أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5670
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يلحظ المتأمّل في التاريخ الثقافي لبلادنا خصوصا بعد الاستقلال وجود تيارين مختلفين الأول منهما يدّعي الانتساب إلى العصر مستهدفا تحديث المجتمع وبناه التقليدية والثاني يجهد من أجل حماية مقوّمات الذاتيّة الوطنية من التشويه والتفكيكـ، واللافت للانتباه أن هذه الخصومة رغم عراقتها زمنيا بقيت ملتبسة بالمتغيّرات السياسية والظروف الآنيّة ولم تفرز لنا نقاشات فكرية تثري فضاءنا الثقافي وتدرّبنا على قبول الرأي الاخر بل وقف الأمر عند الضرب تحت الحزام والتآمر من خلال آليتين:
الأولى منهما وهي الصمت عن كل نقد جاد ومحاصرته إما بمنع نشره أو إغفال ذكره كأنه لم يكن.
والثانية الانحراف بالمسائل والقضايا الأساسية إلى ما هو وهمي وفرعي وجزئي وتفصيلي ففي الوقت الذي تشهد فيه الأمة هجمة قد لا تبقي ولا تذر إن تواصل الحال على ما هو عليه يطلع علينا صنف من الناس احترف إحداث الشغب وافتعال الهرج بإثارة مسائل من نوع "الأمّهات العازبات" و"التسوية في الميراث" و"إلغاء الصوم"... ولعلي لا أجانب الصواب إن قلت إن الضحالة والفقر المعرفي الذي عليه المشهد العام في بلادنا والتصاقه بخطاب سياسي هزيل لا يستند إلى أي آليّة فكرية أو منهجية إنما يعود أساسا إلى تغييب النقاش والعمل على فرض الرأي الواحد باستخدام كل الأساليب يستوي في ذلك الجميع إلا من رحم ربّك.
بعد أحداث 14 جانفي 2011 احتدّت الخصومة بين الطرفين الذين مثلهما شق يشمل كلّ التنظيمات والأحزاب ذات المرجعيات الدينية كالنهضة والتحرير والسلفية وغيرهم وشق آخر انخرطت فيه أحزاب سياسية يسارية وقومية وجمعيات مدنية، إلا أن هذه الخصومة سرعان ما انزلقت إلى التكفير من جهة والتهجم على هوية الأمة وثوابتها من جهة أخرى، ولأن الجميع استهدف احتلال المواقع فإن الحكمة غابت وانمحت التخوم بين ما هو سياسة يجوز فيها الاختلاف والشدّ والجذب وبين ما هو من مكوّنات الذاتية كالدين واللغة اللذين مثلا وما زالا يمثلان خطا أحمر لا يجوز تخطيه، فقد نشرت جريدة المغرب في عدد يوم الأحد 7 أكتوبر 2012 رسالة دعى فيها محمد الطالبي إلى تكوين جمعية "المسلمين القرآنيّين" وهي جمعية لا يؤمن أصحابها إلا بالقرآن ويرفضون ما عداه خصوصا الشريعة وفق ما ذكر الطالبي.
من الناحية التاريخية عرفت هذه الدعوة أوّل ذكر لها خلال سنة 1907 في مجلة المنار ثم عادت في السنوات الأخيرة إلى السطح على أيدي أحمد صبحي منصور المقيم حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية والذي كانت له خصومات متعدّدة مع الأزهر ولجان الفتوى وغيرهما من المؤسّسات الدينية المصرية علما بأن هذه النحلة لم تجد لها الرواج الذي كانت تنتظره وبقي تأثيرها محدودا لم يتجاوز أوساطا ضيّقة من الباحثين عن الدعوات الشاذة والأفهام المنفلتة من عقالها إلى أن طلع علينا الطالبي برسالته التي تثير جملة من الشكوك من بينها:
1) إن الدعوة إلى تكوين جمعية للمسلمين القرآنيّين تحمل في طياتها إقرارا بوجود مسلمين غير قرآنيّين!!! علما بأن الفصل بين الإسلام والقرآن يؤدّي حتما إلى تخريب المفهومين.
2) إن الدعوة إلى الإيمان بالقرآن من ناحية وإلغاء كلّ ما عداه من وسائل معرفية تشرحه وتبيّن غوامضه من ناحية أخرى من شأنها الإخلال بالمنظومة الدينية ذاتها فالعبادات تفرّغ من محتواها إن طرحنا جانبا السنة النبوية كما أن الكثير من الآيات القرآنية لا تفهم على وجهها الصحيح إن لم نعد إلى أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وغير ذلك من علوم القرآن.
3) ما العمل مع الأحكام الشرعيّة التفصيلية المتعلقة مثلا بالزواج والطلاق والميراث الواردة في القرآن، هل يقبلها المسلم القرآني أو يطرحها جانبا كما طرح الشريعة بما تحمل من أحكام؟.
4) هل تمثل الشريعة عائقا في علاقة المسلم بواقعه المعيش أو أنها تمثل الترجمة القانونية للفضاء الثقافي والحضاري بما يحمل من عادات وتقاليد وقيم ورغبة في العيش المشترك في زمان ومكان محدّدين؟.
بعد كل هذا لو انتقلنا إلى مضمون الرسالة للاحظنا أن المسوّغات التي أوردها الطالبي لتبرير دعوته مبنيّة على الخلط بين المفاهيم وانتقاء البعض منها دون البعض الآخر مع معرفة هشة بالمصطلحات الدينية من ذلك قول الطالبي:"القضية الجوهرية القائمة إذن هي قضية الشريعة وستبقى قائمة على مدى السنوات الطويلة بل القرون وستسيل الدماء ما لم نجد لها حلا جذريا يرضي المسلم الصادق الإيمان القائم بواجباته الدينية نحو الله ويجعله في نفس الوقت حداثيا تماما لا مشكل له البتة مع تغير العادات في كل شيء بتغير الزمان ويترك صياغة القوانين للنظم الديموقراطية التي يختارها لنفسه بكل حرية طبق ما تقتضيه مصلحته في كل حين وأوان"، والمتأمل في هذه الفقرة يلحظ بجلاء أن الطالبي يحمّل الشريعة كل المصائب التي مرّت بها المجتمعات المسلمة والحال أن المسألة متعلقة بفهم وسلوك المسلمين لا بالشريعة كوضع قانوني، ففي بلادنا كانت أحكام الشريعة في أغلبها مطبقة قبل الاستقلال ولكننا لم نعرف الاتهام بالتكفير إلا في حالة واحدة متعلقة بالتجنيس وحتى في هذه الحالة فإن التكفير إنما هو ردّ فعل لما اعتبر أيامها خيانة للوطن ولم يكن صادرا عن تقييم ديني وإن التبس به ظاهرا علما بأن التكفير في هذه الحالة اقتصر على الامتناع عن دفن المتجنس في مقابر المسلمين ولم يتناول الأحكام الأخرى المتعلقة بالزواج والإرث وغيرهما، كما أننا لم نعرف رغم سيادة الشريعة أيامها تضييقا على الحريات ولمن أراد التثبّت من ذلك العودة إلى الدوريات التي صدرت في النصف الأول من القرن العشرين.
في حديثه عن التكفير بالذنب قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في ص 88 من كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام:"فالذي يعتبر الذنوب كفرا يلزمه أن يعتبرها خروجا عن الجماعة فيرزأ الإسلام جمهرة عظيمة من أتباعه ويحرمه فوائد جمة من انتصاره بهم وانتفاعه، هذا عمرو بن معديكرب كان من وجوه المسلمين وسادة العرب ويذكر عنه أنه لم ينفك عن شرب الخمر حتى بعد تحريمها، فلو أنه بشربه للخمر عدّوه كافرا لرجع إلى صفوف المشركين فخسر الإسلام مواقفه في الفتوح في القادسية وغيرها، فرحمه الله وإن شرب الخمر ورغمت أنوف المكفرين بالذنوب لا أنف أبي ذر" بهذا الأسلوب المستنير في التعامل مع النصوص والوقائع يفصل الشيخ رحمه الله بين ما هو شريعة وأحكام تفصيلية كأحكام شرب الخمر وما هو إيمان وعقيدة تقتضيان سلوكا محدّدا تجاه الأمة وتجاه أفرادها وتجاه النفس ليصل إلى نتائج قد لا تعجب نفرا من الناس ولكنها تحمل معرفة عميقة بمقاصد الشرع ومصالح الأمة.
أما القول بأن إلغاء الشريعة "يجعل المسلم حداثيا" فلا دليل عليه لأن تركيا عرفت بعد سقوط الخلافة العثمانية اجتثاثا لكل مظاهر الارتباط بالدين وقام الجيش بحراسة النظام العلماني الجديد إلا أن المجتمع ما زال يعاني مشاكل التحديث وحاله ليس بأفضل من أحوال جيرانه.
وتتواصل رحلتنا مع هذا المنطق العجائبي الذي يدعو فيه صاحبه إلى إلغاء الشريعة و"ترك صياغة القوانين للنظم الديمقراطية التي تختارها لنفسها" وما درى الطالبي أن النظم الديمقراطية ليست إلا إفرازا لما يعتمل في ثنايا المجتمع، وحتى تكون المسائل واضحة هل يعتقد صاحب الرسالة أن تغيير الأنصبة في المواريث يمكن أن يتجرّأ عليه اليوم مجلس نيابي؟ وهل يمكن أن تفرز الديموقراطية نظاما يناقض هوية الأمة ؟.
في موقع آخر من رسالته يقول الطالبي:"هناك اليوم مسلمون صادقون إيمانا وعبادة وهم يضيقون شرعا بشريعة بالية تتعارض مع عقولهم ومع تكوينهم العصري العلمي الحديث الذي يتنافى مع حماقات الشريعة وتعارضها الكلي مع حقوق الإنسان وحقوق المرأة..." وهو يقصد الفقه الجنائي الإسلامي والحال أن أحكام الحدود في الزنا والسرقة وغيرهما ليست مقصودة لذاتها لأننا نرى أن السمعيات وحدها مقصودة لذاتها ولا يجوز التصرف فيها بالإلغاء أو الإضافة أو التغيير وما سواها من أحكام فإنما العبرة فيها بالمقاصد الشرعية، والمتأمل في تاريخ الأمة يلحظ بجلاء أن الأحكام الشرعية تتغير من بيئة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر بحسب الظروف والأحوال على هذا الأساس نرى أن استخدام أحكام عفى عليها الزمان لإثارة هلع الناس وخوفهم هو استخدام في غير محله إن لم يوضع في إطاره التاريخي وضمن سياق معرفي يستهدف البحث والدراسة، ومما يثير الغرابة حقا أن الطالبي في مقاله هذا وفي غيره يؤكد على أنه مفكر مسلم يقوم بكل الفرائض الدينية وهو كلام لا يحمل أي إضافة بل يثير الشكوك أكثر مما ينفيها فعقيدة الطالبي لا تهمنا في شيء لأنها من أخص خصوصياته علما بأن الإلحاح على الشيء والإتيان بما يخالفه قادح في الصدق مع النفس ومع الغير، فكيف يستقيم الأمر إن ادعى المرء أنه يقوم بالفرائض الدينية ولكنه في ذات الوقت يدعو إلى إلغاء السنة النبوية الشريفة التي تنقل لنا كيفية أدائها قولا وفعلا، فأي صلاة هذه إن لم يتبع فيها المؤمن ما ورد في سنة النبي (ص)؟.
والسؤال الأهمّ الذي يبقى بدون جواب لحدّ الآن هل أن المطالبة بإلغاء الشريعة كفيلة بالقضاء على التطرف والانغلاق والإرهاب ودخولنا عالم الحداثة والتقدم والخلق والإبداع كما يقول الطالبي؟.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: