أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5995
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نشرت جريدة المغرب في عدد يوم الأحد 8 سبتمبر 2012 نصا لنائلة السليني عنوانه "أمن أجل الافتاء قامت الثورة؟" أتت فيه بالعجب العجاب ممّا لا يخطر على بال فحشرته بالساقط من الأخبار والسقيم من الأفهام والشارد من الأقوال معتقدة بذلك أنها تنير وترشد وتحدّث والأنكى أنها ختمت مقالها بادّعائها أن ما سوّدت هو:"رأي المجتمع المدني في مذكرة تقدمت بها حركة النهضة وبما أنه لن يستشار فيها اختار أن ينشرها حتى يبلغ صوته إلى أناس كان قد انتخبهم في 23 أكتوبر 2011 " ولنا على قولها هذا اعتراضات نجملها فيما يلي:
- ما سوّدت نائلة كتابة يحكمها الانتقاء بغرض الوصول إلى هدف مسبق وهي لهذا السبب بالذات تلوي عنق الحقائق وتدلس المفاهيم وهو ما سنأتي عليه لاحقا بالتفصيل.
- لا نعتقد أن المجتمع المدني الذي تدّعي الحديث باسمه يمكن أن يوافق على الاستهتار بذاتية الأمة إلى الحدّ الذي يوصف فيه القرآن بالطلسم ومفسّروه بالسحرة أو القول بأن البخاري ومسلم هما اللذان وضعا أي اختلقا أحاديث الرسول(ص) تقول:"يرتمي المفتي في أحضان البخاري ومسلم حتى كأن المجتمع الذي عاش فيه المحدّثان هو نفس المجتمع الذي نعيش فيه" والحال أن البخاري ومسلم إنما رويا أحاديث الرسول(ص) التي نقلها عنه الصحابة(ض) في مجتمع تفصله عن الإمامين مدّة تفوق المائتي سنة.
سبق لنا أن نشرنا العديد من المقالات التي نبهنا فيها إلى خطورة ما يقوم به جماعة من تلامذة عبد المجيد الشرفي من المنتسبين إلى قسم الحضارة في منوبة من اعتداء على هوية الأمة تحت ستار الدفاع عن مدنية الدولة والحال أن الخصومة السياسية مع أي طرف وإن كانت جائزة إلا أنها لا يمكن أن تتجاوز ذلك إلى مخاصمة مكوّنات الذاتيّة الوطنيّة، ويبدو أن نتائج الانتخابات الماضية لم تكن كافية لاستيعاب هذه الحقيقة فتراهم يواصلون غيّهم في إصرار عجيب.
لنائلة كامل الحق في اعتراضها على دسترة المجلس الإسلامي الأعلى ولكن ليس من حقّها أن تتعمّد التلبيس والافتراء والخلط لتوهم القارئ بصحة موقفها، وفيما يلي قولنا مفصلا في الردّ عليها:
1) في طار استهزائها بالفتوى والحطّ من شأنها ذهبت المذكورة إلى الاستنجاد بدار الفتوى المصرية حتى توهم القارئ بأن دسترة المجلس الإسلامي الأعلى ستؤدي إلى:"الخروج بالإنسان من صفة المواطنة إلى إنسان يتحرك في فناء الدار بمعناها الفقهي القديم..." وهو كلام مرسل لا دليل عليه لأن مقارنة تونس بمصر غير علمية وغير واقعية ومُفسدة للنظر، إذ لكل بلد ظروفه وأوضاعه فهجرة العمالة من مصر متجهة في أغلبها إلى الجزيرة العربية أدّت إلى انتشار الفكر الوهابي انتشارا واسعا لا تخطئه العين ونلحظه مثلا في تزايد عدد دور النشر الوهابية وفضائياتها وفي مختلف مظاهر السلوك الديني، أما في تونس فإن العمالة في أغلبها متجهة إلى الشمال لهذا السبب ولغيره لا نلحظ أي تطابق أو تشابه بين الفضاءين الدينيين في البلدين.
في مصر نجد كنيسة قبطية مارست وما زالت تمارس دورا مشهودا له بالوطنية وبالأهمية وبالتأثير في المشرق العربي وفي شرق إفريقيا، غير أن وجود الكنيسة ذاته أدّى في تقديرنا إلى بروز أشكال من التشدّد كلما تعلق الأمر بمكوّنات الذات ومظاهرها الثقافية والدينية لدى هذا الطرف أو ذاك، لتعرف مصر فتنة طائفية يشحذ فيها كل طرف أدواته، وبعد كل هذا هل نتعجّب إن وجدنا من المصريين المسلمين من يصرّح بأن نساء وأملاك الأقباط المصريين غنائم يجوز الاستحواذ عليها ومن يعتبر أن مواطنيه من غير ديانته هم أهل ذمّة لا حق لهم في الانتماء إلى الجيش الوطني والمشاركة في شرف الدفاع عن أمتهم، لِما ذكر أعلاه نرى أن الجمع بين مصر وتونس في هذه المسألة في غير محله خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أن تونس مُوَحّدة دينيا وحتى مذهبيا ولم تعرف طوال تاريخها الحديث والمعاصر أي فتنة أساسها الدين، والمتأمّل في المدوّنة الفقهيّة التونسية في القرن الرابع عشر للهجرة التي جمع نصوصها الشيخ الدكتور محمد السويسي من بطون الجرائد والمجلات يلحظ أنه من بين 500 فتوى منشورة هنالك حوالي 380 منها تناولت العبادات وأحكامها أما البقية التي لم تتجاوز 120 فتوى فقد تناولت المعاملات وأحكام الجنايات والأحوال الشخصية بحيث لا نجد أي فتوى تشبه ما عليه "فتاوى" الفضائيات التي وصل فيها الأمر إلى حدّ الهزل والسخرية، والذي نخلص إليه أن الاستناد إلى فتاوى دار الإفتاء المصرية في خصومة سياسية داخلية فعل مستهجن، فكل مجتمع إنما يحتاج إلى أجوبة عمّا يُطرح عليه من أسئلة تخصّه ولا تخصّ غيره.
2) ذهبت نائلة إلى القول بأن رؤية هلال رمضان أصبحت تابعة لِما عليه الرؤية في السعودية مستنتجة من ذلك أن:"المرجعية الأصلية لدار الفتوى هي دولة السعودية...ليصير القول الوهابي هو منقذ كل سائل من الضلال." وبيِّن أن الخصومة السياسية دفعت الكاتبة إلى افتعال مسألة رؤية الهلال في خلط واضح بين ما هو سياسة من حقها أن تتناولها وفق ما ترى وما هو دين لا حق لها في إبداء الرأي فيه إلا بعد استيفاء أدواته المعرفية، وفي تقديرنا أن الكثير من المسائل التي يبدو أنها خلافية بين الباحثين والدارسين ليست كذلك فيما لو عدنا إلى صحيح الدين واحتكمنا إلى الدقيق من أصوله، ففي مسألة الرؤية والحساب ذهب في ظن البعض أن الاستعانة بالوسائل الفلكية الحديثة في ضبط دخول الشهر الفضيل وخروجه من شأنها أن تساعد على حسن أداء العبادة فعُقدت لذلك المؤتمرات ونشرت الكتب وأمضيت الاتفاقيات، والحال أن المسألة لا تحتاج إلى كل هذا الهرج والتعقيد لأن الدين مبني على التيسير ورفع الحرج يقول الشيخ الدكتور المرحوم محمد سعاد جلال:"إن الشارع جعل أسبابا للأحكام تجب الأحكام عند حصولها في الوجود وجعل وسائل معرفة هذه الأسباب مقدّرة بالوسائل العرفية العادية الحسية المعروفة لأكثر الناس وليست الوسائل العلمية الفنية التي لا يعرفها إلا ذوو العلم والاختصاص... إن أحكام الشريعة العملية كتفاصيل الصلاة والزكاة والصوم والحج والمعاملات والعاديات تبنى على الظنون ولا يشترط تناولها على جهة اليقين لأن أدلة الأحكام ليست جميعا أدلة يقينية في إفادة الحكم حتى يكون الحكم ممّا يطلب في العمل به اليقين وحتى تكون عدم إصابة اليقين في تناول الحكم مانعة من وجود الحكم، كلا فإن أكثر الأدلة الشرعية أدلة اجتهادية ظنية ولا سبيل في مواطن الاجتهاد- حيث تختلف أحكام المسائل باختلاف أنظار المجتهدين في مداركها من الأدلة- إلا الظن، ومن أجل ذلك جعل الشارع الظن مناطا للأحكام وكلفنا بحسب مبلغ ظنوننا في المدارك الشرعية للأحكام... وإذن فالشارع يكتفي بالظن في ترتيب الأحكام على الأسباب ولا يطالب المكلفين باليقين في ذلك... فكذلك القول في تكليف الصائمين برؤية الهلال، إنه لا يطلب في إثباته بأكثر من رؤية العين المجردة سواء وقع العلم بالرؤية يقينا أو كان ظنا، فدعوى إرادة اليقين في ثبوت هذه الرؤية بالوسائل الفلكية العلمية تـقـعّـر وتـكـلـّـف يرفضه الشرع... لأن المقصود من ترتيب الأحكام الشرعية على أسبابها ليس هو في حدّ ذاته يقينية حصول الأسباب بما يزيد على مقدرة المكلف بوسائله العادية بل المقصود الحقيقي هو إظهار الطاعة من العبد لمقتضى خطاب الشرع، فإذا صدقت نيّة العبد في إخلاص الدخول تحت الأمر فقد تمّ مقصود التكليف الحقيقي وخرج المكلف ظاهرا وباطنا من العهدة." (مجلة الهلال المصرية عدد شهر جويلية 1983).
إن المتأمل في هذه الفقرة رغم طولها يلحظ بجلاء منزع التيسير الذي عليه شروط التكليف حتى في أدق التفاصيل المتعلقة بالعبادات والنأي بالشرع عن أن يكون محلا للاختصام الذي يستغل لمناوءة الشرع ذاته مثلما هو حال منشورات جماعة قسم الحضارة في منوبة.
3) تحدّثت نائلة عن مسألة التحيّل لإسقاط حدّ السرقة مستنتجة من ذلك أن:"تهمة السرقة صارت مفهوما مطاطيا بفضل الفتاوى وعلى هذا الأساس فالمسروق إذا لم يكن ملموسا يحجب العقوبة فينتفي مثلا ما ننادي به الآن من محاسبة الفاسدين من النظام السابق الذين نهبوا أموال الدولة بما أن حجة السرقة في نظر هؤلاء المفتين ليست عينية." ولأن الكاتبة لا تستند إلى معرفة دقيقة بالمسائل الشرعية توهّمت أن الحيل الفقهية التي عثرت عليها في أعلام الموقعين إنما هي فتاوى يجوز الالتجاء إليها والحال أن هذا النوع من الحيل وردت مفصلة في المصنفات الفقهية في إطار التحذير من اعتمادها لِما تحمل من افتئات على الشرع وتلاعب به وهي لهذا السبب بالذات لا تصنف كما ذهبت إلى ذلك نائلة في باب الفتاوى بل هي تحيّل يقصد به التهرّب من تطبيق الأحكام الشرعيّة أو إباحة المحظورات أو افتعال الرخص، ولمن أراد التوسّع في الموضوع العودة إلى أطروحة الشيخ الدكتور المرحوم محمد بن إبراهيم "الحيل الفقهية في المعاملات المالية" التي نشرتها الدار العربية للكتاب في طبعة أولى سنة 1978.
4) جرت العادة أن يعمد الكتاب إلى حسن اختيار الألفاظ الدالة على مقاصدهم والتجويد في انتقاء مواضعها حتى لا تلتبس المسائل على القارئ، ولأن نائلة تستهدف التهوين من شأن المنظومة الفقهية وإثارة الاشمئزاز منها وتقديمها في إطار لا إنساني تعمّدت تقديم جريمة من أبشع الجرائم التي يأتيها الانسان بقولها "حكم وطء الميتة" لتنتقل بذلك هذه الفعلة الشنعاء من موقع الإدانة إلى موقع التفتيش لها عن حكم من الأحكام الشرعية الخمسة كقولنا حكم الماء النجس وحكم من أفطر ناسيا في رمضان وغير ذلك والحال أن هذه المسألة كان من المفروض أن تقدم كما يلي "عقوبة وطء الميتة" لإشعار القارئ بأن البحث في هذه المسألة يتناول العقوبة ولا يتناول مشروعية الفعل، بجانب ما ذكر تتساءل نائلة:"لماذا نذكر هذا النموذج؟ ليس جريا وراء التشهير وإنما لأنها مسألة أحياها المفتون والدعاة في عصرنا الحاضر وصرنا نسمعها حتى في سوق الخضر ويدلي بها كل من يبحث منهم عن التميز بينما هي قضية قديمة حفظتها الكتب القديمة ومنعنا حياؤنا العلمي أن نثيرها لأننا نعتبرها في حكم الفتاوى التي ماتت مع عصورها..." ولنا على هذا القول اعتراضات نجملها في:
أ) للأموات حرمة حفظتها مختلف الشرائع والقوانين لدى كل الأمم والشعوب ولم يكن الشرع الإسلامي بدعا في ذلك حيث شدّد في العقوبة لانتهاكها حرمة ميّت.
ب) وطء الأموات جريمة لم يبتدعها الفقهاء المسلمون إذ لا يخلو منها مجتمع وما زالت أخبارها تترى عبر وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى.
ت) كل المجلات الجنائية خصصت عقوبات لهذا النوع من الجرائم، جاء في الفصل 167 من المجلة الجزائية التونسية ما يلي:"يعاقب بالسجن مدّة عامين وبخطية قدرها ثمانية وأربعون دينارا كل من ينتهك حرمة قبر" وبيّن أن حرمة القبر يقصد بها الحرمة الجسدية للميّت إلا إذا كان لنائلة قول آخر.
ث) إن العقوبة المقدّرة شرعا لا تدخل في باب الفتاوى التي يجوز للمؤمن العمل بها أو ردّها بل هي مندرجة ضمن الأحكام القضائية الملزمة النفاذ فالفرز بين المتشابهات حتمي لسلامة الرؤية والدقة في التناول.
على هذا المنوال أوردت نائلة مجموعة أخرى ممّا توهمت أنها فتاوى تخصّ المرأة خبطت فيها خبط عشواء ولم نر داعيا لتناولها بالبحث لأنها تندرج ضمن نفس السياق الذي يستهدف تحقيق غايات سياسية من خلال التلبيس والانتقاء وتزوير المفاهيم وحشر بعضها في البعض الآخر ممّا نلحظه في كل ما سوّدت نائلة، وللتذكير نشير إلى أنها نشرت قبل شهر واحد من انتخابات أكتوبر الماضي مقالا دعت فيه إلى التسوية في أحكام الميراث بين الذكور والإناث متوهّمة أن ما حدث في 17 ديسمبر 2110 يبيح لها الاعتداء على الثوابت وفاتها أن مكوّنات الذات ومختلف مظاهرها الثقافية والدينية واللغوية ليست المحل المناسب أو المجال الذي ضمنه تدار الخصومات السياسية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: