أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7351
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بعد فوز حزب حركة النهضة في انتخابات 23 أكتوبر 2011 واستلامها السلطة بادرت بتغيير كبار موظفي الدولة بما يتّسق مع ما كانت تنوي القيام به، ففي المجال الديني عيّنت شخصا وهابيا على رأس الوزارة هو نور الدين بن حسن الخادمي وفي جامع الزيتونة عيّنت حسن العبيدي إماما وهو الغريب عن أي اختصاص شرعي وفي المجلس الإسلامي الأعلى عيّنت عبد الله الوصيف أحد كتاب مجلة المعرفة وفي منصب الإفتاء عيّنت حمدة سعيد الذي أجرت معه جريدة المصوّر في عددها المؤرّخ في 2 جوان 2014 حديثا أتى فيه بالعجب العجاب وبما لا يخطر على بال.
فمن هو حمدة هذا؟ وهل هو مؤهّل بما هو عليه لشغل منصب الإفتاء؟ وهل أن تعيينه تم في إطار الشروط الواجب توفّرها كأن يكون من بين العلماء المشهود لهم بالتضلع في الفقه الإسلامي وفق ما نصّ على ذلك أمر 28 فيفري 1957 أو أن المسألة تندرج ضمن الولاءات الحزبية؟.
قبل أن يعين حمدة مفتيا سمعت باسمه لمّا كان عضوا في مجلس النواب عن التجمع الدستوري الديموقراطي كما عُرف بأنه من أكثر المنادين بحياة الرئيس السابق في اجتماعات لجنة التنسيق الحزبي في نابل ولهذا السبب كلف بإدارة الفرع الجهوي لمنظمة المحافظة على القرآن الكريم وقد ذكر ذلك في حديثه بشيء من التفاخر والتباهي، وغاب عنه أن النظام في تلك الفترة لم يكن يعيِّن في المواقع التي لها صلة بالعموم وخصوصا في المجال الديني إلا الذين أظهروا ولاء تاما وطاعة عمياء في تنفيذ الأوامر، فمن حيث أراد إثبات جديته في العمل وقدرته على ذلك أثبت لنا دون أن يشعر تبعيته وتذيله التام للجنة التنسيق في نابل ورغم ذلك فإن اسمه لم يرد في الكتاب الأسود للرئيس المؤقت.
منذ أن تأسّست إدارة الإفتاء كُلفت بالقيام بمهام ثلاثة هي التالية:
أ ـ إصدار شهادات في إسلام المعتنقين الجدد للحاجة إليها في الزواج وفي الإرث.
ب ـ الإعلان عن دخول شهر رمضان وغيره من المناسبات الدينية.
ت ـ تحديد مقدار الزكاة في عيد الفطر وفي بداية العام الهجري.
فيما عدى هذه المهام لم يكن للمفتي حضور إلا في الندوات العلمية أو إلقاء المحاضرات وقد اضطلع المفتون السابقون رحمهم الله وحفظ الأحياء منهم بهذه المهام على أفضل الوجوه، وتحفظ الذاكرة الشعبية أسماءهم بما تركوا من فتاوى ومن دروس، واللافت للانتباه أنهم في حدود ما أنيط بهم من مهام لم يجدوا داعيا للمطالبة بتوسيع إدارتهم، غير أن حمدة منذ أن عُيِّن ابتدأ في المطالبة بإنشاء إدارات أخرى ملحقة به لا لشيء إلا للإكثار من عدد الموظفين وعدد المكاتب والكراسي والخُشب المسنَّدة وقد كوّن لذلك فريقا من الموظفين أعدّ مشروع قانون من بين ما جاء فيه تكوين هيئة استشارية خاصة به وإدارات واحدة منها سمّاها هيئة المبايعة على الإسلام (لاحظوا جيدا الدخول في الإسلام يصبح مبايعة لديه بما تحمل هذه اللفظة من إيحاءات سياسية) لتقوم بعمل كان وما زال يقوم به موظف واحد منذ أن أُحدثت خطة الإفتاء وإدارة خاصة بدخول الأشهر القمرية أي أن حمدة يسعى حاليا إلى إيجاد هياكل واستنزاف الأموال العامة بتكوين إدارات تقوم بنفس الأعمال التي كان يقوم بها ثلاثة موظفين لا غير.
فيما يتعلق بالجانب العلمي من حوار حمدة تحدث عن الاكتتاب الوطني فقال: "نحن حين أصدرنا فتوى تحدثنا عن سلفة ولم نتحدث عنها بعنوان دعم وطني هكذا والسلفة يحرم في الإسلام أن تجرّ لصاحبها نفعا أنت يا مسلم ستدعم دولتك بسلفة وهذا لا يعني أنك مضطر لتأخذ منها فائضا" في كلامه هذا ارتكب حمدة جملة من الأخطاء العلمية والشرعية بيانها كما يلي:
1) قوله سُلفة، هذا اللفظ لا جود له في القاموس الفقهي الإسلامي وهو من مبتكرات حمدة الذي توهّم أن ترادف الألفاظ يؤدّي إلى نفس المعاني والحال أن لكلّ مصطلح مفهومه وحدوده فهنالك القرض الذي هو دَين في الذمة والسّلم أو السّلف الذي هو بيع يُقدم فيه الثمن ويؤجّل المُثمّن وفي السّلم تفصيل ليس هنا محله ولكلٍّ من المصطلحين أحكامه.
2) قوله دعم وطني كلمة غير منضبطة وغير محدّدة الملامح يمكن أن تطلق على الأستاذ في قسمه والفلاح في مزرعته والنجار في معمله... والمصطلح المذكور يشير إلى الاكتتاب الوطني الذي أعلنته الحكومة المؤقتة، ولأن حمدة يتشبه بمن عيّنه فإنه بما ذكر يظهر مُعاداته للدولة المدنية ومعاداته للفظ الوطن ولكلّ ما اشتق منه لذا اخترع لفظ السلفة والحال أن بلادنا عرفت هذا النوع من القرض في بدايات الاستقلال وأجازه شيخ الشيوخ العلامة محمد العزيز جعيط في فتوى شهيرة نشرت في جريدة العمل في السادس من أفريل 1957.
3) أما مسألة الفائض التي لم يحسن تنزيلها في قوله هذا وقرنها بما هو شائع لدى العامة عن الربا فقد فصّل فيها القول الشيخ جعيط في فتواه قال: "وممّا يلزم التنبيه إليه أن اقتراض الحكومة من أفراد الشعب لصالح المسلمين لا ينبغي أن يُسلط عليه أحكام القرض المبرم بين الأفراد من جميع الوجوه... أمّا أموال الدولة فإنها للشعب مرصدة لمصالحه... وبذلك لا يبقى مجال لتوهّم المنع".
عند حديثه عن مسألة الإجهاض خلط حمدة تخليطا لا مزيد عليه وادّعى لنفسه صلاحيات ما أنزل الله بها من سلطان إذ تجده يمنع ويرخص دون ضابط وغاب عنه أن المسائل المتعلقة بالجسم الإنساني جميعها وبعد التطور الذي عرفته الإنسانية في هذا المجال لم يعد للفقهاء فيها رأي إلا بعد العودة إلى المختصين الذين يعتبر رأيهم الفيصل فما بالك بالأدعياء الذين تلبسوا بالصفة لعلّة سياسية، قال خاتمة المحققين ابن عابدين: "قوله لتقدّم حق العبد أي على حق الشرع لا تهاونا بحق الشرع بل لحاجة العبد وعدم حاجة الشرع ألا ترى أنه إذا اجتمعت الحدود وفيها حق العبد يُبدأ بحق العبد لِما قلنا ولأنه ما من شيء إلا ولله تعالى فيه حق فلو تقدم حق الشرع عند الاجتماع بطل حقوق العباد كذا في شرح الجامع الصغير لقاضي خان وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام فدين الله أحقّ فالظاهر أنه أحقّ من جهة التعظيم لا من جهة التقديم"(1)، الأمر الذي يعني أن الطبيب وليس المفتي هو الذي يحدّد مدى حاجة المرأة أو الجنين إلى الإجهاض علما بأن المحافظة على الحياة المتحققة مقدّم على الحياة الموهومة.
في جوابه عن سؤال حول بداية الإمساك فعلا في رمضان قال حمدة: "الطريقة الصحيحة هي علم الفلك بمعنى إذا كان الفجر مع الساعة الثالثة والربع فالإمساك يكون قبله بدقيقة أو دقيقتين من باب الاحتياط" وهو في كلامه هذا يخالف ما تواضع عليه فقهاء الأمة وعلماؤها من أن الأحكام في العبادات مبنية على التيسير وعلى الظن قال الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "واجب الفقيه عند تحقق أن الحكم تعبدي أن يحافظ على صورته وأن لا يزيد في تعبديتها كما لا يضيع أصل التعبدية"(2) وهو المعنى الذي حرّره الإمام الشاطبي في موافقاته عندما اعتبر أن هذه الشريعة جاءت على مقتضى أفهام عموم الناس وليس قلتهم (3) وكلّ ما هو خلاف ذلك يندرج في إطار التقعّر من أناس لا يعرفون أقدار أنفسهم في علم الإسلام فتجدهم يفرّعون المسائل ويعقّدونها لإغراب الناس، قال الإمام محمد سعاد جلال: "إن الشارع جعل أسبابا للأحكام تجب الأحكام عند حصولها في الوجود وجعل وسائل معرفة هذه الأسباب مقدرة بالوسائل العرفية العادية الحسية المعروفة لأكثر الناس وليست الوسائل العلمية الفنية التي لا يعرفها إلا ذوو العلم والاختصاص"(4) لأن المقصود من العبادات إظهار الطاعة لله تعالى وليس دخول الوقت ففي حين يدعو الشرع إلى التيسير والاعتدال والرفق بالمؤمنين نجد حمدة يُضيِّق واسعا ويتشدّد في غير مواطن الشدة فيكلف المتعبّد بما لم يأمر به الشرع العزيز من احتساب للدقائق في فريضة الصوم.
أما آخر ما جادت به قريحة سي حمدة في حديثه فهو قوله بأنه نائب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وردّنا عليه أنه بقوله هذا خرج عن سمت المسلمين لأن قول فلان ناب فلانا تعني أنه حلّ محله للقيام بوظائفه وقام مقامه وهو أمر ممتنع في حق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يحمل ادعاء بتواصل الوحي في شخص المتحدّث والتصريح بذلك علنا يهدم أسًّا من الأسس التي يقوم عليها الإيمان أي ختم النبوة فضلا عن أن هذا القول لا يليق بمسلم أن يتوجه به إلى مقام مبلّغ الرسالة وصاحب العصمة، هذه المعاني تفطن إليها الصحابة فسُمِّي الصديق خليفة بمعنى التتابع أي أنه خلف الرسول وجاء بعده ترتيبا وليس للقيام بوظائفه ولمّا ولِّي عمر سُمِّي خليفة خليفة رسول الله ولمّا رأى الصحابة أن الأمر سيطول اكتفوا بلفظ أمير المؤمنين.
والذي نخلص إليه بعد كلّ ما ذكر أعلاه أن حزب حركة النهضة مُصِرٌّ على أخونة المجتمع والدولة وذلك من خلال خلق كيانات موازية لنصل في نهاية الأمر إلى العثور على أمن مواز وإعلام مواز وأحزاب موازية وجمعيات موازية وها أن الحديث الذي تفضلت بنشره هذه الجردة يكشف لنا عن وجود مفت مواز.
-------------
الهوامش
1) "ردّ المحتار على الدرّ المختار" 2/144.
2)"مقاصد الشريعة الإسلامية" نشر الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1978، ص46.
3)"الموافقات" انظر المسألة الثالثة من النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
4)"الصوم لغة وشرعا" مجلة الهلال عدد شهر جويلية1983 ص13 و14.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: