|
من دلائل التكريم الالهي للإنسان ومظاهره – (1) خلقه الله تعالى في احسن تقويم وأبدع صورة
أ.د/ أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 7005
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ( التين :4 )
وقال تعالى :{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ( غافر : 64 )
-------------------------------------------------------------
عناصر الموضوع :
تمهيــد :
في مسألة أصل خلق آدم ونسله من بعده :
تغلغل الكرامة والتكريم الالهي في أصل الخلق الانساني :
الإعلان القرآني بخلق الانسان ( مطلق الانسان ) في أحسن تقويم :
1- أن الله تعالى استفتح السورة بالقسم للتأكيد على تلك الحقيقة :
2- أن جواب القسم هو بداية الانسان ( في أحسن تقويم ) ونهايته ( ثم رددناه
أسفل سافلين ) :
- بداية الانسان في أحسن تقويم :
3- من الآيات الواردة في التكريم الإلهي للإنسان في الخلقة والصورة والهيئة
الحسنة :
خلق الانسان وكمال الاتقان :
- الفطرة السليمة الصافية النقية :
3- نهاية الانسان " أسفل سافلين إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات " :
4 – الإيمان والعمل الصالح هما سبيل النجاة للإنسان من التردي :
5 - لا يجدر بالانسان المكرم أن يتشبه بالحيوانات والبهائم :
الفرق بين الخالق والبارئ :
مجموعة فوائد تتعلق بالموضوع :
-بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره :
أعد الله للإنسان قانون صيانته قبل أن يوجد اللإنسان :
- بيان الحكمة من خلق الإنسان :
-الانسان أحسن من القمر :
رأي ابن القيم في قوله تعالى " ثم رددناه أسفل سافلين " :
حرمة جسد الإنسان حيا وميتا :
من مقاصد الشريعة الاسلامية حفظ النفس الانسانية
======================================
الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله الذي خلق الإنسان خلقا فريدا متميزا ، فخلقه في أحسن تقويم، وتفضل عليه فكرمَّه غاية التكريم ، وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كبيرا ،
أما بعد :
تمهيــد :
في مسألة أصل خلق آدم ونسله من بعده :
فإن من الحقائق القرآنية الثابتة بل والراسخة في مسألة أصل خلق آدم ونسله من بعده، حقيقة أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام ( أبو البشر ) ، وخلق نسله من بعده – وإلى يوم القيامة - في أحسن تقويم ، وأكمل هيئة ، وأبهى صورة، وأعدل قوام ، وهذا من أوائل دلائل ومظاهر التكريم الرباني للانسان ، كمخلوق مكرم بكل أنواع التكريم من الله الرؤوف الرحيم ، حتى قالوا أنه ليس ثمة مخلوق مكرم حظي بهذا التكريم الإلهي مثل الانسان ،
تغلغل الكرامة والتكريم الالهي في أصل الخلق الانساني :
الإعلان القرآني بخلق الانسان ( مطلق الانسان ) في أحسن تقويم :
- ذلك أن المتدبر لآيات القرآن الكريم التي جاءت في خلق آدم ، وخلق نسله وذريته ، والمتأمل – واقعا - في هيئة الانسان وتكوين خلقته ، وعناصر هذا التكوين مما هو مشاهد بالحواس ، معلوم بالمشاهدة ، يعلم بلا شك مدى تغلغل الكرامة والتكريم الالهي في أصل الخلق الانساني ، واصطفاء الجنس البشري ، حيث يتجلى ذلك واضحا في صورة الانسان المادية ( البدنية ) ، والعقلية ، والروحية ، والنفسية ، وكيف أن كل ذلك جاء في (أحسن تقويم)،
- وفي هذا الصدد جاء البلاغ القرآني الكريم مجليا تلك الحقيقة في وضوح وجلاء منقطع النظير بحيث لا يقبل الشك ولا الريب في قول الله تعالى :{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}( التين : 4 ) ،
- جاء هذا البلاغ القرآني في سورة ( التين ) وهي سورة مكية ، حيث قال الحق تبارك وتعالى : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ{1} وَطُورِ سِينِينَ{2} وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ{3} لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ{4} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ{5} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ{6} فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ{7} أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ{8}( التين ) ،
- ولا شك أن إعادة قراءة هذه السورة الكريمة ، وتدبر آياتها ، ومطالعة ما قاله علماء التفسير في معانيها ومضامينها تجعلنا نقف على مجموعة من الملاحظات الهامة في هذا الصدد والتي نود أن نؤكد عليها وهي :
1- أن الله تعالى استفتح السورة بالقسم للتأكيد على تلك الحقيقة :
0 فالبيان القرآني الواضح الذي نحن بصدده ، والذي يقرر حقيقة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خلق في أحسن صورة ، وهيئة وتكوين وتقويم ، إن هذا الإعلان القرآني ، والبيان الإلهي إنما جاء بعد القسم الإلهي ، حيث أَقْسم الله تعالى في مطلع السورة بأربعة أشياء يعرفها الناس ويدركونها : أقسم بالتين ، وبالزيتون, وهما من الثمار المشهورة, وهما يشيران إلى بيت المقدس- وأقسم بجبل الطور "طور سيناء" الذي كلَّم الله عليه موسى تكليمًا, - وأقسم بالبد الأمين ( مكة المكرمة ) : وهو البلد الأمين من كل خوف ، ومهبط الوحي الإلهي الشريف ، قال " ابن القيم "(1) : " ...ثم أقسم بالبلد الأمين وهو مكة مظهر خاتم أنبيائه ورسله سيد ولد آدم ،
ولا شك أن ( بيت المقدس ، وجبل الطور ، ومكة المكرمة ) هي أقدس وأشرف وأطهر ثلاثة أماكن على الأرض ، يقسم الله بها جميعاً أنك أيها الانسان خلقت في أحسن تقويم على الإطلاق ، وقال بعضهم : أن الإنسان طاهر كطهارة هذه الأمكنة التي أقسم الله بها ،ومعلوم أن القسم إنما يكون بعظيم على عظيم (2) ، ولتأكيد القضية المقسم عليها ،
2- أن جواب القسم هو بداية الانسان ( في أحسن تقويم ) ونهايته ( ثم رددناه أسفل سافلين ) :
- بداية الانسان في أحسن تقويم :
- لقد أقسمالله تعالى بهذهالأماكن الطاهرة المقدسة ، علىبدايةالإنسانونهايته، فقالعن البداية :{لَقَدْخَلَقْنَاالإنسانفِيأَحْسَنِتَقْوِيمٍ} ، وقال عن النهاية : { ثم رددناه أسفل سافلين } ، فطوى حياة الانسان بدءا وختما في إعجاز موجز ، وإيجاز معجز لا يكون إلا في كلام الله عز وجل ،
0 وتعددت أقوال العلماء والمفسرين حول قوله تعالى : { في أحسن تقويم }فقيل : في أحسن وأبهى وأكمل وأجمل صورة وهيئة وتكوين ، قال " الطبري " رحمه الله في تفسيره : " في أعدل خلق، وأحسن صورة " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : " في أعدل خلق " (3) ،
وقال " ابن كثير " رحمه الله : "إنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة، سوي الأعضاء حسنها"(4) ،
وقيل أيضا : " أحسن تقويم " ، أي : منتصب القامة ، وسائر الحيوان منكب ( أي على وجهه ) إلاّ الإنسان (5) ،
وقال " ابن القيم " : { في أحسن تقويم } أي: فيأحسنصورةوشكلواعتدال ،معتدلالقامة، مستوىالخلقة، كاملالصورةأحسنمنكلحيوانسواه، والتقويم: " تصييرالشيءعلىماينبغيأنيكونفيالتأليفوالتعديل" ، وذلك صنعتهتباركوتعالىفيقبضةمنتراب، وخلقهبالمشاهدةمننطفةمنماء، وذلكمنأعظمالآياتالدالةعلى وجودهوقدرتهوحكمتهوعلمه، وصفاتكماله، ولهذايكررهاكثيراًفيالقرآنلمكانالعبرةبها ،والاستدلالبأقربالطرقعلىوحدانيتهوعلىالمبدأوالمعاد (6)
- وقال " الجزائري " في تفسيره : هذا قسم عظيم وجوابه قوله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}، ولقد تضمن هذا الجواب لذلك القسم أكبر مظاهر القدرة والعلم والرحمة وهي موجبة للإيمان بالله وتوحيده ولقائه ، وهو ما كذب به أهل مكة وأنكروه ، وبيان ذلك أن الإنسان كائن حي مخلوق فخالقه ذو قدرة قطعا وتعديل خلقه بنصب قامته وتسوية أعضائه وحسن سمته وجمال منظره دال على علم وقدرة وهي موجبة للإيمان بالله ولقائه ، إذ القادر على خلق الإنسان اليوم وقبل اليوم قادر على خلقه غدا كما شاء متى شاء ولا يرد هذا إلا أحمق جاهل (7) ،
- قال " القرطبي " في تفسيره (8) : " وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِنَّ كُلَّ شي في العالم الكبير له نظير في الْعَالَمِ الصَّغِيرِ، الَّذِي هُوَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }، وقال تعالى : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } ، فَحَوَاسُّ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْمُضِيئَةِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي إِدْرَاكِ الْمُدْرَكَاتِ بِهَا، وَأَعْضَاؤُهُ تَصِيرُ عِنْدَ الْبِلَى تُرَابًا مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ ......" ،
وقوله تعالى : {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } ( الذاريات : 21 ) ، قال في الجلالين : (وفي أنفسكم) آيات أيضا من مبدأ خلقكم إلى منتهاه وما في تركيب خلقكم من العجائب (أفلا تبصرون) ذلك فتستدلوا به على صانعه وقدرته ، وجاء في التفسير الميسر : وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى, وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم, وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه, أغَفَلتم عنها, فلا تبصرون ذلك, فتعتبرون به؟
3- من الآيات الواردة في التكريم الإلهي للإنسان في الخلقة والصورة والهيئة الحسنة :
- ولقد تكررت تلك الحقيقة وهي " تقرير خلق الإنسان في أحسن وأبهى وأكمل صورة " في العديد من المواضع في القرآن الكريم :
- منها قوله تعالى مخاطبا بني آدم إلى قيام الساعة : {......وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، وجاءت هذه العبارة في موضعين في القرآن الكريم : الأول في سورة غافر قال تعالى : {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ( غافر :64 ) ، والثاني في سورة التغابن :{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ( التغابن : 3 ) ، ولأهل العلم قولان في هذه القضية : الأول : أن المعني هنا هو آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ كَرَامَةً لَهُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ ، أما الرأي الثَّانِي : فهو يعني جَمِيعُ الْخَلَائِقِ ، أما التَّصْوِيرِ فهو التَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ ، قال القرطبي : فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَحْسَنَ صُوَرَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ : جَعَلَهُمْ أَحْسَنَ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ ، وَأَبْهَاهُ صُورَةً بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ صُورَتُهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَرَى مِنْ سَائِرِ الصُّوَرِ ، وَمِنْ حُسْنِ صُورَتِهِ أَنَّهُ خُلِقَ مُنْتَصِبًا غَيْرَ مُنْكَبٍّ ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " (9)
ومنها قوله تعالى : { يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ }( الانفطار : 7– 8 ) ، أي : يا أيها الإنسان المنكر للبعث, ما الذي جعلك تغتَرُّ بربك الجواد كثير الخير الحقيق بالشكر والطاعة,أليس هو الذي خلقك فسوَّى خلقك فعَدَلك,وركَّبك لأداء وظائفك, في أيِّ صورة شاءها خلقك؟ ( التفسير الميسر ) ، فالله تعالى هو الذي سوَّى خلقك – أيها الانسان - فعَدَلك, وجعلك مستوي الخلقة سالم الأعضاء ، وجعلك معتدل الخلق متناسب الأعضاء ليست يد أو رجل أطول من الأخرى ،
ومنها قوله تعالى :{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }( آل عمران : 6 ) ، فهو وحده الذي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء, من ذكر وأنثى, وحسن وقبيح, وشقي وسعيد, لا معبود بحق سواه, العزيز الذي لا يُغالَب, الحكيم في أمره وتدبيره.
ومنها قوله تعالى :{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ( غافر :64 ) ، وخلقكم في أكمل هيئة وأحسن تقويم, وأنعم عليكم بحلال الرزق ولذيذ المطاعم والمشارب, ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم هو ربكم, فتكاثر خيره وفضله وبركته, وتنزَّه عمَّا لا يليق به, وهو ربُّ الخلائق أجمعين.
ومنها قوله تعالى :{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ( التغابن : 3 ) ، أي : خلق الله السموات والأرض بالحكمة البالغة, وخلقكم في أحسن صورة, إليه المرجع يوم القيامة, فيجازي كلا بعمله.
ومنها قوله تعالى : وقال تعالى : {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } ( الاعلى: 2 ) ، أي : الذي خلق المخلوقات, فأتقن خلقها, وأحسنه,
ومنها قوله تعالى :{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى } ( القيامة : 38 ) ، أي : ثم صار قطعة من دم جامد، فخلقه الله بقدرته وسوَّى صورته في أحسن تقويم؟( التفسير الميسر ) ،
ومنها قوله تعالى : وقال تعالى : { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ( المؤمنون : 14 ) ، أي : ثم خلقنا النطفة علقة أي: دمًا أحمر, فخلقنا العلقة بعد أربعين يومًا مضغة أي: قطعة لحم قَدْر ما يُمْضغ, فخلقنا المضغة اللينة عظامًا, فكسونا العظام لحمًا, ثم أنشأناه خلقًا آخر بنفخ الروح فيه, فتبارك الله, الذي أحسن كل شيء خلقه ( التفسير الميسر ) ،
ومنها قوله تعالى :{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ( آل عمران : 6 ) ، أي : هو وحده الذي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء, من ذكر وأنثى, وحسن وقبيح, وشقي وسعيد, لا معبود بحق سواه, العزيز الذي لا يُغالَب, الحكيم في أمره وتدبيره ( التفسير الميسر ) ،
وصفوة القول : أن الإنسان مخلوق فريد ، خلقه الله عز وجل بقدرته ، وجعله متفردا متميزا بين سائر مخلوقاته ، ولقد حدثنا القرآن عن تلك القضية حديثا حاسما جازما ، وبينها بيانا واضحا شافيا ،
- وهكذا فمع كل ما في الكون من حسن وجمال ، ومع كل ما في الكون من حسن مظهر ومن إتقان واتساق وإبداع ، ولكن الإنسان ميزه الله تعالى بأروع وأفضل خلقة : ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، (التين، 4)، وفي آية أخرى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، (المؤمنون، 14) فأنت أيها الإنسان أفضل موجود عند الله تعالى ،
إن من الآراء من ضيق المعنى وقصر " أحسن تقويم " على الجانب المادي والتركيبة الجسدية للإنسان ، ومنهم من وسعه ليشمل الجانب المادي والجانب المعنوي ، فالانسان خلق في أحسن تقويم جسدا وهيئة ، وروحا وعقلا ،
- وتجدر الإشارة والتنبيه إلى أن من الأخطاء اللفظية الشائعة بين كثير من الناس قولهم : " فلان شكله غلط " هذا اللفظ من أعظم الغلط الجاري على ألسنة بعض المترفين ، عندما يرى إنسانا لا يعجبه ؛ لما فيه من تسخط لخلق الله ، وسخرية به ، ويتعارض صراحة مع قول الله تعالى : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك } ، وقوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم }،
خلق الانسان وكمال الاتقان :
- إن في خلق الخلق عموما ، والانسان بوجه خاص ما يدل على وجود الخالق جل جلاله بدلالة الإتقان ؛ فكلّ مخلوقٍ يحمل من كمال الإتقان ما يدلّ على وجود خالقه وكمال ذاته وصفاته ، قال تعالى : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } ( النّمل : 88 ) ، أي : وهذا مِن صنع الله الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقنه ، وقال تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ( السّجدة : 7 ) ، أي : الله الذي أحكم خلق كل شيء, وبدأ خَلْقَ الإنسان, وهو آدم عليه السلام من طين.
- وثمة ملمح آخر نستشفه من خلق الله تعالى للإنسان في أحسن تقويم ، ويتمثل هذا الملمح في أن الله تعالى الذي اصطفى الإنسان من بين مخلوقاته ليكون خليفة في أرضه ، خلقه خلقاً متميزاً وفريداً؛ ليتمكن من حمل الأمانة التي أوكلها الله إليه ،وحملها الانسان مختارا طائعا ، آلا وهي تحقيق الاستخلاف في الأرض ،وعمارتها ، في إطار تحقيق العبودية الخالصة ، العبادة لله وحده في مفهومها الشامل ، ولذلك كان من الطبيعي أن يزوده الله تعالى ( الخالق جل جلاله ) بكل ما يلزمه من أدوات ووسائل ؛ليتمكن من تحقيق الغاية التي خلق من أجلها، فأصبح بما وهبه الله من هذه القدرات والاستعدادات والإمكانات في أحسن صورة، ولكن في حال استخدامها للغاية التي خلق من اجلها وهي تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى ،أما أولئك الذين تنكبوا الطريق ، وابتعدوا عن النهج الإلهي، وتمردوا على الغاية التي خلقوا من أجلها فإنهم لم يعودوا في أحسن تقويم ، وإنما وصفهم الباري جل جلاله بوصف آخر ، قال تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ(5)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ( التين : 5-6 ) ،
وهذا يعني أن الذين حافظوا على أصل فطرتهم، واتبعوا ما أمرهم الله تعالى به ، والتزموا منهج الله تعالى ، واتبعوا ما أنزل إليهم ، فقد حافظوا على وسام التكريم الذي اختصهم الحق جل وعلا به ، وهم الذين استحقوا ثبات وصف " أحسن تقويم " في حقهم ،
- إن الله تعالى حدثنا عن خلق آدم عليه السلام فقال : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }(ص:71- 72) ، أي : فإذا سوَّيت جسده وخلقه ونفخت فيه الروح، فدبت فيه الحياة, فاسجدوا له سجود تحية وإكرام, لا سجود عبادة وتعظيم؛ فالعبادة لا تكون إلا لله وحده. وقد حرَّم الله في شريعة الإسلام السجود للتحية ،
- الفطرة السليمة الصافية النقية :
إن هذه التسوية التي يقررها قوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي }يرشد إليها قول الله تعالى الذييوضح معنى هذه التسوية : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(التين:4) ، هذه هي التسوية والتعديل الأول في خلق الانسان، أما التسوية والتعديل اللاحق في كل مخلوق، أن يفطر الناس جميعا على الفطرة الأولى قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }(الروم:30)، هذه التسوية أيضا مظهر من مظاهر التكريم لآدم عليه السلام ولذريته من بعده ،
- ولذلك يرى بعض أهل العلم أن مما يشير إليه قوله تعالى : " أحسن تقويم " أي خلقه على الفطرة النقية الصافية ، ذلك أن " الإسلام لا يعتبر الإنسان بوجوده، موجوداً عاصياً ومذنباً، بل ينظر إليه بوصفه موجوداً فطريًّا مهما احتجبت وتلوثت تلك الفطرة فيه نتيجة الغفلة والنسيان والذنوب ، وهذا هو مقتضى قول الباري عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، والأديان والرسالات والتشريعات السماوية، جاءت لتظهر هذه الحقيقة المغروسة ( المركوزة ) والموجودة في جوهر الوجود الإنساني ، قال تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }( الروم : 30 ) ،
ومن هنا، كان من الطبيعي أن يدعونا الإسلام وقبل كل شيء إلى استحضار تلك المعرفة المغروسة في أعماق نفوسنا، وبسبب أهمية تلك المعرفة في رسم السعادة الإنسانية فإن الإسلام خاطب الإنسان بوصفه صاحب عقل لا صاحب إرادة فقط، فإذا كان التمرد على الله وهو الذنب الأكبر عند المسيحية ناشئاً من الإرادة، فإن الغفلة تشكل الذنب الأكبر في الإسلام، والتي تكون نتيجتها عدم قدرة العقل على تشخيص الطريق الذي رسمه الله للناس، ولأجل ذلك، فإن الشرك من أعظم الذنوب التي لا تغتفر، وهو بعبارة أخرى يساوي إنكار التوحيد " ،فالرؤية الإسلامية للإنسان، قائمة وبشكل جوهري، على أن الإنسان بعقله وإرادته وقلبه وبكيانه كله، لا بد أن يكون عبداً حقيقيًّا ومخلصاً لله سبحانه وتعالى، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه ويُسلِّم تسليماً مطلقاً للواحد الأحد (10) ،
وعلى هذا الرأي يكون " أحسن تقويم " أي تلك الفطرة الالهية التي هي في حقيقتها " التوحيد ومعرفة الله تعالى " ، فإذا ما تلوثت تلك الفطرة وانتكست وتشوهت ، وإذا ما غفل الانسان عن تلك الحقيقة ، دون أن يعود الانسان إلى ربه فإنه بذلك يكون قد ارتد أسفل سافلين !!!
3- نهاية الانسان " أسفل سافلين إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات " :
- وفي قوله تعالى :{ثم رددناه أسفل سافلين }: قولان رئيسيان للعلماء والمفسرين ،
0 أما الأول : فلقد قيل : " رد الانسانإلى أرذل العمر حتى يخرف ويصبح لا يعلم بعد أن كان يعلم " ( ايسر التفاسير ) ، وأرذل العمر ، هو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، حتى يصير كالصبي في الحال الأول ؛ قاله الضحاك والكلبي وغيرهما ، وهو كقوله تعالى : {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} ( يَس : 68 ) أي : ومن نُطِلْ عمره حتى يهرم نُعِدْه إلى الحالة التي ابتدأ منها حالة ضعف العقل وضعف الجسد, أفلا يعقلون أنَّ مَن فعل مثل هذا بهم قادر على بعثهم؟
وعلى هذا القول يكون المعنى : ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسفلَ مَن سفُلَ في حُسن الصورة والشكل حيث ننكسه في خلقه ، فقوَّس ظهره بعد اعتداله ، وابْيَضَّ شعره بعد سواده ، وتكمش جلده ، وكَلّ سمعه وبصره. (11)
وأما القول الآخر : وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلى النار ، يعني الكافر ،0 أي : " جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح ، وأسفل من كل سافل ، وذلك لعدم جريانه على موجب ما خَلَقَه عليه من الصفات ، التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين " (12)،
وقال أبو العالية : لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها ، طغى وعلا ، حتى قال : {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وحين علم اللّه هذا من عبده ، وقضاؤه صادر من عنده ، رده أسفل سافلين ؛ بأن جعله مملوءا قذرا ، مشحونا نجاسة ، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا ، على وجه الاختيار تارة ، وعلى وجه الغلبة أخرى ، حتى إذا شاهد ذلك من أمره ، رجع إلى قدره ،
وقرأ عبد الله : {أسفل السافلين}، وقال : {أسفل سافلين} على الجمع ؛ لأن الإنسان في معنى جمع ، ولو قال : أسفل سافل جاز ؛ لأن لفظ الإنسان واحد ، وتقول : هذا أفضل قائم ، ولا تقول أفضل قائمين ؛ لأنك تضمر لواحد ، فإن كان الواحد غير مضمر له ، رجع اسمه بالتوحيد والجمع ؛ كقوله تعالى : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، وقوله تعالى : {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}،
وقد قيل : إن معنى {رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي رددناه إلي الضلال ؛ كما قال تعالى : {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إلا هؤلاء ، فلا يردون إلى ذلك.
0 أن الاستثناء على قول من قال {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}: النار متصل ، ومن قال : إنه الهرم فهو منقطع.
- وقيل أيضا في معناها : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحاً وعقلاً ، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى (13) ،
4 – الإيمان والعمل الصالح هما سبيل النجاة للإنسان من التردي :
واستثنى الحق جل جلاله من هذه النهاية المقررة في قوله تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}، على القولين السابق الاشارة إليهما : النار للكافر ، أو أرذل العمر لعموم الناس ، استثنى من تلك النهاية الفريق الذي تمسك بالإيمان ، وتحلى بالعمل الصالح في كل ما يأتي وكل ما يدع ، فقال تعالى : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ،
فعلى قول من قال أن { أسفل سافلين } أي الكبر والهرم ، فإن الاستثناء منقطع ، أي أن قوله تعالى : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يعني أن تكتب لهم حسناتهم ، وتمحى عنهم سيئاتهم ؛ قاله ابن عباس ، قال : وهم الذين أدركهم الكبر ، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم ، وروى الضحاك عنه قال : إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة ، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه ؛ أجرى اللّه عز وجل له ما كان يعمل في شبابه ، وفي الحديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " إذا سافر العبد أو مرض كتب اللّه له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا"(14)
وقيل أيضا : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنه لا يخرف ولا يهرم ، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به ، وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال : " من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر" ، وفي الحديث : "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله" (15)
وعلى هذا يكون المعنى : لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى ، فلهم ثواب غير منقطع ، لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاقّ والقيام بالعبادة ، خصوصاً وقت الكبر ،
وروي : إن العبد المؤمن إذا مات أمر اللّه ملكيه أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة ، ويكتب له ذلك ،
{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال الضحاك : أجر بغير عمل ، وقيل غير مقطوع.
- قال " الجزائري " : وقوله ثم رددناه أسفل سافلين وذلك بهرم بعض أفراده والنزول بهم إلى ما أسفل من سن الطفولة حيث يصبح الرجل فاقدا لعقله وقواه فيفقد قواه العقلية والبدنية ، وقوله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} وهو أن ما كانوا يقومون به من الفرائض والنوافل وسائر الطاعات والقربات لا ينقطع أجرهم منها بكبرهم (16) ، وعدم قيامهم بها في سن الشيخوخة والهرم والخرف بخلاف الكافر والفاجر والفاسق فليس لهم أعمال لا تنقطع إلا من سن منهم سنة سيئة فإن ذنبه لا ينقطع ما بقى من يعمل بتلك السنة السيئة (17) ،
وعلى القول الثاني : فالاستثناء متصل ، أي إلا من آمن ، فالمعنى إذا: ثم رددناه إلى النار إن لم يطع الله , ويتبع الرسل , كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا ، إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه ، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي ، أو فاجر شقي ، الناس كلهم بنو آدم و آدم خلق من التراب " (18) ،
5 - لا يجدر بالانسان المكرم أن يتشبه بالحيوانات والبهائم :
- لما كان مما قيل في قوله تعالى : { فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } أن الانسان خلق على هيئة مكرمة فريدة متميزة ، بحيث يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه ، ويأكل بيديه - وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ، ويأكل بفمه - وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا ، يفقه بذلك كله وينتفع به ، ويفرق بين الأشياء ، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية ، فالانسان يتميز عن غيره من المخلوقات بالأكل باليدين والعمل بهما، وذلك لا يستطيعه غالب الحيوان ، ولما كان ذلك كذلك كان من المعيب أن يتشبه الآدمي بالبهائم ، ولذلك نهانا الشرع الحنيف عن مشابهة عدد من هيئات البهائم وحركاتها في الصلاة ، لما في ذلك من منافاة الخشوع أو قبح الهيئة التي لا تليق بالمصلي ، ومما ورد في ذلك في السنة المشرفة : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة عن ثلاث : عن نقر الغراب ، وافتراش السبع ، وأن يوطن الرجل المقام الواحد كإيطان البعير" (19)
قال شراح الحديث : وقوله : " عن نقر الغراب " هو تخفيف السجود بحيث لا يمكث فيه الا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله ، وقوله : " وافتراش السبع " هو أن يبسط ذراعيه في السجود ولا يرفعهما عن الأرض كما يبسط السبع والكلب والذئب ذراعيه والافتراش افتعال من الفرش ، وقوله : " وأن يوطن ........الخ " ، أي أن يتخذ لنفسه من المسجد مكانا معينا لا يصلي الا فيه كالبعير لا يبرك من عطنة الا في مبرك قديم ، وقيل معناه أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا به يصلي فيه كالبعير لا يُغير مناخه فيوطنه (20)
وفي رواية من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:نهاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب،والتفات كالتفات الثعلب " (21) ،
فوائد تتعلق بالموضوع :
الفرق بين الخالق والبارئ :
قال " الشعراوي " في خواطره : " الخالق شيء والبارئ شيء آخر. . خلق أي أوجد الشيء من عدم. . والبارئ أي سَوَّاهُ على هيئة مستقيمة وعلى أحسن تقويم. . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} (الأعلى : 2 – 3 ) ، أي : الذي خلق المخلوقات, فأتقن خلقها, وأحسنه, والذي قدَّر جميع المقدرات, فهدى كل خلق إلى ما يناسبه , ومن هنا نعرف أن الخلق شيء والتسوية شيء آخر. . و " البارئ " و " بارئكم " مأخوذة من برئ السهم. . وبرئ السهم يحتاج إلى دقة وبراعة (22) ،
-بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره :
- أن الإنسان بعد أن تبين له هذا التكريم الإلهي ، وعلم ما حباه الله تعالى به من حسن الخلقة ، وكمال الهيئة ، وجمال الصورة ، واعتدال القوام ، وبعدما علم حقيقة هذا التكريم الذي اختصه به خالقه ومولاه ، عليه أن يختار لنفسه : أنْ يكون كريماً على نفسه كما كرَّمه الله تعالى ، فيسمو بها ، أو أنْ ينزل بها إلى الحضيض ، فنفسك أيها الانسان حيث تجعلها أنت ، فإن شئت فاجعلها في أعلى عليين ، أو إن شئت فأسفل سافلين ، فانظر لنفسك منزلة من المنزلتين ، ومما يروى عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : " الانسان حيث يضع نفسه ، فإن وضعها اتضعت و إن رفعها ارتفعت " ، ويالها من مقولة تربوية نافعة ، وحكمة بالغة ، فكلّ إنسان يمكن أن يضع نفسه في الموضع الذي يُريده، فكما يمكنه أن يكون صادقاً مع الصادقين ، يمكنه أن يكون كاذباً مع الكاذبين ، وكما يمكنه أن يكون محبّاً للخير له وللآخرين ، يمكنه أن يكون محبّاً للشرّ، .......وهكذا ،
أعد الله للإنسان قانون صيانته قبل أن يوجد اللإنسان :
- أن الحق سبحانه وتعالى حينما جعل الإنسان خليفة في الأرض ، خلق له الكون بكل ما مفيه ومن فيه قبل أنْ يخلقه ، فطرأ الإنسان على كون مُعَدٍّ لاستقباله مسخر له ، فيه كافة مُقوِّمات بقاء الحياة ، ومُقوِّمات بقاء النوع ، ثم أعدَّ له أيضاً قانون صيانته ، بحيث إنْ أصابه عطب استطاع أنْ يصلحه ، هذا القانون هو منهج الله سبحانه وتعالى المحفوظ في كتابه الكريم ، ولذلك قال الحق سبحانه: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} ( الرحمن : 1 – 4 ) ، فانظر كيف سبق القرآن خلق الانسان ، فقانون الصيانة في القرآن موجود قبل أنْ يخلق الإنسانَ ؛ لأن الإنسان خَلْق الله وصَنْعته خلقه الله سوي التكوين في أحسن تقويم ، وعلى أحسن هيئة ، ويريد له أنْ يظل هكذا سويَّ التكوين في كل شيء ، فإذا ما خرج هذا الخليفة المخلوق لله على قانون صيانته ، فإنه ولا شكَّ لا بُدَّ أنْ يغضب الله ، لأن الله يريد أنْ تظلَّ صنعته جميلة ، كما أبدعها سبحانه.
-أن من عطاءات قوله تعالى {أسفل سافلين } :أن من غفل عن الله واتبع شهوته ردّ إلى أرذل العمر كي لا يعلم بعد علم شيئا ، فإذا مات استحق النار يتعذب بها إلى أبد الآبدين، لذلك فإن هذا الذي آمن وعمل الصالحات خط بيانه صاعد ، بينما كل الخلق الشاردين عن الله عز وجل خط بيانهم نازل ينتهي عند الموت ، وبعد الموت إلى جهنم وبئس المصير ، بينما المؤمن الذي عمل الصالحات خط بيانه صاعد صعوداً مستمراً ، والموت نقطة على هذا الخط الصاعد " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " هؤلاء لا يردون إلى أسفل سافلين، هؤلاء في أعلى عليين في الدنيا والآخرة ، لذلك قال بعض العلماء: المؤمن لا يشيخ أبداً، يضعف جسمه، وينحني ظهره، ويضعف بصره، ويشيب شعره، ولكنه لا يشيخ، لأن هدفه كبير، وعزمه متين.
-بيان الحكمة من خلق الإنسان :
فالانسان خلق ليبتلى بعد ما أنار الله له الطريق, عن طريق الوحي, وأحسن خلقه ، هنا يأتي الابتلاء والاختبار إما شاكرا وإما كفورا, {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }( الإنسان2 ) ، أي : إنا خلقنا الإنسان من نطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة, نختبره بالتكاليف الشرعية فيما بعد, فجعلناه من أجل ذلك ذا سمع وذا بصر؛ ليسمع الآيات, ويرى الدلائل,فأمّا الذي يأخذ بنور الوحي, ويستقيم على أمر الله ومنهجه ، فهذا الذي لا ينقطع عمله ، وأما الذي اختار هواه وابتعد عن طريق الرشاد وعن طريق الاستقامة بأن انحرف عن ذلك فهذا الذي رده الله عز وجل إلى أسفل سافلين ،
إن أحكم الحاكمين لا يمكن أن يخلق الناس عبثا، ولا لهوا ولا لعبا حاشا لله ، وهذا ما ينبغي أن يعلمه الانسان يقينا ويعرف حكمة خلقه ، والغاية التي لأجلها خلق ، إن الله سبحانه وتعالى خلقك ليبتليك ويختبرك، الله سبحانه وتعالى بعد أن أقام لك الحجة عن طريق الأنبياء وعن طريق البيان وعن طريق الخلق السوي الذي خلقك عليه، {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)8( }( الانفطار : 7-8 ) ، بعد ذلك طالبك بأن تكون على وفق هذا الدين ، وهو ما تقتضي به حكمة الخالق الرب جل جلاله , الذي هو أحكم الحاكمين،
-الانسان أحسن من القمر :
- قال القرطبي في تفسيره (23) : " ..... كَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ يُحِبُّ زَوْجَتَهُ حُبًّا شَدِيدًا فَقَالَ لَهَا يَوْمًا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ مِنَ الْقَمَرِ، فَنَهَضَتْ وَاحْتَجَبَتْ عَنْهُ، وَقَالَتْ: طَلَّقْتَنِي!. وَبَاتَ بِلَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى دَارِ الْمَنْصُورِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَأَظْهَرَ لِلْمَنْصُورِ جَزَعًا عَظِيمًا، فَاسْتَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ وَاسْتَفْتَاهُمْ. فَقَالَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ: قَدْ طُلِّقَتْ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ سَاكِتًا. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. يَا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شي أحسن منه. فقال المنصور لعيسى ابن مُوسَى: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ، فَأَقْبِلْ عَلَى زَوْجَتِكَ. وَأَرْسَلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إِلَى زَوْجَةِ الرَّجُلِ: أَنْ أَطِيعِي زَوْجَكِ وَلَا تَعْصِيهِ، فَمَا طَلَّقَكِ ، فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، جَمَالَ هَيْئَةٍ، وَبَدِيعَ تَرْكِيبٍ الرَّأْسُ بِمَا فِيهِ، وَالصَّدْرُ بِمَا جَمَعَهُ، وَالْبَطْنُ بِمَا حَوَاهُ، وَالْفَرْجُ وَمَا طَوَاهُ، وَالْيَدَانِ وَمَا بَطَشَتَاهُ، وَالرِّجْلَانِ وَمَا احْتَمَلَتَاهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ: إِنَّهُ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ، إِذْ كُلُّ مَا في المخلوقات جمع فيه "
وقال أبو العالية (24) : إنه لمَّا وصف الله تبارك وتعالى هذا الإنسان بتلك الصفات الجليلة، فإن هذا الإنسان طغى وعلا، حتى قال واحد منهم أنا ربكم الأعلى، وحين علِم الله من هذا العبد هذا الحال ردَّه أسفل سافلين بأن جعله مملوءًا بالقذر، مشحونًا بالنجاسات،وهكذا صار بعد أن كان هذا الإنسان بهذه الصفات الجليلة، ردَّه إلى أسفل سافلين،
وهذا يراه الإنسان منَّا في الموقف التالي : " مر المهلب على مالك بن دينار متبخترا ، فقال : أما علمت أنها مشية يكرهها الله إلا بين الصفين ؟ ! فقال المهلب : أما تعرفني ؟ قال : بلى ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة . فانكسر ، وقال : الآن عرفتني حق المعرفة " (25) ،
رأي ابن القيم في قوله تعالى " ثم رددناه أسفل سافلين " :
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن أورد قولي أهل العلم في معنى أسفل سافلين (26) : ( النار ، أو الهرم ) : " ....والصواب القول الأول ( أي النار ) لوجوه: أحدها : أن أرذل العمر لا يسمى أسفل سافلين ، لا في لغة ولا عرف ، وإنما أسفل سافلين هو سجين الذي هو مكان الفجار ، كما أن عليين مكان الأبرار ، الثاني: أن المردودين إلى أرذل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليل جداً ، فأكثرهم يموت ولا يرد إلى أرذل العمر ،الثالث: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في رد من طال عمره منهم إلى أرذل العمر ، فليس ذلك مختصاً بالكفار حتى يستثنى منهم المؤمنين ،الرابع : أن الله سبحانه لما أراد ذلك لم يخصه بالكفار بل جعله لجنس بني آدم فقال : {ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا}، فجعلهم قسمين قسماً متوفى قبل الكبر ، وقسماً مردوداً إلى أرذل العمر ولم يسمه أسفل سافلين ، الخامس: أنه لا تحسن المقابلة بين أرذل العمر وبين جزاء المؤمنين ، وهو سبحانه قابل بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان ، فجعل جزاء الكفار أسفل سافلين ، وجزاء المؤمنين أجراً غير ممنون ، السادس : أن قول من فسره بأرذل العمريستلزم خلو الآية عن جزاء الكفار وعاقبة أمرهم ، ويستلزم تفسيرها بأمر محسوس ، فيكون قد ترك الأخبار عن المقصود الأهم ، وأخبر عن امر يعرف بالحس والمشاهدة ، وفي ذلك هضم لمعنى الآية وتقصير بها عن المعنى اللائق بها ،السابع: أنه سبحانه ذكر حال الإنسان في مبدأه ومعاده ، فمبدؤه خلقه في أحسن تقويم ، ومعاده رده إلى أسفل سافلين أو إلى أجر غير ممنون ، وهذا موافق لطريقة القرآن ، وعادته في ذكر مبدأ العبد ومعاده ، فما لأرذل العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه ،الثامن: أن أرباب القول الأول مضطرون إلى مخالفة الحس ، وإخراج الكلام عن ظاهره والتكلف البعيد له فإنهم إن قالوا إن الذي يرد إلى أرذل العمر هم الكفار دون المؤمنين كابروا الحس ، وإن قالوا إن من النوعين من يرد إلى أرذل العمر احتاجوا إلى التكلف لصحة الاستثناء ، فمنهم من قدر ذلك بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل اعمالهم إذا ردوا إلى أرذل العمر ، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة ، فهذا وإن كان حقاً فإن الاستثناء إنما وقع من الرد لا من الأجر والعمل ، ولما علم أرباب هذا القول ما فيه من التكلف خص بعضهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقراءة القرآن خاصة فقالوا من قرأ القرآن لا يرد إلى أرذل العمر ، وهذا ضعيف من وجهين أحدهما أن الاستثناء عام في المؤمنين قارئهم وأميهم وأنه لا دليل علىما ادعوه وهذا لا يعلم بالحس ولا خبر يجب التسليم له يقتضيه والله أعلم ، التاسع: أنه سبحانه ذكر نعمته على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم وهذه النعمة توجب عليه أن يشكرها بالإيمان وعبادته وحده لا شريك له فينقله حينئذ من هذه الدار إلى أعلى عليين فإذا لم يؤمن به وأشرك به وعصى رسله نقله منها إلى أسفل سافلين وبدله بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم صورة من أقبح الصور في أسفل سافلين فتلك نعمته عليه ، وهذا عدله فيه وعقوبته على كفران نعمته ،العاشر: أن نظير هذه الآية قوله تعالى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} فالعذاب الأليم هو أسفل سافلين ، والمستثنون هنا هم المستثنون هناك والأجر غير الممنون هناك هو المذكور هنا والله أعلم.
من مقاصد الشريعة الاسلامية حفظ النفس الانسانية
حرمة جسد الإنسان حيا وميتا :
- علمنا أن الله تعالى كرم الإنسان وسواه وعدله ، وفي أي صورة ما شاء ركبه ، وخلقه في أحسن وأعدل تقويم ، وجهزه بجسم عجيب متفردج في هيئته وتكوينه ، لا يزال العلم يكشف كل يوم جديد أسراره ، مما يؤكد كل حين طلاقة قدرة الخالق العظيم جل جلاله ،
ولقد جعل الله لكل جزء من بدن الانسان وظيفة بل وربما عدة وظائف ، فليس ثمة أعضاء زائدة أو غير مفيدة ، فاجتمع في الإنسان حسن التقويم ، ودقة الصنع ، وكمال الأداء.
ولقد تضافرت أدلة الشريعة القاطعة على تأكيد حرمة جسد الإنسان ، وعصمة دمه وتحريم الاعتداء عليه بأي نوع من أنواع العدوان ،
وأجمعت البحوث التي عالجت هذه القضية على القول : " إن تنويه الإسلام بقدسية الإنسان وكرامته، ورعاية الشريعة الإسلامية لذلك في سائر الأحكام، حقيقة ثابتة لا يرتاب فيها باحث أو فقيه، ومن ثم فإن رعاية الكرامة الإنسانية داخلة دخولا أوليا في المقاصد أو المصالح التي هي محور الشرع الإسلامي الحنيف" (27)
والآيات والأحاديث وفيرة في تجريم هذا العدوان ، سواء بإتلاف النفس كاملة ، وهو القتل، أو الإيذاء الجسدي، بمختلف صوره ودرجاته ، ومن هنا قامت أحكام الفقه بإلزام العبد أن يحفظ بدنه، ولا يعرضه للعطل أو الضرر، قال تعالى : { .....وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ .... } ( البقرة : ١٩٥ ) ،
وقرر الشرع عقوبات رادعة على العدوان على البدن، وعلى تعطيل حواس الإنسان، سواء أكان ذلك اختياريا من العبد نفسه، أم وقع عدوانا من غيره، أم تَمَّ تواطؤا واتفاقا بينهما ، وكذلك الخطأ في الأبدان مضمون، يستوجب تعويض الضرر الواقع على الأبدان، بدءًا بالجرح اليسير وانتهاء بقتل الخطإ ، كما حرم الإسلام تعطيل العقل وفرض فيه حدًّا، عقوبة على هذا التعطيل ، وحظر المساس بشرف الإنسان وعرضه، وشرع حدّ القذف على من رمى أحدا بالفاحشة ،
يقول القرافي : "وكذلك تحريمه تعالى المسكرات صونا لمصلحة عقل العبد عليه، وحرَّم السرقةَ صونًا لماله، والزنا صونًا لنسبه، والقذف صونًا لعرضه، والقتلَ والجرحَ صونًا لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضاه، ولمْ يَنفذ إسقاطه. فهذه كلها وما يلحق بها من نظائرها، مما هو مشتمل على مصالح العباد حق الله تعالى؛ لأنها لا تسقط بالإسقاط، وهي مشتملة على حقوق العباد، لما فيها مصالحهم، ودرء مفاسدهم، وأكثر الشريعة من هذا النوع" (28)
وفي أحكام الحرب في الإسلام حددت إباحة القتل بخصوص المحاربين ، دون النساء والرهبان والصبيان ، وأهل العهد والأمان ، كما أجيز دفع الصائل بما أمكن ، ولو أدى إلى قتله دفعا للعدوان ،
وتأكيدا لحرمة جسد الإنسان ؛ عمد الاجتهاد إلى بيان مدى عناية الإسلام بالإنسان معافى سليما، بل قويّا قادرا على أداء وظيفة الخلافة على أكمل الوجوه، وفي هذا نصوص وفيرة تحث على الحفاظ على الصحة وتناول الطيبات، واجتناب الخبائث المضرة بالإنسان، في بدنه أو عقله أو نفسه، وتفادي كل ما يضعف البدن أو يؤثر على وظائفه الحيوية ،
بل إن الشرع نهى عن الانقطاع وإرهاق البدن بالمبالغة في العبادة، مثل وصال الصيام، وصيام الدهر ،
وأما التعامل مع بدن الإنسان لمداواة نفسه؛ فيجوز له أن ينتفع ببعض أجزاء نفسه في حالة الضرورة، أو في حالة تصحيح أو تعويض ما نقص أو تشوه من أعضائه؛ رجوعا به إلى حالته المعتادة، وذلك بشرط ألا يكون خطر القطع أعلى من خطر البقاء على ما هو عليه، منعًا من تعريض النفس للتهلكة (29) ،
******************
الهوامش والاحالات :
=============
(1) – محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية ( ت : 751هـ ) : " التبيان في أقسام القرآن " ، تحقيق : عصام الحرستاني ، طبعة مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، ص : 43 ،
(2) - القسم هو الحلف بالله تعالى أو بغيره تأكيداً وحثاً على تصديق المتكلم ، مثل قوله تعالى : " فَوَرَبِّكَ لَنَسألَنَّهُم أَجمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعملُونَ " ، فيؤكد اللّه تعالى بأن جميع الخلق مسؤولون عما عملوا في الدنيا ، وأسلوب القسم في اللغة العربية من المؤكدات المشهورة ، التي تمكن الشيئ في النفس وتقويه ، ولذلك جاء القسم في كتاب الله ، لإزالة الشكوك ، وإحباط الشبهات ، وإقامة الحجة ، وتوكيد الأخبار، لتطمئن نفس المخاطب إلى الخبر ، لا سيما في الأمور العظيمة التي أقسم عليها ،
مع ملاحظة أن لله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته على ما يشاء من القضايا والأخبار ، مع النهي الصريح عن القسم بغير الله تعالى ، أي ليس للعبد أن يقسم بغير الله ، ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ ليصمت " ( متفق عليه ، وصححه الألباني ) ،وعناصر القسم هي : أداة القسم وهي في السورة حرف الواو ، المقسم به هنا التين والزيتون وجبل الطور في سيناء ، المقسم عليه ( أي جواب القسم ) وهو هنا القضية التي نحن بصددها : لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...... "
(3) - محمد بن جرير الطبري ( 224 – 310هـ ) : " جامع البيان في تأويل القرآن " ، تحقيق : أحمد محمد شاكر ، مؤسسة الرسالة ، ط1 ، 1420هـ - 2000م ، ج24 ، ص : 507 ،
(4) - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 700 -774 هـ ) : " تفسير القرآن العظيم " ، تحقيق : سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة للنشر والتوزيع ، ط2 ، 1420هـ / 2000م ، ج8 ، ص : 435 ،
(5) - محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر ( ت : 406هـ) : " تفسير ابن فورك " ، دراسة وتحقيق: علال عبد القادر بندويش ، جامعة أم القرى ،مكة المكرمة ، المملكة العربية السعودية ، الطبعة الأولى:: 1430 - 2009 م ، ج3 ، ص : 343 ،
(6) –محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية : " مرجع سبق ذكره " ، ص :46 ،
(7) - جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري : " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية ، ط5 ، 2003م ، ج5 ، ص : 591
(8) – أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي ، (المتوفى : 671 هـ) : " الجامع لأحكام القرآن " ، تحقيق : هشام سمير البخاري ، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية ، 1423 هـ/ 2003 م ، ج2 ، ص ص : 202 – 203 ،
(9) – " نفس المرجع السابق " ج2 ، ص ص : 202 – 203
(10) - محمد محفوظ : " مفهوم الكرامة الإنسانية في القرآن الكريم " ، المصدر : http://www.kalema.net/v1/?rpt=971&art
(11) - أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني أبو العباس : " البحر المديد " ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ، الطبعة الثانية / 2002 م ـ 1423 هـ ، ج8 ، ص : 479 ،
(12) - أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني أبو العباس : " البحر المديد " ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ، الطبعة الثانية / 2002 م ـ 1423 هـ ، ج8 ، ص : 479 ،
(13) - تاج الدين ابن عطاء الله أحمد بن محمد الشاذلي الإسكندري ( ت : 709 ) : " لطائف المنن، في مناقب الشيخ:أبي العباس، وشيخه: أبي الحسن " ، تحقيق : عاصم إبراهيم الكيالي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، 2015م ،
(14) – الحديث َعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ بِمِثْلِ مَا كَانَ يعْمل مُقيما صَحِيحا " ( رَوَاهُ البُخَارِيّ ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ) ،
(15) - الحديث عَن عبد الله بن يسر رضي الله عنه قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ فَقَالَ : " طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ " ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أن تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ " ( رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ) ،
(16) - صح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سافر العبد أو مرض كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً. وعن ابن عمر: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله.
(17) – جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري :" مرجع سبق ذكره " ، ج5 ، ص : 591
(18) – الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5482 في صحيح الجامع ،
(19)- علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري ( ت : 1014هـ) : مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ، دار الفكر، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1422هـ - 2002م ، ج2 ، ص : 581 ،
(20)- محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني ( ت : 1250هـ) : " الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني " ، حققه ورتبه: أبو مصعب «محمد صبحي» بن حسن حلاق ، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء ، اليمن ، ج4 ، ص : 91 ،
(21)- محمد ناصر الدين الألباني ( ت : 1420هـ) : " أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " ، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع ، الرياض ، ط1 ، 1427 هـ - 2006 م ، ج1 ، ص : 90 ،
(22) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي " ، مطابع أخبار اليوم ، القاهرة ، ج 1 ، ص : 343 ،
(23)- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي ، (المتوفى : 671 هـ) : " الجامع لأحكام القرآن " ، تحقيق : هشام سمير البخاري ، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية ، 1423 هـ/ 2003 م ،ج20 ، ص : 114
(24) - هاني حلمي : " حول سورة التين " ، المصدر :
http://www.hanyhilmy.com/uploaded/files/sounds/tafseer/19-surat_alteen..doc .
(25) - محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي : " سير أعلام النبلاء " ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، 1422هـ / 2001م ، ج5 ، ص : 362 ،
(26)- محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية ( ت : 751هـ) : " التبيان في أقسام القرآن " ، تحقيق : محمد حامد الفقي ، دار المعرفة، بيروت، لبنان ، ص ص : 46 – 48 ،
(27) – محمد سعيد رمضان البوطي : " انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيا أو ميتا في الفقه الإسلامي " ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، تصدر عن منظمة المؤتمر الاسلامي بجدة ، العدد : 4 ، ص : 121 ،
(28) - أحمد بن إدريس (القرافي) : " أنوار البروق في أنواع الفروق " ، عالم الكتب ، ( د.ت ) ، ج1 ، ص : 141 ،
(29) - مصطفى باجو : " التبرع بالأعضاء في المجامع الفقهية" ، ندوة " فقه العصر، مناهج التجديد الديني والفقهي ، جامعة غرداية.، الجزائر ، المصدر : http://ijtihad.ir/ar/NewsDetailsAR.aspx?itemid=10480
*********
2-10-2015
|
|
|
|
|
|
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي |
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته |
|
|
أحدث الردود |
|
|
|
|
|