د. أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6124
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، من الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم خاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أهل الوفاء والنقاء والصفا، ومن تبعهم بإحسان الدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين،
حديثنا هنا إلى نساء عصرنا الحديث، بل وإلى رجاله أيضا، نسوق نموذجا من نماذج العظمة والشجاعة، والذكاء والفطنة وسرعة البديهة، نشعر أننا في مسيس الحاجة اليه، لنعلم كيف كان أسلافنا العظام – نساؤهم ورجالهم على السواء – وكيف أصبحنا نحن اليوم، علنا ندرك بعد الشقة بيننا وبينهم، ولعلنا نعتبر من ذلك النموذج، وما يحمله من دروس وعظات وعبر، وما ينبيء عنه من قيم ومباديء ومثل أضحت اليوم غريبة في دنيانا غربة الأيتام على موائد اللئام، ونرجو – بتأملنا لمثل هذا النموذج – أن نتمكن من الوقوف على الإجابة الشافية الوافية الكافية للتساؤل الذي كثيرا ما يتردد على الألسنة اليوم وهو : لماذا وصلنا نحن المسلمين إلى ما وصلنا إليه ؟ ولماذا أصبح حالنا على الوجه الذي نراه ونعايشه ونعاني منه ؟ وهو تساؤل لا أشك لحظة أنه، يراود اليوم كل مسلم على امتداد الأمة بوجه عام، و كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، من المنتسبين إلى أمة الإسلام، بوجه خاص،
نحن أمام موقف حملته لنا كتب التراث، بيت امرأة وأمير، فلقد روي أن امرأة دخلت على أمير المؤمنين " هارون الرشيد " (1)، وعنده جماعة من وجوه أصحابه يتسامرون .. فأقبلت المرأة على الخليفة وقالت في جرأة نادرة بعد أن سلمت : ( يا أمير المؤمنين أقر الله عينيك، وفرحك بما آتاك، وأتم سعدك، فلقد حكمت فقسطت .. ) فسر الحاضرون من بلاغة المرأة وفصاحتها وفطنتها، وحسن ثنائها على أمير المؤمنين – حسب ظنهم – لكنهم سرعان ما رأوا الخليفة ينظر إلى المرأة وعلامات عدم الرضا والتعجب بادية على صفحات وجهه – فأدركوا أن في الأمر شيء – فسمعوا الأمير يقول مخاطبا إياها : من تكونين أيتها المراة ؟ فقالت : من آل برمك (أي من البرامكة ) (2)، 00ممن قتلت رجالهم، وأخذت أموالهم، وسلبت نوالهم، فقال الرشيد : " يا أمة الله أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله تعالى، ونفذ فيهم قدره .. وأما المال فمردود إليك "،
وتعجب القوم واستولت الدهشة على عقولهم، وتحيروا من هذا التناقض الواضح الذي بدا لهم بين ثنائها على الأمير، وجوابها على سؤال الأمير الذي لا يتماشى مع الثناء، لكن سرعان ما زالت دهشتهم وذهب وتبدد عجبهم عندما التفت إليهم الخليفة قائلا : " أتدرون ما قالت هذه المرأة أولا ؟ فقالوا : ما نراها قالت إلا خيراً يا أمير المؤمنين، فلقد أثنت عليك وأحسنت الثناء، فقال : ما أظنكم إلا واهمون، وما أظنكم فهمتم حقيقة ما قالت !!!!! قالوا وماذا قالت يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ؟ قال الأمير :أما قولها : (أقر الله عينك ) أي أسكنها، عن الحركة وإذا سكنت العين عن الحركة عميت، ( فكأنها تدعوا عليه بالعمى )، وأما قولها (وفرحك بما آتاك )، فأخذته من قوله تعالى " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " ( الأنعام : 44 )، وأما قولها (وأتم الله سعدك )، فأخذته من قول الشاعر :-
إذا تم أمر بدا نقصه ...... ترقب زوالا إذا قيل تم
وأما قولها (لقد حكمت فقسطت ) فأخذته من قوله تعالى : " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " ( الجن : 15 ) فتعجبوا من ذلك أشد العجب، وأخذ بعضهم ينظرون إلى بعض !!! (3) .
أقول يالها من امرأة، وهبها الله قلبا جسورا، وإيمانا راسخا، وشجاعة فريدة، وذكاء حادا، وعزة فائقة، وبلاغة في القول، وفصاحة في اللسان، ومعايشة وتدبرا وفهما لمعاني القرآن الكريم، وهي صفات نفتقدها اليوم في واقع المسلمين إلا من رحم الله، لا أقول افتقدناها في نساء المسلمين، بل أقول – بلا أدنى مبالغة - في كثير من رجال المسلمين اليوم، وإلا فأين نجد في واقعنا اليوم ذلك القلب الجسور الذي واجهت به – تلك المرأة - الخليفة في عرينه، وهو جالس على عرشه وحوله خدمه وحشمه ووزراؤه وجنده، وما استشعرت - ولو للحظة خاطفة - خوفا ولا وجلا ولا ترددا، أين هذا القلب الفذ الفريد من قلوب الكثيرين من المسلمين اليوم، تلك القلوب الخائفة المرتجفة الوجلة، التي تربعت الدنيا على سويدائها، واستولى عليها الوهن (حب الدنيا وكراهية الموت )، وأين إيمانها القوي وعقيدتها الراسخة الممزوجة بالثقة المطلقة في مالك الملك وملك الملوك، من إيمان التقليد الذي شاع بيننا اليوم، ذلك الإيمان الذي لا يصمد أمام أدنى اختبار، وأين الشجاعة في زمن الجبن والخور والهزيمة النفسية، وأين الذكاء الحاد المتوقد من السطحية في التفكير وتعطيل العقول، وأين العزة الإيمانية في زمن الذلة والمهانة والخضوع والإستكانة، وأين البلاغة في القول والفصاحة في اللسان من العي والعجمة واللغة الركيكة والكلمات الهابطة، وأين معايشة القرآن وتدبره ووعيه، والتوقف أمام عجائبه، من هجر القرآن، والتبرك بتعليق آياته على الجدران، وتحويله الى تراتيل تقرأ بالأجر على الأموات وفي المقابر، أما الأحياء فلا شأن لهم به – إلا من رحم الله - ولا حاجة إليه إلا لحظة الموت وما بعده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا شك أن هجر القرآن أمر من الخطورة بمكان، حتى أن القرآن الكريم أخبرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم، سيشكو الى ربه يوم القيامة : ( وقال الرسول يارب إن قومي إتخذوا هذا القرآن مهجورا )، نسأل الله تعالى السلامة، وأن يعمر قلوبنا بأنوارالقرآن الكريم، وألا يجعلنا من أولئك الذين سيشكوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة الى رب العزة جل جلاله وعز سلطانه،
( يتبع ) أحمد بشير
================
(1) – " هارون الرشيد " (149 -191هـ، 766 - 806م). هارون (الرشيد) بن محمد (المهدي) بن المنصور العباسي، أبو جعفر، أشهر خلفاء بني العباس، بويع بالخلافة بعد وفاة أخيه الهادي عام 170هـ، 786م، وكان يحج سنة ويغزو سنة
(2) – إشارة إلى " البرامكة " : وهي أسرة يرجع أصلها إلى فارس، تنسب إلى برمك بن جاماس، تولى الوزارة عدد من أفرادها لبعض خلفاء بني العباس، ولما آلت الخلافة إلى هارون الرشيد، تقدموا عنده وارتفعت مكانتهم لديه، ثم نقم عليهم وغضب عليهم ونكل بهم أي تنكيل، فقتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، وسجن الباقين من أسرته، وكانت نكبة البرامكة 187 هـ
- انظر: وفيات الأعيان 1/328، والبداية والنهاية 10/196.
(3) – أنظر : شهاب الدين أحمد الأبشيهي : "المستطرف في كل فن مستظرف " ج1-- ص 54
www.e-nader.net
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: