الأسرة المسلمة آخر الحصون .... هل هي مهددة حقا ...
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6016
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
محتويات
* اساسيات تتعلق بفهم وضعية الاسرة ومكانتها في المجتمع المعاصر ،
- الأسرة وتغيرات الحياة العصرية ،
* من الأب المربي إلى الأب الممول ،
* شباب اليوم والإغراق في العالم الافتراضي ،
* ظواهر مرضية تتعرض لها الأسرة المعاصرة ،
* الهجمة الشرسة على الأسرة المسلمة ،
* الاسرة وعظم مسؤولية الآباء تجاه الأبناء ،
* وصية الله تعالى للآباء بالأبناء ،
* الأسرة بين رقي الرؤية الإسلامية وانحدار التصور الوضعي ،
----------------------------------------------
- " ..سئل ولد صغير : أين بيتك ؟ فنظر الى أمه بعينين مملؤتين بالحب وقال : بيتى حيث تكون أمى "
- " ...إنه من أسعد الناس - سواء كان ملكا أو أجيرا - ذلك الذى يجد سلاما فى بيته "
- " ....وإن عظمة الأمة تستمد من استقامة الأسرة ومعرفة كل عضوا فيها ماله وما عليه "
-------------------------------
ليس بوسع عاقل ينتمي إلى الإسلام على العموم ، وإلى عالمنا العربي الإسلامي على وجه الخصوص إلا أن يكون مهموما – اليوم وأكثر من أي وقت مضى – بما آلت إليه أوضاع الأسرة المسلمة في عالمنا المعاصر ، وما تواجهه من تحديات وأخطار ، وما يدبر لها في الخفاء من مؤتمرات ومكائد ، فبعد أن عجز أعداء الإسلام من هزيمة الأمة الإسلامية وغزوها عسكرياً بالعدة والعتاد السلاح ، لم يكن أمامهم إلا أن يلجئوا إلى المكر والخديعة وتغريب المسلمين عبر موجات الغزو الفكري والثقافي ، وكان من الطبيعي أن تكون مؤسسة الأسرة هي الهدف ، وأن تكون في مرمى السهام باعتبارها حصن الأمة الحصين ، والقلعة المنيعة الباقية للأمة في زمن أتت فيه الغارة على الإسلام والمسلمين على كل الحصون – تقريبا – فنالها ما نالها الإصابات والدمار ،
يقول " الحوالي " (1) في إحدى الندوات التي ناقشت أوضاع الأسرة المسلمة في عالمنا المعاصر : " ........إذا هدم البيت ، وهدمت الأسرة ، ضاع الأطفال ، وضاع الزوج ، وضاعت الزوجة ، ثم ضاعت الأمة وضاع المجتمع ، وهذا ما يريد أن يتوصل إليه أصحاب الغزو الفكري ، حيث إن مفكرين غربيين من الذين يفكرون على مدىً بعيد في هذه القضية قد أيقنوا - وكتبوا ذلك - أن تدمير الأسرة هو تدمير للأمة ، وأن بناء الحضارات وبقاءها واستمرارها إنما يكون باستمرار الأسرة ، فها هو المؤرخ البريطاني الشهير : " أرنولد توينبي " الذي كتب عما يقارب عشرين حضارة مندثرة منقرضة أو باقية ، أَوْ لهَا آثارٌ في الوجود ، وجد أن من الظواهر المشتركة في انهيار جميع الحضارات أنها تنهار عندما ينتشر الترف ، وتخرج المرأة من البيت ، وتنشغل عن تربية الأبناء ، هذا ما كتب!! ، وكما أوضح ذلك أيضاً المؤرخ الألماني المشهور الذي يدعى " شبنجلر " الذي كتب وتنبأ بسقوط الحضارة الغربية في حوالي عام (1920م) تقريباً قبل أن تبلغ قوتها التي هي عليها اليوم ، وقبل أن تظهر علامات الانهيار الموجودة اليوم ، يقول : '' إن كل حضارة من الحضارات تنهار وتتدمر إذا خرجت المرأة ، واهتمت بشهواتها ونزواتها ، وتركت الأسرة ، فضاعت الأسرة ، وضاعت الفضيلة من المجتمع ''.
وهكذا فإن ثمة ما يشبه الاجماع بين المؤرخين والمفكرين والكتاب الكبار عبر التاريخ على أهمية ومحورية مكانة " الأسرة " في قيام الحضارات الإنسانية واستمرارها ، أو في انهيارها وزوالها ، ولذلك فإن " ادوارد جيبون " ، مؤرخ ومؤلف كتاب " انهيار وسقوط الامبراطورية الرومانية " ، حدد خمسة اسباب تفسر في رأيه انهيار وموت الأمم ، ذكر من أهمها وفي مقدمتها : انهيار مكانة وقدسية البيت والاسرة باعتبار انها هي اساس المجتمع الإنساني (2)
* اساسيات تتعلق بفهم وضعية الاسرة ومكانتها في المجتمع المعاصر :
هناك مجموعة من الحقائق التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند تناولنا لموضوع الأسرة وقضاياها ووضعيتها ومشكلاتها في الحياة المعاصرة ، ومن تلك الحقائق :
- إذا كان الفرد هو الوحدة الأساسية في بناء العائلة ، فلا أسرة بدون أفراد ، فإن " الأسرة " هي الخلية الأساسية الأولى في بناء المجتمع ، فإذا صلحت الأسرة واستقام أمرها صلح المجتمع واستقام أمره ، وكما هي العلاقة بين الفرد والأسرة علاقة شديدة التعقيد والتشابك والأهمية ، فثمة علاقة معقدة ومتشابكة وهامة ومحورية أيضا بين الأسرة والمجتمع ، وبين الأسرة والأمة ، وهي علاقة تبادلية مستمرة ،
- والأسرة هي البنيان الاجتماعي الأساسي للمجتمع ، وعلى امتداد تاريخ البشر ، وباختلاف عقائدهم الدينية وألسنتهم ، وخلفياتهم الثقافية ، كانت الأسرة هي القاسم المشترك الأعظم بين كل البشر؛ وفي هذا يقول الله تعالى في كتابه العزيز : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء :1).
- إن الاهتمام بإجراء الدراسات العلمية المتعمقة من قبل المتخصصين في شتى فروع العلم الاجتماعي والإنساني ، ومهن المساعدة الإنسانية حول شتى القضايا المرتبطة بوضعية الأسرة العصرية والتحولات التي طرأت عليها ، والتهديدات والتحديات التي تتعرض لها ، وأسباب ذلك ، وتأثيرات تلك التحديات على الفرد والأسرة والمجتمع ، والمشكلات العصرية ، والصعوبات التي تواجهها الأسرة العربية والإسلامية والتي تحد من قدرتها على أداء رسالتها ووظائفها على الوجه الأكمل ......لهو أمر من الأهمية بمكان ، حتى يتسنى للمهتمين بشؤون الأسرة وصناع القرارات و السياسات ، والمعنيين بتصميم وتنفيذ الخطط والمشرعات وبرامج التدخل المهني التي تستهدف حماية الاسرة ، ومواجهة مشكلاتها ، ومساعدتها على مواجهة تلك التحديات ،
- سمات العصر ووضعية الاسرة : فمن غير الممكن فهم وضعية مؤسسة الأسرة اليوم دون أن نأخذ في الاعتبار ما يتسم به العصر الذي نعيشه من خصائص التغير السريع ، والتقدم الهائل علميا وتكنولوجيا ، وما يذخر به عالم اليوم من تحولات جذرية لحقت بشتى مجالات الحياة الإنسانية ، وكان وراءها ما وراءها من مشكلات وأزمات وتحديات وأخطار تواجه شتى مؤسسات المجتمع ، وفي القلب منها مؤسسة الأسرة ، لذا كان من الأهمية بمكان الإلمام بالسمات والخصائص المميزة لهذا العصر ، وما ينطوي عليه من تحولات جذرية ، وتعقيدات بالغة ، فهو عصر العولمة ، والفضائيات ، ووسائل الاتصال الحديثة التي جعلت الحياة يسيرة ومعقدة في آن واحد ، ففي مواجهة هذا الكم الهائل من التغيرات الدولية التي يمر بها العالم على جميع المستويات السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، ماذا سيكون وضع الأسرة العربية والإسلامية ؟ وهل سيكون بإمكانها الحفاظ على خصوصيتها التي صمدت على مدى قرون ، والوقوف أمام ثورة الاتصالات الجارفة التي يبدو أنها في طريقها إلى تحويل المجتمع الدولي إلى كينونة ثقافية واحدة ، مع الحرص على اللحاق بركب التطور العلمي والحضاري؟
- طبيعة المشكلات المعاصرة التي تتعرض لها الأسرة : Contemporary Family problems
وإذا كانت طبيعة المشكلات التي كانت تواجهها الأسرة في العصور الماضية كانت في الغالب " مشكلات خارجية " External Problems كنقص المال والموارد اللازمة لإشباع الاحتياجات ، والصعوبات المادية التي تؤثر على مستوى معيشتها ورعايتها لأفرادها ، فإن المشكلات الحالية ( العصرية ) مختلفة ، وطبيعتها داخلية Internal Problems تؤثر في بناء الأسرة ذاته ، وفي نوعية العلاقات بين أفراد الأسرة ،
وبينما تؤدي المشكلات الخارجية ( ذات الطبيعة المادية في الغالب ) إلي توحيد صفوف أفراد الأسرة وتعاونهم لمواجهتها ، فإن المشكلات الداخلية ، والاضطراب والتوتر الذي يصيب الروابط والعلاقات الاسرية من شأنه أن يضعف الأسرة ، ويؤثر على قدرتها على مواجهة تلك المشكلات ، مما يجعلها في حاجة إلى المساعدات الفنية المتخصصة ، وإذا كان أفراد الأسرة يواجهون صعوبة في ايجاد لغة مشتركة للعلاقة بينهم ، فإن تهاوي هذه الأسرة وفشلها يكون أسهل وأسرع ،
- الأسرة وتغيرات الحياة العصرية Family and Changes of modern life
* من الأب المربي إلى الأب الممول :
من الملاحظ في حياتنا المعاصرة أن الكثير من الآباء قد تخلوّ عن أدوارهم الأصلية في تربية أفرادها ، وتوجيه وإرشاد وضبط سلوك الأبناء ، إلى مجرد توفير الطعام والمبيت والنفقات ، والاستجابة للتطلعات المتزايدة للأبناء ، وكثيرا ما يتوقف الأمر عند هذا الحد ، فلا وقت لدى الأب والأم للرعاية والتربية والرقابة والضبط والتوجيه ، فالأب / وأحيانا الأم العاملة أيضا – في العصر الذي نعيشه – أصبح بالنسبة لأفراد أسرته أقرب إلى دور " الممول " منه إلى دور " المربي " ، نعم فكثيرا ما نلحظ أن من الآباء عندنا من استقال من وظيفته الأساسية تجاه أهله وأبنائه ، تخلي عن أبوة التوجيه والتعليم ، لانشغاله بكسب المال ليوفر لهم الكماليات ، ويلبي تطلعاتهم التي لا تقف عند حد ، ونسي هذا الأب أو غفل عن قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }( التحريم : 6 ) ، ونسي الحديث الشريف : " كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته ....... والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ، ..." ، ونسيت هذه الأم أيضا قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " ....والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها ...." (3) ، وفي الحديث أيضا : " إن الله سائل كل راع عما استرعاه ، حفظ أم ضيع ، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " (4)
ولقد ترتب على ذلك أن الكثير من أبناء المسلمين اليوم أيتام في حياة أبائهم ، لأنهم أيتام العلم والأدب والتوجيه والإرشاد والقدوة الصالحة ، والتربية السليمة ، بين أبوين لا يدركان من معاني الأبوة والأمومة وحقوقها وواجباتها ومسؤولياتها إلا جلب الطعام والشراب ، وتأمين وسائل الترفيه ، وتأمين حالة الترف والبذخ ، وتحقيق طلبات الأبناء وتطلعاتهم دون قيود أو ضوابط شرعية ، وهم يحسبون – للأسف الشديد - أنهم يحسنون صنعًا، وأنهم يؤدون واجباتهم ، ويضطلعون بمسؤلياتهم ،
* شباب اليوم والإغراق في والعالم الافتراضي : Youth and The virtual world
- شباب اليوم – وبسبب التقدم العلمي والمعلوماتي الهائل ، وثورة الاتصالات والانفجار المعرفي - تمكن من أن يصنع لنفسه عالما افتراضيا أضحى يعيش فيه ، مما حدا به إلى زهادته في المشاركة في الحياة الاجتماعية مع ذويه وأسرته ، فالحياة التي يصنعها الشباب بأنفسهم وأيديهم، والتي تخلو – من وجهة نظرهم على الأقل - من كل كدر ، قد تتسبب فيه الحياة الطبيعية ، التي درج عليها الانسان ، هذه الحياة يفضلونها أكثر بكثير من الحياة الزاخرة بالمشكلات والقضايا الحساسة ، فيسعون للهروب من مشكلات الواقع عن طريق الحياة الافتراضية التي يصنعونها بأنفسهم ، والتي يضعون فيها كل مقومات الحياة الهانئة الوادعة الملبية للشهوات والتطلعات والنزوات ، بعيدًا عن صخب الحياة الطبيعية ومشكلاتها وأزماتها، وهذا تسبب في تأزيم وضع الأسرة الذي كان متأزمًا في الأساس بصورة كبيرة ، هذا فضلا عن العديد من الآثار السلبية والمشكلات التي تترتب على الإغراق من جانب الشباب في هذا العالم الافتراضي ، فلقد أسفرت بعض الدراسات عن أنع وعلى الرغم من مواقع الشبكات الاجتماعية ساعدت الشباب في التفاعل المباشر مع أصدقائهم ومعارفهم ، ومكنتهم أيضًا من إقامة علاقات إنسانية مبنية علي الاهتمامات والأنشطة المشتركة ، إلا أنه وفي الوقت ذاته أثار استخدام مواقع الشبكات الاجتماعية عدداً من الإشكاليات المتعلقة بالوقت الذي يقضيه الشباب في تلك المواقع ، حتى وصل بهم الأمر إلى درجة الإدمان ، مما كان له العديد من التأثيرات السلبية على سلوكهم العام تجاه الأسرة والمجتمع ، وفى المقابل (5) ،
وأشارت العديد من الدراسات (6) إلى أن هذا العالم الافتراضي الذي أضحى اليوم يستقطب قطاعات عريضة من المراهقين والشباب – وحتى الأطفال – تولد عنه العديد من النتائج السلبية ، والآثار التي أصبحت مثار شكوى للعديد من الآباء والأسر ، ومن تلك النتائج : ضياع الوقت وإهداره ، معارف وقرناء السوء ، الوصول إلى حالة الإدمان للإنترنت ، الإصابة بالاضطرابات الانفعالية والنفسية ، الانحراف الأخلاقي والقيمي ، واكتساب الاتجاهات المنحرفة ، تبني الأفكار والمذاهب الهدامة والمتطرفة ، ......وغير ذلك من الآثار ،
* ظواهر مرضية تتعرض لها الأسرة المعاصرة :
فكان من الطبيعي إزاء الأوضاع العصرية التي تعيشها الأسرة ، والمتأثرة بسمات العصر الذي نعيشه ، أن تتزايد معدلات الظاهر المرضية ، كظواهرُ عقوق الأبناء للآباء ، وتساهل الآباء في دورهم نحو الأبناء ، وتقلَّص وظائف الأسرة ومهامها التربوية ، وكثُر التشرد وجنوح الأحداث ، وارتفعت نِسَبُ الطَّلاق والمشكلات الاجتماعية ، وتعدَّدت ألوان الجريمة ، ومظاهر الانحراف ، والانتحار ، والعنف العائلي ، والمشكلات الزَّوجية ، ووَهَنَ كثيرٌ من الأواصر، وضَعُفَ التَّواصل بين الأقارب والأرحام ، وسادت القطيعة والجفاء ، وحلَّت محلَّ الصِّلة والصَّفاء ، وضعُفت وشائج الأخوَّة وروابط المودَّة ، وشاعت قِيَم الأنانية والأنامالية والأحاديَّة بدلَ القِيَم الإيثارية والجماعية ،
- ظاهرة التفكك الأسري : يمكن لنا أن نعرف التفكك الأسري ببساطه بأنه عبارة عن بُعد أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم البعض ، ويمكننا تقسيم التفكك إلى قسمين :
- المباشر : ويتعلق بالأسر التي تعرضت الى التفكك المحسوس إما بالطلاق أو وفاة الوالدين وخلافهما ،
- اللامباشر: فهو يُطلق على الأسر التي تجتمع تحت سقف واحد ، ويكمن فيهم التفكك المعنوي
ومن السهل أن نرصد تفاقم ظاهرة التفكك الأسري في العقود الأخيرة بشكل غير مسبوق ، وهو أمر أثبتته الدراسات الإمبيريقية ، والكتابات العلمية الموثقة ، والآحصاءات الرسمية ، وشهد بذلك الواقع الملموس أيضا ، فالتفكك الأسري تزايدت معدلاته ، وتنوعت عوامله وأسبابه ، والمتمثل بعضها في سفر الآباء للخارج ، وترك الأسرة والأبناء ، فتفقد تربية الأبناء أحد جناحيها الأقوى وهو الأب الذي يتحول لمصرف للمال فقط ، والأم الطرف الضعيف تستسلم بضعفها فتترك الأبن يبني عالمه وشخصيته وفق ما يراه ،
- تفشي وانتشار ظاهرة الدروس الخصوصية في نظم التعليم العربية : التي أوجدت الذرائع لهجران الأولاد بيوتهم معظم ساعات اليوم بل والليل ، وما يتبع ذلك من احتكاك بشواذ الأخلاق ، وأصدقاء السوء
* الهجمة الشرسة على الأسرة المسلمة :
لقد علم أعداء الأمة مكانة الأسرة في الإسلام ، والعناية الفائقة التي أولاها الوحي الإلهي لتلك المؤسسة حيث جاءت أحكام الأسرة وتشريعاتها مفصلة تفصيلا شافيا ، ومن هنا يمكن لنا أن نستنتج الأسباب الخفية وراء حملة الهجوم الضاري الذي لا يتوقف ضد الأسرة المسلمة ، فالغرب يعتبر أن هذه الأسرة ....وما تبديه من تماسك وصلابة غير مفهوم بالنسبة له ، في ضوء الضعف السياسي والاقتصادي الذي يعتري الدول الإسلامية ، تشكل حجر عثرة في وجه ما يهدف إليه الغرب من استيعاب للعالم الإسلامي وفرض قيم العولمة الجديدة عليه، وهو ما دفع الغرب ليس فقط لشن قصف إعلامي لا يهدأ ضد مبادئ وقيم وأخلاقيات الأسرة المسلمة ، ولكن أيضاً لاستخدام لافتات حقوق الإنسان والمرأة - بل والبحث العلمي في بعض الأوقات - لتحطيم البنى الثقافية التي تتأسس عليها الأسرة المسلمة ، أو على الأقل التهوين من شأنها ، والتركيز في هذه الحملات على قضايا مثل الطلاق ، وتعدد الزوجات ، والختان ، والقوامة ، .......بل تدّعي بعض الباحثات الغربيات اللائي تخصصن في البحث حول الأسرة والمرأة المسلمة أن آلية تعدد الزوجات تتعارض مع الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه " النساء شقائق الرجال " (7) ،
لقد فاقت الحرب المستعرة على الأسرة المسلمة كل حد معقول ، وبدأت أقلام وأفواه تظهر داخل مجتمعاتنا الإسلامية والعربية نفسها – هم من أبناء جلدتنا ، ويتسمون بأسمائنا - لتنادي بإعادة تغيير أنماط الأسرة التقليدية في هذه المجتمعات ، والتي تقوم على أساس تقسيم العمل بين الزوج ( الأب ) ، والزوجة ( الأم ) داخل الأسرة ، وغير بعيد في هذا الصدد ما أحدثته عديد من الحكومات الإسلامية فيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية ، وخاصة تونس ، ومصر ، والجزائر، والمغرب .....، بل إن الحكومة اللبنانية سنت قانونها المثير للجدل تحت اسم " الزواج المدني "، وفيه يصبح من حق المواطنين اللبنانيين الزواج من خلال المحاكم المدنية ، وبغض النظر عن ديانة كلٍّ من الزوجين.
إن المجتمعات الإسلامية اليوم في أمس الحاجة إلى جهود كل نسائه ورجاله للوقوف في وجه تلك الهجمة الشرسة ، والعمل العلمي الجاد لإصلاح حال الأسرة المسلمة ، ودعمها أكثر في مواجهة الخطر الذي تتعرض له وبات يتهددها أكثر من أي وقت مضى، ولا مراء في أن العودة للشريعة الإسلامية وضبط ما يتعلق بالأحوال الشخصية للمسلمين على ضوئها، هو الحل الذي لا بديل عنه لتفادي هذا الخطر، يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء: 68)، فالأسرة المسلمة كانت دوماً في مأمن من المخاطر التي تحيط بها طالما التزمت بالإسلام وشريعته (8)
- ولعلنا اليوم نرصد ذلك السعي الحثيث للغرب المتغلب ، ومنذ عقود عدة مستهدفا توجيه السهام النافذة إلى مؤسسة الأسرة من أجل تفكيكها ، عبر العديد من الآليات الملتحفة بالشرعية الدولية ، ومن خلال العديد من مؤسساتنا الإعلامية ، والثقافية ، والتعليمية والتربوية التي يفترض فيها السعي للحفاظ على الهوية الإسلامية وترابط الأسرة تبعاً لهويتها ، لكنها قامت بزرع ثقافات غريبة ، ووضعت الهوية الحقيقة في خانة الاتهام ،
* الاسرة وعظم مسؤولية الآباء تجاه الأبناء :
قرأت يوما في إحدى الصحف العربية .........ويا لهول ما قرأت ،
فما كنت أحسب يوما أن ما قرأته يمكن أن يحدث ، ويحدث في واقعنا العربي المسلم ، ولكنه – إن صحت الواقعة وما أحسب إلا أنها صحيحة – جرس إنذار ، ونذير بالأسوأ إن لم نتدارك الأمر ،
الواقعة يقشعر لهولها البدن ، ويشيب لها الولدان ، وتجعل كل مسلم على وجه البسيطة له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد يضع يده على قلبه ، ويهتف من الأعماق : يارب سلم سلم ،
تقول الواقعة وأنا أنقلها كما هي دون تدخل : " صدم مواطن عربي ( ........) بأن الخطيبة الجديدة التي تقدم لها هي ابنته من طليقته الأولى ، وقالت أم الفتاة إن زوجها السابق تزوج أكثر من سبع مرات ، ولم يبق على ذمته سوى زوجة واحدة عربية الجنسية ، وتعيش طليقته الأولى في أحد الأحياء الشعبية مع بناتها الثلاث ، ولم يرهن الأب منذ أكثر من 23عاما، وطلب المواطن (ح) من أحد أصدقائه مساعدته لخطبة فتاة جميلة وصغيرة في السن ، فأشار الصديق إلى رجل يعرفه في أحد الأحياء الشعبية حيث ذكر له أن هناك أما لديها بنات جميلات ، وهن ذوات دين وخلق ، وربما ظروفهم الاقتصادية قد تجبر الأم والفتاة على الموافقة ، وبعد مرور يومين اتجه الرجل إلى بيت أم الفتاة ( وهو لا يعرف أنها طليقته السابقة ) وهو محمل بالهدايا والذهب للأم والزوجة المرتقبة ، حيث قصد العريس تطميع الأم وابنتها بالهدايا ، وعندما جلس العريس ينتظر الأم والفتاة لتتم المفاهمة بينهما دخلت الأم وابنتها الكبيرة التي تبلغ من العمر 20عاماً ، فما أن وقع بصر الأم على الرجل إلا ووضعت يديها في أذنيها وظلت تصرخ وتردد بصوت عال اسم طليقها والد الفتاة ، فقام العريس وظل ينظر للأم وابنتها ، وبدأت الدموع تذرف من عينيه ، وأخذ ابنته التي أراد أن يخطبها إلى حضنه بعد فراق دام 23عاماً ، الأم قالت للصحيفة : إنها وافقت على زواج ابنتها من رجل لا تعرف عنه شيئا ، بسبب الضغوط المالية والظروف الصعبة التي تعاني منها هي وبناتها الثلاث ، وحمدت الأم الله تعالى على حدوث هذه القصة على الرغم من مرارتها وصعوبة الموقف على بناتها ، لماذا ؟ لأن الأب بدأ ينفق على بناته ويقوم بواجبه بعد حرمان دام 23عاماً " (9) ،
* وصية الله تعالى للآباء بالأبناء :
وحول مهمة الآباء ومسؤوليتهم الخطيرة تجاه الأبناء ، يقول ابن القيم - يرحمه الله - : " فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم ، قال الله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} ( الإسراء ) ، فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه ، وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم ، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه ، فأضاعوهم صغارًا ، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا ، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال : يا أبت إنك عققتني صغيرا فعققتك كبيرا وأضعتني وليدا فأضعتك شيخا " (10) ،
وقال أيضا - في موضع آخر – في بيان مسؤلية الوالد عن أبنائه (11) : " قال بعض أهل العلم إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة ، قبل أن يسأل الولد عن والده ، فإنه كما أن للأب على ابنه حقا ، فللابن على أبيه حق"، كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} ( العنكبوت : 8) ، وقال تعالى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } ( التحريم : 6 ) ،
ويقول " علي بن الحسين " في " رسالة الحقوق " : " وأما حق ولدك ، فتعلم أنه منك ، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب ، والدلالة على ربّه ، والمعونة له على طاعته فيك ، وفي نفسه ، فمثاب على ذلك ومعاقب ، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا ، المعذر إلى ربّه فيما بينك وبينه، بحسن القيام عليه، والأخذ له منه.." (12)
الأسرة بين رقي الرؤية الإسلامية وانحدار التصور الوضعي :
- أعطى الإسلام مؤسسة الأسرة جل اهتمامه ، واعتبرها المقوم الأساس ، والركن الركين للعمران البشري ، الذي هو إحدى غايات الوجود الإنساني : { .....هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ...} ( هود : 61 ) ، أي كلفكم وطلب منكم عمارتها ، وتقوم الرؤية الإسلامية للأسرة على أن الزواج هو الأساس والسبيل الوحيد الذي تقوم عليه ، فلا أسرة بدون زواج وفق تعاليم الشرع الحنيف وضوابطه ، فهو الميثاق الغليظ الذي يشكل أساس الأسرة وقوامها ، تلك المؤسسة التي أقامها الإسلام على قواعد المعروف والإحسان ، قال تعالى : { ....وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } ( النساء :21 ) ، فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وأسسها على تقوى الله تعالى في كل ما أمر ونهى ، ففي الحديث الشريف : " ... فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ " (13) ،
وإذا كان الزواج في الإسلام إنما يعني - طبقا لتعريف " أبي زهرة " أنه : "عقد يفيد جعل العشرة بين الرجل والمرأة بما يحقق ما يقتضيه الطبع الإنساني ، ويحدد ما لكليهما من حقوق ، وما عليهما من واجبات" (14) ، فإن الأسرة في الإسلام تبعاً لهذا المفهوم هي الوحدة الاجتماعية الأساسية والمحورية في المجتمع المسلم ، والتي تتأسس بها ومن خلالها لون فريد من العلاقات المتينة التي تقوم أساساً على قيم تقوى الله تعالى ، وحسن العشرة ، وبرّ الوالدين ، وصلة الرحم ،
فهي علاقات أساسها الحب والتراحم والتكافل والإحسان قال تعالى : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }( النساء : 36 ) ،
وفي موضع آخر يهتم القرآن الكريم بإحاطة الأسرة بسياج منيع من الحماية ، فيؤسس الأسس ويقعد القواعد للأسرة المسلمة بما يضمن لها أن تقوم على قواعد العفة والعفاف والستر ، قال تعالى : {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( النور : 31 ) ، والمعنى كما جاء في " التفسير الميسر " (15) : قل ( يا رسول الله ) للمؤمنات يغضضن من أبصارهن عمَّا لا يحلُّ لهن من العورات ، ويحفظن فروجهن عمَّا حَرَّم الله ، ولا يُظهرن زينتهن للرجال ، بل يجتهدن في إخفائها إلا الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلُبْسها ، إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها ، وليلقين بأغطية رؤوسهن على فتحات صدورهن مغطيات وجوههن ؛ ليكمل سترهن ، ولا يُظْهِرْنَ الزينة الخفية إلا لأزواجهن ؛ إذ يرون منهن ما لا يرى غيرهم. وبعضها ، كالوجه ، والعنق ، واليدين ، والساعدين ، يباح رؤيته لآبائهن ، أو آباء أزواجهن أو أبنائهن أو أبناء أزواجهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن المسلمات دون الكافرات ، أو ما ملكن مِنَ العبيد، أو التابعين من الرجال الذين لا غرض ولا حاجة لهم في النساء ، مثل البُلْه الذين يتبعون غيرهم للطعام والشراب فحسب ، أو الأطفال الصغار الذين ليس لهم علم بأمور عورات النساء ، ولم توجد فيهم الشهوة بعد ، ولا يضرب النساء عند سَيْرهن بأرجلهن ليُسْمِعْن صوت ما خفي من زينتهن كالخلخال ونحوه ، وارجعوا - أيها المؤمنون - إلى طاعة الله فيما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة ؛ رجاء أن تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة ،
ولقد بلغ من عظمة هذا الدين وروعته وحرصه على مؤسسة الأسرة ، وواقعيته الفريدة ، وعلمه وإحاطته بتقلبات النفس البشرية أنه حتى عندما تستحيل العشرة ( بين الزوج والزوجة ) داخل الأسرة المسلمة فإن القرآن الكريم لا يترك مسألة الطلاق والانفصال وإنهاء العقد ، بدون أن يضع لها ما يكفل حقوق كلا الطرفين ؛ قال تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }( البقرة : 232 ) ،
هذا غيض من فيض مما أوصى به الإسلام في شأن الزواج والأسرة ، وعلى العكس من هذه الرؤية المنضبطة والحكيمة والتي تستهدف في نهاية المطاف مصلحة الجنس البشري ، والحياة الإنسانية ، فإننا نجد تهافت الرؤى الوضعية في نظرتها للأسرة ، وتردي وانحطاط الممارسات المتحررة من تلك الضوابط والأحكام ، والنابعة في الأساس من اتباع الأهواء والشهوات ، وانحراف الفطرة ، باسم الدعاوى البراقة والشعارات الرنانة من مثل الحرية ، والمساواة ، والتقدم ، والحضارة .....وغيرها ،
وعلى العكس من مفاهيم الإسلام المنضبطة ، ورؤيته السامية والسديدة لمفهوم للزواج والأسرة ، فإن الترويج للمفاهيم المناهضة لها يجري اليوم على قدم وساق ، فها هي جماعات " حقوق الإنسان " تروج داخل أروقة كل " المؤتمرات الدولية " ، والملتحفة بلحاف " الأمم المتحدة " ، والمتدثرة بدثار " العالمية " ، والتي تنعقد لبحث أخطر المسائل الاجتماعية ، كتلك المتعلقة بالمرأة والسكان مفاهيم أخرى بديلة ، أبسط ما يمكن أن توصف به أنها مفاهيم منحرفة ، تنكبت الطريق ، وحادت عن جادة الصواب ، ومن شأنها – إذا قدر لها أن تكون هي السائدة في دنيا الناس – أن تؤذن بخراب البلاد وفساد العباد ، وهو ما حدث في مؤتمر : " مكسيكو سيتي " بالمكسيك عام 1975م ، والذي رفع لجلساته شعاراً لا يخلو من دلالة وهو " رفع التمييز ضد المرأة " ، وتبع هذا المؤتمر مؤتمر آخر في " كوبنهاجن " بالدنمارك عام 1980م ، ثم المؤتمر الثالث للمرأة والمنعقد في " نيروبي " بكينيا عام 1985م ، ومؤتمر " السكان والتنمية " بالقاهرة في مصر عام 1994م ، الذي دعا بشكل صريح وواضح ، وبما اصطدم مع المشاعر الدينية للمسلمين في مصر والعالم الإسلامي إلى : إباحة الجنس ، وتقنين الإجهاض ، بل وتبنت الوثائق الصادرة عن هذا المؤتمر (16) مصطلحاً غريباً على أذن كل مسلم ، بل وكل شرقي بغض النظر عن دينه ، وهو مصطلح " المتحدين أو المتعايشين " ، وهو يعني – وياللهول - حرية الشخص في الممارسة الجنسية حتي مع شخص من نفس الجنس ( اللواط ، والسحاق ) بمعني ان الوثيقة ارادت تأمين حقوق اللوطيين والسحاقيات ، وعدهم أشخاصاً طبيعيين يمارسون حريتهم الجنسية خارج الإطار التقليدي أو النمطي الذي فرضه عليهما المجتمع ، وهو نطاق الأسرة تحت مظلة الزواج ،
وبعـــد ..........
إنها صيحة تحذير ، فهذه هي الأسرة المسلمة آخر حصوننا المنيعة في مرمى النيران ، نيران أحسب أنها إن تركت وغفلنا عنها – كما هو الحال اليوم – فإنها لا تبقي ولا تذر ، نعم الأسرة المسلمة صمام الأمان لمجتمعاتنا وأمتنا ، تكاد الأعاصير المزمجرة أن تقتلعها من جذورها ، فهل آن لنا أن ننتبه للخطر الداهم ، هل آن لأؤلئك المعنيين بشؤون الاجتماع والتربية والنفس والإعلام والإدارة والخدمة الاجتماعية .....وغيرهم كثير أن يدركوا الخطر ، وأن يشمروا عن ساعد الجد دفاعا عن حصوننا ، وحماية لأجيالنا الحالية والقادمة ، فلن نجد لأمتنا أثر إذا ضاعت الأسرة المسلمة وأضحت في مهب الريح ، ولن نرى للأسرة قيمة ولا وزن إذا تم التلاعب بالزواج المعهود وشاعت بين شبابنا المسلم ألوان الاقتران المستحدثة والمشبوهة والمنحرفة عن جادة الصواب ، فلن نرى أيضا للزواج قيمة إذا انحرف عن معناه الأصيل ومدلوله الحقيقي في التصور الإسلامي ، وكلمة السر في كل ذلك .....والتي أدركها الغرب الكاره للإسلام والمسلمين إنما تكمن في " المرأة المسلمة " ، فإلى أين نحن سائرون ،
**************************
الهوامش والحواشي
===========
(1) - سفر الحوالي : " أخطار تهدد الأسرة المسلمة " ، المصدر :
http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=110283&full=1
(2)- سامر بنور حرفي : " انهيار الحضارات ....والاسباب المشتركة ....لسقوطها " ، المصدر : http://www.vb.eqla3.com/showthread.php?t=629834
(3) - الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : " كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ( صححه الإمام الألباني ، أنظر : - محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته " ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1988م ، ج2 ، ص : 838 ،
(4) – الحديث عن أنس رضي الله عنه مرفوعا : " إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" ( حسنه الألباني ) ، أنظر : الألباني : " مرجع سبق ذكره " ، ج1 ، ص : 365 ،
(5) - سحر جابر حسن عبد الموجود : " الاثار الاجتماعية والمجتمعية لتعامل الشباب الجامعي مع مواقع التواصل الالكتروني " ، رسالة دكتوراة غير منشورة ،قسم العلوم الانسانية البيئية ، معهد الدراسات والبحوث البيئية ، جامعة عين شمس ، القاهرة ، 2004م ، ص 173 ،
(6) - خالد منصر : " علاقة استخدام تكنولوجيا الإعلام و الاتصال الحديثة باغتراب الشباب الجامعي - دراسة ميدانية على عينة من طلاب جامعة باتنة " ، رسالة ماجستير منشورة ، قسم العلوم الانسانية ، جامعة الحاج لخضر ، باتنة ، 2011 - 2012م ، ص ص : 57-59
(7) – الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مرفوعا " إنما النساء شقائق الرجال " ( صححه الألباني ) ، أنظر : - الألباني : " مرجع سبق ذكره " ، ج1 ، ص : 461
(8) - محمد مختار : " الاسرة في الاسلام والغرب " ، مجلة النبأ ، العدد 64 ، رمضان 1422هـ ، يناير 2001م ، المصدر : http://annabaa.org/nba64/osrah.htm
(9) – صحيفة الوطن السعودية ، تاريخ العدد 13 / 4 / 2003م ،
(10) - محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) : " تحفة المودود بأحكام المولود " ، تحقيق : عبد القادر الأرناؤوط ، مكتبة دار البيان – دمشق ، ط1 ، 1391 هـ - 1971م ، ص : 139 ،
(11) – " نفس المرجع السابق " ، ص : 239 ،
(12) - ابو محمد الحين بن علي الحراني : " تحفة العقول عن آل الرسول " ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، لبنان ، ط6 ، 1996م ، ص: 263 .
(13) – تمام الحديث عن جابر رضي الله عنهما مرفوعا : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ، وأنتم مسؤلون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال: اللهم اشهد" ( صححه الألباني ) ، أنظر : " صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته " ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1988م ، ج1 ، ص : 415 ،
(14) - محمد ابو زهرة : " محاضرات في عقد الزواج وآثاره " ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1998م ، ص : 44
(15) - مجموعة من كبار العلماء : " التفسير الميسر" ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، 1430 هـ - 2009م ، تفسير الآية ،
(16) – وتوالت بعد ذلك المؤتمرات والفعاليات الدولية على نفس الخط ، واتخذت ذات الاتجاه ، وتمخضت وثائقها عن العديد من المصطلحات المسمومة التي هي أخطر على الأمة وعلى مستقبلها من المخدرات ، وأسلحة الدمار الشامل ، فرأينا مصطلحات : الصحة الإنجابية - الجندر - الأم البيولوجية - الحقوق الجنسية - الأسر المثلية - الأسرة النمطية - حرية التوجه الجنسي - الأحوال الشخصية - المتحدين المتعايشين - الأمومة وظيفة اجتماعية - التمكين - تعدد أشكال الأسرة - الأدوار النمطية - حقوق المرأة بصفتها والدة بغض النظر عن حالتها الزوجية ............. وغير ذلك مما يستجد ، وهلمجرا ...أو كما يقولون " الحبل على الجرار " ، وما يهم توضيحه أن هذه المصلحات ليست محايدة بحال ، وأن لكل مصطلح منها مدلولاً فكرياً ، ومنظومة متكاملة من القيم والأعراف الاجتماعية والثقافية والحضارية الخاصة بجذور هذا المصطلح الفلسفية والتاريخية والجغرافية ، وهي تختلف – ولا شك - من ثقافة لآخرى ، ويحمل معاني خطيرة عند تنفيذه ، خصوصاً أن هناك عدم وضوح في الترجمة العربية لبعض تلك المصطلحات مثل مصطلح " الجندر " الذي يستخدم – حسب الترجمة - مرة باسم " النوع الاجتماعي "، ومرة باسم " الجنوسة " ، - راجع : " صراع قانوني على - المرأة - يستهدف إزاحة التشريعات السماوية " ، جريدة الحياة ، رقم العدد: 16485 ، تاريخ النشر : 23/5/2008 م ، طبعة السعودية ، الرياض ، المصدر :
http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20KSA/2008/5/23/
*******************
أ. د/ احمد بشير
جامعة حلوان – القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: