د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10171
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
الحمد لله الذي أنزل القرآن على خير الأنام سيدنا محمد النبي العدنان صلى الله عليه وسلم ، وأمره بإبلاغه وبيانه للناس ، وبين لنا أنه سبحانه تكفل بحفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فقال جل جلاله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ( الحجر:9 ) ، ولا شك أن من مظاهر حفظ الله تعالى لكتابه الكريم أن هيأ له حفظة ضابطين ، وكتبة متقنين في كل عصر وفي كل مصر ،
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تنزل عليه الآية يأمر أحد كتاب الوحي من الصحابة الأجلاء فيكتبها في موضع كذا من سورة كذا ، ولم يكن في ذلك الوقت نقط ولا شكل للحروف ، إلى أن جاء الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وفي ذلك الوقت انتشر الإسلام وكثر تابعوه من العجم وغيرهم ، وتفشى اللحن في لغة العرب ، وكثر الخطأ في القرآن الكريم ، فشكا أبو الأسود الدؤلي - أحد كبار التابعين من أصحاب علي رضي الله عنه - إلى علي رضي الله عنه هذه الظاهرة فعلمه مبادئ النحو، وقال له : الاسم ما دل على المسمى ، والفعل ما دل على حركة المسمى ، والحرف ما ليس هذا ولا ذاك ، ثم انح على هذا النحو.
وثمة مجموعة من الحقائق التي ينبغي إثباتها تتعلق بقضية نقط المصاحف وتشكيلها وضبطها ، تلك الحقائق تتمثل فيما يلي :
- لقد كُتبت مصاحف سيدنا عثمان ( رضي الله عنه ) خالية من النقط والشكل وعلامات الضبط ؛ حتى تحتمل قراءتُها الأحرف السبعة التي نـزل بها القرآن الكريم (1) ، وعندما أرسلها إلى الأمصار رضي بها الجميع ، ونسخوا على غرارها مصاحف كثيرة خالية من النقط والشكل ، واستمروا على ذلك أكثر من أربعين سنة كما أثبتت الروايات التاريخية ، وقبل إضافة النقط إلى الحروف كان السماع قائماً مقامها ، لأن حفاظ القرآن المتقنين المجوِّدين ليسوا فى حاجة إلى هذه النقط ، لأنهم يحفظون كتاب ربهم غضًا طريًا كما أنزله الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ،
- وخلال هذه الفترة توسعت الفتوح الإسلامية ، ودخلت أممٌ كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام ؛ فتفشت العجمة بين الناس ، وكثر اللحن ، حتى بين العرب أنفسهم ؛ بسبب كثرة اختلاطهم ومصاهرتهم للعجم ، ولما كان المصحف الشريف غير منقوط ، خشي ولاة أمر المسلمين عليه أن يتطرق له اللحن والتحريف ، فأمروا بنقط المصاحف ، ثم تشكيلها وضبطها ، ووضع علامات الوقف في المصاحف ،
- أن المراد بـــ " النَقْط " هو وضع النُّقط فوق الحروف أو تحتها مثل نقطة النون ونقطة الباء ، أما " الضبط " فهو وضع الحركات الأربع : الضمة والفتحة والكسرة والسكون فوق الحروف أو تحتها حسب النطق الصوتى للكلمة ، حسبما تقتضيه قواعد النحو والصرف ، أما " علامات الوقف " فهى كالنقط والضبط توضع فوق نهاية الكلمة التى يجوز الوقف عليها أو وصلها بما بعدها ،
- أن ما سبق ذكره من حقائق يعني أن " نقط " حروف الكلمات القرآنية ، وضبطها وتشكيلها وعلامات الوقف ... كل ذلك ليس من التنزيل ، وإنما هو أمر حدث في عصر كبار التابعين ، ولقد أضيفت النقط إلى رسم المصحف للتمييز بين الحروف المتماثلة كالجيم والحاء والخاء ، والباء والتاء والثاء والنون والسين والشين ، والطاء والظاء والفاء والقاف والعين والغين ، والصاد والضاد ، ولذلك يعد نقط الحروف وقاية من الوقوع في أخطاء لا حصر لها ، ولنأخذ لذلك مثالاً واحدًا هو قوله تعالى : {...كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ...} ( البقرة : 265 ) ، فلو تركت " جنة " بغير نقط ولا ضبط لوقع القارئ غير الحافظ في أخطاء كثيرة ؛ لأنها تصلح أن تنطق على عدة احتمالات ، مثل : حَبَّة ، حية ، حِنَّة ، خبَّة ، جُنة ، حِتة ، خيَّة ، جيَّة ، حبة ، جبَّة ، ولكن لما نقطت حروفها ، وضُبطت كلماتها اتضح المراد منها وتحدد تحديدًا دقيقًا ، طاردًا كل الاحتمالات غير المرادة ، وأول من نقط حروف المصحف جماعة من التابعين كان أشهرهم أبوالأسود الدؤلى ، ونصر بن عاصم الليثى ، ويحيى بن يَعْمُر ، والخليل ابن أحمد ، وكلهم من كبار التابعين (2)
- أما عن القصة كاملة لنقط المصحف فهي كما ذكرها ( الزرقاني ) (3) إذ يقول : " والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطاً وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام - أي : تنقيط - المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في عهد عبد الملك بن مروان ، إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت ، واختلط العرب بالعجم وكادت العجمة تمس سلامة اللغة ، وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يلح بالناس ، حتى ليشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة ( أي غير منقوطة ) ، هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم للإنقاذ ، فأمر الحجاج ابن يوسف التقفي والي العراق ( 75 -95هـ ) أن يُعنى بهذا الأمر الجلل ، وندب " الحجاج " طاعة لأمير المؤمنين رجلين يعالجان هذا المشكل هما : نصر بن عاصم الليثي ، ويحيى بن يعمر ، (وهما تلميذي أبو الأسود الدوؤلي ) ، وكلاهما كفء قدير على ما ندب له ، إذ جمعا بين العلم والعمل والصلاح والورع والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن ، وقد اشتركا أيضاً في التلمذة والأخذ عن أبي الأسود الدؤلي، ويرحم الله هذين الشيخين فقد نجحا في هذه المحاولة وأعجما المصحف الشريف لأول مرة ونقطا جميع حروفه المتشابهة ، والتزما ألا تزيد النقط في أي حرف على ثلاث ، وشاع ذلك في الناس بعدُ فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف " ، وقيل : إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي ، وإن ابن سيرين كان له مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر ، ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية وخاصة ، ثم تبعه ابن سيرين ، وأن عبد الملك أول من أمر بنقط المصحف ، ولكن بصفة رسميَّة عامَّة ذاعت وشاعت بين الناس دفعاً للبس ، والإشكال عنهم في قراءة القرآن ، وقام الحجاج بندب من يقوم بهذه المهمة كما بينا ،
وبعد البحث والتروي ، قرر هذان العالمان إحياء نقط الإعجام ، وقررا الأخذ بالإهمال والإعجام ، مثلا الدال والذال ، تهمل الأولى وتعجم الثانية بنقطة واحدة فوقية ، وكذلك الراء والزاي ، والصاد والضاد ، والطاء والظاء ، والعين والغين ، أما السين والشين ، فأهملت الأولى وأعجمت الثانية بثلاث نقط فوقية ؛ لأنها ثلاث أسنان ، فلو أعجمت الثانية واحدة لتوهم متوهم أن الحرف الذي تحت النقطة نون والباقي حرفان مثل الباء والتاء تسوهل في إعجامهما ، أما الباء والتاء والثاء والنون والياء ، فأعجمت كلها ، والجيم والحاء والخاء ، أعجمت الجيم والخاء ، وأهملت الحاء ، أما الفاء والقاف ، فإن القياس أن تهمل الأولى وتعجم الثانية ، إلا أن المشارقة نقطوا الفاء بواحدة فوقية ، والقاف باثنتين فوقيتين أيضًا ، أما المغاربة فذهبوا إلى نقط الفاء بواحدة تحتية ، والقاف بواحدة فوقية ، وهكذا كان نقط الإعجام في بقية الأحرف ،
- أن نقط الإعجام في بدايته أخذ شكل التدوير، ثم تطور بعد ذلك وأخذ شكل المربع ، وشكل المدور المطموس الوسط، كما استخدمت الجرة الصغيرة فوق الحرف وتحته ،
- يقول بعض أهل العلم : أن نقط المصحف ليس تحريفًا ولا تعديلاً لكلام القرآن ، وهو من البدع الحسنة ، وقد أجازه العلماء لأن فيه تيسيرًا على قُرَّاء كتاب الله العزيز ، وإعانة لهم على تلاوته تلاوة متقنة محكمة ، وهو من المصالح المرسلة ، التى سكت الشرع عنها فلم يأمر بها ولم ينه عنها ، وتحقيق المصلحة يقوم مقام الأمر بها ، ووقوع المضرة يقوم مقام النهى عنها ، وهذه سمة من سمات مرونة الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة (4) ،
- أن مما يرتبط بقضية " نقط المصحف " ما أثارته بعض الروايات الموضوعة حول الزعم بتحريف ( الحجاج ابن يوسف الثقفي ) للمصاحف ، ومن ذلك رواية تقول : " عن عبَّاد بن صهيب عن عوف بن أبي جميلة أن الحجاج بن يوسف غيّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفاً ، قال : كانت في البقرة : 259 { لم يتسن وانظر } بغير هاء ، فغيرها " لَم يَتَسَنه " ، وكانت في المائدة : 48 { شريعة ومنهاجاً } ، فغيّرها " شِرعَةً وَمِنهاجَاً " ، وكانت في يونس : 22 { هو الذي ينشركم } ، فغيَّرها " يُسَيّرُكُم " ، وكانت في يوسف : 45 { أنا آتيكم بتأويله } ، فغيَّرها " أنا أُنَبِئُكُم بِتَأوِيلِهِ " ، وكانت في الزخرف : 32 { نحن قسمنا بينهم معايشهم } ، فغيّرها " مَعِيشَتَهُم " ، وكانت في التكوير : 24 { وما هو على الغيب بظنين } ، فغيّرها { بِضَنينٍ }… الخ " (5) ، وهي رواية موضوعة كما قال أهل الاختصاص ،
ومن الشبهات التي يثيرها البعض حول القرآن الكريم الإدعاء بأن الحجاج ابن يوسف الثقفي زاد فى القرءان الكريم وذلك لأنه وجه إلى نقط المصحف ، وللرد علي ذلك نقول أن عمل الحجاج اقتصر على وضع النقط ، و لم يصنع سوى ذلك ، ولو صنع باطلاً لشنع عليه أعداؤه في عهد بني أمية ، ثم بنو العباس ، و لكان فعله من الأمور التي يستمسك بها أعداء دولته ، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث ، كما أن الحجاج لم يباشر بنفسه وضع النقط وكتابة المصحف ، بل – وكما سبقت الإشارة - أمر بعض الحاذقين من المسلمين بذلك ،
- وقيل أن أول من التفت إلى ضبط المصحف الشريف ووضع علامات الاعراب هو زياد بن أبيه ؛ ولذلك قصة ، وهي : أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد عندما كان واليًا على البصرة ( 45 - 53هـ ( أن يبعث إليه ابنه عبيد الله ، ولما دخل عليه وجده يلحن في كلامه ، فكتب إلى زياد يلومه على وقوع ابنه في اللحن ، فبعث زياد إلى أبي الأسود الدؤلي يقول له : " إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت مِن ألسنة العرب ، فلو وضعت شيئًا يُصلح به الناسُ كلامَهم ، ويعربون به كتاب الله " ، فاعتذر أبو الأسود فلجأ زياد إلى حيلة ؛ بأن وضع في طريقه رجلا وقال له : إذا مرّ بك أبو الأسود فاقرأ شيئًا من القرآن ، وتعمد اللحن فيه ، فلما مرّ به قرأ قوله تعالى : { ....أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ....} ، بجرّ لام رسوله ، فشق ذلك على أبي الأسود ، وقال: " عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله " ، وقال لزياد : " قد أجبتك إلى ما طلبت ، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن " ، واختار رجلا من عبد القيس ، وقال له : " خذ المصحف ، وصِبغًا يخالف لون المداد ، فإذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه ، وإذا كسرتها فانقط واحدة أسفله ، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف ( أي أمامه ) ، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة ( أي تنوينًا ) ، فانقط نقطتين " ،
فأخذ أبو الأسود يقرأ المصحف بالتأني ، والكاتب يضع النقط ، واستمر على ذلك حتى أعرب المصحف كله ، وكان كلما أتم الكاتب صحيفة ، أعاد أبو الأسود نظره فيها ، وكان هذا النقط يُسمى شكلا أو ضبطًا ؛ لأنه يدل على شكل الحرف وصورته ، وما يعرض له من حركة ، أو سكون ، أو شد ، أو مد ، ونحو ذلك ، وكانت الآراء مختلفة في أول من وضع هذا النقط ، إلا أن أكثر هذه الآراء يذهب إلى أن المخترع الأول لهذا النوع من النقط هو أبو الأسود الدؤلي.
الهوامش والإحالات :
============
(1) – كما في الحديث عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف فقلت : أسأل الله معافاته و مغفرته فإن أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاني الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين فقلت : أسأل الله معافاته و مغفرته إن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءني الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقلت : أسأل الله معافاته و مغفرته و إن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءني الرابعة فقال : إن الله عز و جل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا " ، ( قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 65 في صحيح الجامع ) ،
(2) - أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني : " المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار" ، تحقيق: نورة بنت حسن بن فهد الحميد ، دار التدمرية ، ط1 ، 1431 هـ - 2010م ، ص : 129 ،
(3) - محمد عبد العظيم الزرقاني ( ت : 1367هـ) : " مناهل العرفان في علوم القرآن " ، ج1 ، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ، الطبعة الثالثة ، ج1 ، ص ص : 280-281 ، مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
(4) راجع : - علي بن نايف الشحود ( جمع وإعداد ) : " المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام " ، ج5 ، ص : 51 ، المصدر :
http://www.c5c6.com/upfile/down.php?...ddd430a858.rar
(5) - أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني : " المصاحف " تحقيق : محب الدين عبد السبحان واعظ ، دار البشائر الإسلامية ، 1423 هـ - 2002م ، ط2 ، ج1 ، ص : 49 ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: