المغرب ولكن لا تمتلك المكتبة الوطنية أي نسخة من أي طبعة وكذا قصيدته عن التوسل بأهل بدر وغير هذا كثير ألا يكون السعي إلى توفير هذه الكتب من أبرز مشاغل السيدة المديرة، من ناحية أخرى نجد أن كتبا كثيرة تهمّ تاريخ البلاد سُرقت من الرصيد ولم يقع تعويضها من ذلك كتاب مونشيكور عن الشابية في القيروان الذي نشر سنة 1939.
2) المحافظة على رصيد الدوريات والعناية به فالكثير منه في حالة يرثى لها طالته أيدي الزمان والعابثين بالإفساد والتمزيق وأيدي الإدارة بالتلهي عنه والانشغال بالندوات المفرغة من أي فائدة أو بالسفر إلى الخارج.
3) أخبرني صديقي المرحوم أبو القاسم محمد كرو أنه أهدى المكتبة الوطنية مجموعة من التسجيلات لندوات أشرف عليها أو شارك فيها في إطار عمله في اللجنة الثقافية وهي تسجيلات نادرة لم يقع تفريغها أو استنساخها بل هي موضوعة حسب ما بلغني في فترة سابقة في صندوق في (كولوار) وتحت يدي قائمة مفصلة فيها.
4) مكتبات الدنيا جميعها تعيد نشر مجموعات المجلات لديها خصوصا منها ذات الأثر الثقافي الكبير أما لدينا فإن المكتبة لم تنشر سوى مجلة الشباب والمباحث في نسخ محدودة لأسباب غير علمية وتهمل في نفس الوقت مجلة الثريا أو الجامعة أو شمس الإسلام وغيرها.
5) اقتنت المكتبة الوطنية وثائق المرحوم محمد الصالح المهيدي ورغم أهميتها لم تجد عناية تذكر إذ وضعت في خزانتين دون جرد أو فهرست أو محافظة على الأصول فهي بذلك عرضة للتلف رغم أنها تحتوي على جملة من الوثائق الأصلية التي تهمّ الحياة الفكرية والأدبية والصحفية في النصف الأول من القرن الماضي.
جملة ما ذكرت أعلاه وإن تناول الكتاب إلا أنه ينسحب ويظهر في باقي المجالات الثقافية التي تحكمها محدّدات لم تتغير منذ 20 سنة تقريبا وهي التالية:
- إرضاء النافذين سياسيا ولو على حساب القيم العلمية والمعرفية فبعد انتخابات أكتوبر 2011 اتجه دعم الكتاب في أغلبه إلى المنشورات المروّجة لخطاب حزب حركة النهضة.
- تغليب الولاءات والصداقات والتوصيات في دعم مختلف الأنشطة الثقافية فصاحب اللسان الناقد توصد الأبواب في وجهه.
- المشهدية الاحتفالية والاعتناء بالصندوق والمظهر الخارجي بدل العناية بالمضمون من ذلك جملة من الكتب آخرها ذاك الذي نشرته الوزارة عن جريمة باردو الإرهابية.
والوضع على ما هو عليه لن تتوقف سلسلة المآسي الثقافية التي نعيشها ما لم يوجد القرار السياسي الذي يعلي من شأن خطاب وممارسة مستنيرة هدفها المحافظة على مكتسبات الأمة ممّا يخطط لها دواعش العصر وتتاره.
--------
الهوامش
1) عنه انظر "إنصافا للزيتونة والزيتونيين" لأنس الشابي، نشر دار نقوش عربية، تونس 2011، ص26 وما بعدها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: