دروس الأربعاء بمسجد الجامعة بصنعاء -2- منزلة العلم في الإسلام
أ. د / أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3792
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قال تعالى :{ .......وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } ( طه : 114 )
" يا بني : جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء " ( من وصايا لقمان لابنه )
************
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعـــد :
العلم فريضة إسلامية :
لعل من نافلة القول التأكيد على أن من أهم المهمات، وأولى الأولويات التي ينبغي على المسلم أن يعيها ويعطيها جل اهتمامه ووقته، أن يحرص على أن يتعلم أمور دينه وأن يفقه تلك الأمور، وأن يحرص على طلب علم ما تصح به عبادته وطاعته لله تبارك وتعالى، وذلك حتى تكون عبادته عن علم ودراية ووعي وفهم، وطاعته عن تمام معرفة وتبصر لا عن جهل وعدم دراية، ومن المعلوم أن هذا النوع من العلم يعد فريضة على كل مسلم ومسلمة، كطلب تعلم كيفية الصلاة والزكاة والصيام والحج، وسائر انواع العبادات الفردية والجماعية، قال " القرطبي " في الجامع لأحكام القران (1) : " طلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الأعيان؛ وفرض على الكفاية، فأما الأول ( فرض العين ) كعلم الصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات، قلت ( القرطبي ): وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي (إن طلب العلم فريضة)، روى عن إبراهيم النخعي قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طلب العلم فريضة على كل مسلم). قال إبراهيم: لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث،
وأما العلم الذي هو فرض على الكفاية ؛ فهو كعلم تحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه (2)؛ إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم؛ فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته ...ا. هـ "، ولابد من الإشارة إلى أن معنى ( فرض الكفاية ) : أن طلب هذا اللون من العلوم والمعارف، والسعي لتحصيله واجب على المجموع، بحيث يسقط بفعل الواحد من المسلمين، وإن لم يقم به أحد منهم أثموا جميعا،
فضل العلم وطلبه ومكانة العلماء في القرآن الكريم
لقد أولى القرآن الكريم قضية العلم ( طلبا ومدارسة، وتحصيلا، وتعليما ونشرا ) عناية فائقة، واهتماما خاصا لا يخفى على من له أدنى صلة بالقرآن، فلقد حث المسلم على طلب العلم وتحصيله، وبين شرفه وفضله، وجلى لنا فضل العلماء وعلو منزلتهم وما لهم من رفيع المكانة عند الله تعالي، فلقد وردت كلمة العلم ومشتقاتها في القران الكريم حوالي (645 مرة )، الأمر الذي يبرز عناية القرآن به، ومسيس الحاحه إليه، هذا والآيات القرآنية التي تمتدح العلم وتحض عليه، وتجلي شرفه وعلو شأنه وأهله كثيرة في القرآن الكريم، نشير هنا إلى نماذج منها فقط للتدليل على ماذهبنا اليه :
- يقول الله تعالى : على لسان نبي بني إسرائيل ( عندما اعترض كبراؤهم على أن يكون طالوت ملكا عليهم وقالوا : كيف يكون طالوت مَلِكًا علينا, وهو لا يستحق ذلك؟ لأنه ليس من سبط الملوك , ولا من بيت النبوة ,ولم يُعْط كثرة في الأموال يستعين بها في ملكه , فنحن أحق بالملك منه، لأننا من سبط الملوك ومن بيت النبوة ) : { قَالَ ( أي نبيهم ) إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 247 )، فانظر – يا رعاك الله – كيف بدأ بالعلم أولا، ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء، والمعنى : إن الله بسط له في العلم والجسم، ( أي وهبه زيادة وفضلا وكثرة ووفرة في العلم والجسم )، وآتاه من العلم فضلا على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب (3)، وفي هذا من فضل العلم ومكانته في التمييز بين الرجال، ومنح صاحبه مكانة خاصة، ما لا يخفى،
- وفي بيان فضل أهل العلم ومكانتهم والفرق الشاسع، والبون الواسع بينهم وبين أهل الجهالة والضلال قال تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } (الزمر:9)، قيل في معنى الاية : أن { الذين يعلمون } هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم . وقوله : {إنما يتذكر أولو الألباب } أي أصحاب العقول السليمة والأفهام السديدة من المؤمنين، فإنما يعتبر حجج الله تعالى ، فيتعظ، ويتفكر فيها فينتفع، ويتدبرها فيجني ثمرتها، إنما هم أهل العقول والحجى، لا أهل الجهل والنقص في العقول،
وقيل إن المعنى : { هل يستوي الذين يعلمون } ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون بسيئها شرا؟ يقول : ما هذان بمتساويين " (4)،
العلم حجة على العالم – العمل بالعلم :
ومعنى آخر نستشفه من الآية نفسها أيضا وهو أن العلم حجة على العالم فإذا عصى كان ذنبه أعظم، وإثمه أكبر، كما ورد في بعض الآثار أنه : " يغفر للجاهل سبعين مرة، حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم " (5)، ولذلك جاء التحذيرالشديد من عدم العمل بالعلم قال تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ( الجمعة : 5 )، أي أنه شَبَهُ اليهود الذين كُلِّفوا العمل بالتوراة ثم لم يعملوا بها, كشَبه الحمار الذي يحمل كتبًا لا يدري ما فيها, قَبُحَ مَثَلُ القوم الذين كذَّبوا بآيات الله, ولم ينتفعوا بها, والله لا يوفِّق القوم الظالمين الذين يتجاوزون حدوده, ويخرجون عن طاعته.( التفسير الميسر )،
والإنسان (ذكرا كان أم أنثى ) بالنسبة لصلته بالعلم الشرعي ( علم الكتاب والسنة ) واحد من أربع فرق :
- قوم يعلمون ويعملون بما علموا وينتفعون به وهؤلاء هم الصفوة الذين يقتدى بهم، وعلمهم حجة لهم،
- وقوم يعلمون ولا يعملون ولا ينتفعون بعلمهم، فهؤلاء علمهم حجة عليهم لا لهم، ولا سبيل لهم للنجاة إلا أن يعملوا بما علموا،
- وقوم لا يعلمون ويعملون على جهالة وعلى غير بصيرة، وهؤلاء يخشى أن تأتي أعمالهم على غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يقدح في قبولها ( إذ أن شرط قبول العمل كما نعلم أن يكون خالصا وأن يكون صوابا معا )،
- وأخيرا قوم لا يعلمون ولا يعملون وهؤلاء على خطر عظيم،
وفي هذا المعنى يروى عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال : " الرجال أربعة : رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه (غافل فنبهوه )، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لايدري فذلك جاهل فانبذوه " (احمق فاتركوه )
- بل ومن اللفتات الكريمة الدالة على تكريم العلماء وتشريفهم أن القرآن الكريم قرن شهادة العلماء بشهادة الله عز وجل وشهادة ملائكته الكرام على أجل مشهود عليه وهو توحيده تعالى وقيامه بالعدل، وذلك في قوله سبحانه : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ...... } (آل عمران:18)، وكفى بهذا شرفا ورفعة ومكانة، ففي هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء فإنه لو كان أحدٌ أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء، وقد قال جلّ شأنه في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم : {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }(طه114 )، ولذلك قالوا : فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم (6)،
ولهذا قال " ابن حجر " في فتح الباري : (وقوله عز وجل : رب زدني علما)، واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، وامتثل النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه فكان يدعو ربه : " اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد للّه على كل حال " (الحديث أخرجه ابن ماجه والترمذي والبزار عن أبي هريرة وزاد البزار في آخره: وأعوذ باللّه من حال أهل النار)، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائض، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه (7)،
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي : " العلماء ورثة الأنبياء "، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير، وأي ميراث أشرف ولا أعظم من ميراث الأنبياء،
- هذا ويقرر القرآن الكريم أن الله تعالى يرفع مكانة أهل العلم درجات كثيرة في دينهم اذا عملوا بالعلم الذي حصلوه، وفي الثواب ومراتب الرضوان, فقال تعالى في هذا الصدد : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (المجادلة 11 )، مما يدل على أن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين، قال في فتح الباري : ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة (8)،
وقال القرطبي في هذه الاية : "يرفع الله المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا "، و عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " ما خص الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم "، وعن قتادة، أنه قال : "{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} إن بالعلم لأهله فضلا، وإن له على أهله حقا، ولعمري للحق عليك أيها العالم فضل، والله معطي كل ذي فضل فضله، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } ( يوسف : 76 )، عن زيد بن أسلم قال في العمل بالعلم : " وكان عبد الله بن مطرف يقول : إنك لتلقى الرجلين أحدهما أكثر صوما وصلاة وصدقة، والآخر أفضل منه بونا بعيدا، قيل له: وكيف ذاك؟ فقال: هو أشدهما ورعا لله عن محارمه، وكان مطرف بن عبد الله بن الشخير يقول: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع،
ولا شك أن هذا يبين أن لأهل العلم كرامة ورفعة شأن في الدنيا، وثواب عظيم عند الله في الآخرة، يروى أن عبد الله ابن المبارك (9) العالم العامل قدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وازدحموا حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت: ما للناس ؟ فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له : عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه واجتمعوا حوله، فقالت المرأة: هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة، (10)،
وهذا غيض من فيض، وقطرة من بحر في شرف العلم ومكانة العلماء في منظور الاسلام، اللهم علمنا ما يتفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما،
يتبـــــــــــــع :
************
الهوامش والاحالات :
============
(1) الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي : الجامع لأحكام القرآن، عند تفسيره للآية : (وما كان المؤمنون لينفروا كافة .... ) (سورة التوبة 122) .
(2) هذا الذي ذكره الامام القرطبي هنا يتعلق بعلوم الشريعة والدين التي هي من نوع فرض الكفاية، إلا أنه يدخل أيضا تحث هذا النوع من العلم كل ما تستقيم به حياة المسلمين ومعاشهم، من العلوم الحديثة النافعة للإنسان كالعلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية التي تهدف الى اكتشاف السنن والقوانين الكونية والنفسية والاجتماعية وتسخيرها لتحسين نوعية الحياة وتطويرها وترقيتها،
(3) أنظر : - الامام القرطبي : الجامع لأحكام القران، تفسير البقرة اية : 30
- الامام ابن حجر : فتح الباري شرح صحيح البخاري، المجلد السادس، باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا.
(4) القرطبي : تفسير قوله تعالى : أمن هو قانت آناء الليل ...... الآية، سورة الزمر،
(5) الصابوني : مختصر تفسير ابن كثير، في تفسير قوله تعالى : "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " البقرة،
(6) القرطبي : تفسير الاية 18 من آل عمران،
(7) ابن حجر : فتح الباري : المجلد الأول باب فَضْلِ الْعِلْمِ.
(8) ابن حجر : فتح الباري، المجلد ةالأول، باب فضل العلم،
(9) هو العالم العامل عبد الله ابن المبارك عليه سحائب الرحمة والرضوان صاحب المناقب التي لا تحصى والفضائل التي لا تستقصى، قال عنه أبو عمر بن عبد البر: " أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله "
ومما يروى عنه أنه خرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل، فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله : كم معك من النفقة ؟ قال: ألف دينار، فقال: عدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع من حيث أتى ( الحافظ ابن كثير : البداية والنهاية : (ج/ص:10/192)،
وتأمل معي ما ينطوى عليه هذا الموقف من دروس وعبر ما أحوجنا إليها في زمان الناس هذا، فما فعل ابن المبارك ما فعل إلا لكونه فاضل ووازن بما لديه من علم ودراية وبصيرة بين ذهابه الى حج النافلة وهو عبادة لا يتعدى نفعها صاحبها، وبين إطعام الفقراء والجوعى والمساكين فاختار الثانية على الأولى، وهو درس يحتاجه المسلمون اليوم وخاصة أولئك الذين يترددون على الأماكن المقدسة لأداء الحج والعمرة كل عام تطوعا، وينفقون الملايين من أموال الأمة لهذا الغرض في الوقت الذي يتضور فيه الملايين من ابناء الامة جوعا في شتى الارجاء، ولا يجدون ما يسد رمقهم فضلا عن الحاجات الضرورية الاخرى التي حرموا منها، وكذلك أولئك الذين يوجهون جل اهتمامهم الى بناء المساجد وانشاء الزوايا في مناطق تكتظ بالمساجد والزوايا في حين لا يلتفتون الى الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام الذين يعيشون تحت خط الفقر دون أن يتوفر لهم حد الكفاف فضلا عن حد الكفاية، ومن هنا فما أحوجنا إلى فقه الموازنات، وفقه الأولويات الذي تنبه له ابن المبارك منذ مئات السنين،
ومن مناقبه أيضا – كما جاء في كتب التاريخ والسير - أنه كان إذا عزم على الحج يقول لأصحابه : من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه، فكان يأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمعها في صندوق، ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب، وحسن الخلق والتيسير عليهم، فإذا قضوا حجتهم يقول لهم : هل أوصاكم أهلوكم بهدية ؟ فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله به من الهدايا المكية واليمنية وغيرها، فاذا جاؤوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية أيضا، فإذا رجعوا إلى بلادهم بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم، ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل،
وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها، وفيها من أنواع المأكول الكثير من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم في الحر الشديد،
وسأله مرة سائل فأعطاه درهماً، فقال له بعض أصحابه: إن هؤلاء يأكلون الشواء والفالوذج، وقد كان يكفيه قطعة، فقال: والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز، فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء فإنه لا يكفيه درهم، ثم أمر بعض غلمانه فقال: رده وادفع إليه عشرة دراهم، هذا نموذج من نماذج الخير والعطاء في هذه الأمة وفضائله ومناقبه كثيرة جداً.
توفي عبد الله بن المبارك بهيت في رمضان من سنة إحدى وثمانين ومائة عن ثلاث وستين سنة، أنظر : الحافظ ابن كثير : البداية والنهاية، الجزء العاشر، ص : 191،
(10) - الحافظ ابن كثير : البداية والنهاية : ج 10، ص : 192،
***********
أ.د. أحمد يوسف محمد بشير، رئيس قسم الخدمة الاجتماعية، جامعة صنعاء
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: