د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8260
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
عناصر الموضوع :
* أين نحن من تدبر القرآن :
* الماهر بالقرآن :
* الوصية بالتقوى :
* الأمة وأنوار القرآن :
* القرآن كنز الأمة وحياتها – هجر القرآن :
* إنما نزل القرآن ليعمل به :
* حديث التداعي وواقعنا المعاصر :
صورة حية ناطقة :
قصعة الطعام :
تشبيه له مغزى :
بل أنتم يومئذ كثير – الكثرة الغثائية :
بين المهابة والوهن :
الحمد لله رب العالمين ، الرحيم الرحمن ، علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان ،
ابن آدم
تزود من حياتك للمعاد ** وقم لله واجمع خير زاد
ولا تركم إلى الدنيا كثيرا ** فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم **لهم زاد وأنت بغير زاد
* أين نحن من تدبر القرآن :
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، سبحانه سبحانه ، أنزل القرآن على النبي العدنان ، وأمرنا بحسن التلقي للقرآن وتدبره وفهم معانيه ، وكشف أسراره ، وتجسيده واقعا في الحياة ، لنفوز بصلاح المعاش والمعاد ، لقد قرأت القرآن فرأيت فيه أمرا حاسما وتوجيها جازما بتدبر آياتيه ، والتفكر في معانيه ، وفهم مراميه ، والتوقف أمام عجائبه ، والكشف عن بعض أسراره ، وتكرر التوجيه بالتدبر صريحا في أربع مواضع من القرآن ، الأول : قال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }( النساء : 82 ) ، والثاني : قال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }( محمد : 24 ) ، وأما الثالث فهو قول الله عز وجل : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }( ص : 29 ) ، وفي الموضع الرابع يقول جل جلاله : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ }( المؤمنون : 68 ) ، هكذا يحثنا القرآن ، وتحضنا آيات الواحد الديان على تدبر القرآن وتأمل معانيه والتفكر في مضامينه لماذا ؟ لآن التدبر والتفكر، إنما من شأنه أن يهيج النفس على العمل ، وتنشيط القلب على السير، وتوثيق إرادة النفس على عزائم الأعمال!!! فاحرص أخا الإيمان على قراءة القرآن بتدبر ،
ولذلك قال بعض العلماء : " صلاح القلب بخمسة أشياء : قراءة القرآن بتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع بالسحر ، ومجالسة الصالحين ، وأكل الحلال " ،
الله أكبر إن دين محمـــــــــــــمد ** وكتابه أقوى وأقوم قــــــيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده ** طلع الصباح فأطفئوا القنديلا
* الماهر بالقرآن :
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، وصفيه من خلقه وحبيبه ، ما نزل القرآن إلا عليه ، وما بلغ القرآن إلا من خلاله ، وما كانت مهمة البيان لما أنزل الله لإنسان سواه ، علمنا قيمة القرآن ، وعظمة القرآن ، وجلال القرآن ، وبين لنا المكانة التي ينبغي أن يتبوأها القرآن في وجدان المسلمين ووعيهم ، إسمع إليه صلى الله عليه وسلم وهو يعلن في سمع الزمان ، هذا البيان ، في صحيح ما نقل عنه إذ يقول في الحديث الذي روته لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه يتتعتع فيه وهوعليه شاق له أجران اثنان " ( متفق عليه بين البخاري ومسلم ) ،
سيدي أبا القاسم يا رسول الله
الحق أنت وأنت إشراق الهدى ** ولك الكتاب الخالد الصفحات
من يقصد الدنيا بغيـــرك يلقها **تيها من الأه،،،،وال والظلمات
صلى عليك الله يا علم الهدى يا حبيب القلوب ، وعلى آله وأصحابك الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
تزود من حياتك للمـــــــعاد *** وقم لله واجمع خير زاد
ولا تركن إلى الدنيـــا كثيرا *** فإن المال يــجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وانت بغير زاد
{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقون يا أولي الألباب } ،
أما بعد :
* الأمة وأنوار القرآن :
في رحاب أنوار القرآن الكريم نعيش لحظات نسأل الله تعالى أن يمن فيها علينا من نفحاته وفيوضاته ما يفرج به همومنا ، ويكشف به كروبنا ، ويغفر به ذنوبنا ، ويكفر به عنا سيئاتنا ، ويجمع به شملنا ، ويوحد به كلمتنا ، وينصرنا به على من عاداه وعادانا إنه ولي ذلك والقادر عليه ،
نعم مع أنوار القرآن نعيش وما أحوجنا إلى أنوار القرآن ، لنبدد بها ظلمات الجهل والتيه والغفلة والضياع ، والعداوة والبغضاء والصراع والاقتتال ، والنزاع والمشاحنة ،
نعم نحن في حاجة ماسة لأنوار القرآن ونحن نعيش أجواء الظلمة تحيط بنا من كل مكان ، ولنكن في ذلك صرحاء فالعاقل لا يخدع نفسه ،
نحن نعيش في ظلمات التخلف العلمي والمادي والاقتصادي والسياسي والحضاري والعسكري والأخلاقي والفكري والقيمي ..
ظلمات الاستضعاف والهزيمة النفسية ،
ظلمات القهر والظلم والجبروت والطغيان الذي يتعرض له المسلمون اليوم في شتى بقاع الأرض ،
إن الحياة بعيدا عن الإسلام والقرآن إنما هي تخبط في دياجير الظلام ، { ....كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ }( النور40 ) ،
الناظر في القرآن الكريم والمتأمل في آياته يجد عجبا ، يجد نعم الله تعالى وآلائه على هذه الأمة المرحومة ، نعم إن القرآن الكريم يخبرنا أن هذه الأمة هي أمة الأنوار لا أمة الظلمات ، فهي أمة ربها نور ، معبودها نور ، إلهها نور : إقرأ إن شئت قول الله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }( النور35 ) ،
نحن أمة كتابها نور ، قرآنها نور ، إمامها نور ، دستورها نور : { ....فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }( الأعراف157 ) ، فالذين آمنوا به أي بالرسول ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أي القرآن الكريم ، فالقرآن نور بنص القرآن نفسه ، وقال تعالى في موضع آخر : {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }التغابن8 ) ، فآمنوا بالله ورسوله- أيها المشركون- واهتدوا بالقرآن الذي أنزله على رسوله, والله بما تفعلون خبير لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم, وهو مجازيكم عليها يوم القيام ، وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } ( النساء : 174 ) ،
وقال تعالى : {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }( التغابن : 8 ) ، فآمنوا بالله ورسوله- أيها المشركون- واهتدوا بالقرآن الذي أنزله على رسوله, والله بما تفعلون خبير لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم, وهو مجازيكم عليها يوم القيامة ،
فالله نور ، والقرآن نور ، ثم ماذا ،
نحن أيضا أمة رسولها نور ، نبيها نور ، قائدها نور ، قدوتها نور ، أسوتها نور ، معلمها نور ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ( الأحزاب : 45 – 46 ) ، وداعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده بأمره إياك, وسراجًا منيرًا لمن استنار بك, فأمْرك ظاهر فيما جئتَ به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها, لا يجحدها إلا معاند ، وقال في موضع آخر : { ....قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } ( المائدة : 15 ) ، جاءكم من الله نور ، قال بعض أهل التفسير : هو النبي صلى الله عليه وسلم ،
ثم ماذا الغاية التي جاء من أجلها الإسلام ، ومن أجلها أرسل الرسول ، ومن أجلها نزل القرآن ، هي أكمل وأبهى وأسمى غاية ، وهي إخراج الناس كل الناس من الظلمات إلى النور ، من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، من ظلمات الشك ، إلى نور اليقين ، من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد ، من ظلمات الجور والحيف والبغي والظلم ، إلى نور العدل والانصاف ، من ظلمات الفرقة والاختلاف إلى نور الوحدة والآئتلاف ، قال تعالى عن كتابه الكريم في كتابه الكريم : {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( المائدة : 16 ) يهدي به أي بالقرآن ، يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضا الله تعالى, طرق الأمن والسلامة, ويخرجهم بإذنه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان, ويوفقهم إلى دينه القويم ، وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } ( الأحزاب : 43 ) ، هو الذي يرحمكم ويثني عليكم وتدعو لكم ملائكته؛ ليخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الإسلام, وكان بالمؤمنين رحيمًا في الدنيا والآخرة, لا يعذبهم ما داموا مطيعين مخلصين له ، وقال أيضا : {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ( البقرة : 257 ) ، الله يتولى المؤمنين بنصره وتوفيقه وحفظه, يخرجهم من ظلمات الكفر, إلى نور الإيمان. والذين كفروا أنصارهم وأولياؤهم الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله, يُخرجونهم من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر, أولئك أصحاب النار الملازمون لها, هم فيها باقون بقاء أبديًا لا يخرجون منها ،
وقال تعالى : {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }( إبراهيم : 1 ) ، (الر) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة. هذا القرآن كتاب أوحيناه إليك -أيها الرسول- لتُخرج به البشر من الضلال والغيِّ إلى الهدى والنور -بإذن ربهم وتوفيقه إياهم- إلى الإسلام الذي هو طريق الله الغالب المحمود في كل حال , وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }( الحديد : 9 ) ،
فنحن إذا أمة عجيبة كما يخبرنا القرآن ، أمة محاطة بالأنوار ، غارقة في الأنوار ، ربها نور ، ورسولها نور ، وكتابها نور ، ورسالتها إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فكيف ترضى لنفسها أن تعيش في حالك الظلمات ، ظلمات الجهل والتخلف والتراجع والفرقة والتشرذم والصراع والتناحر ،
واسمع إلى شاعرنا المسلم أحمد شوقي وهو يقول : وهو يخاطب ركب الحجيج ، ويصف واقع الامة الإسلامية ، ويطلب من الحاج وهو يودعه في قصيدة له بعنوان إلى عرفات الله ، يطلب منه أن يوصل رسالة منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
إذا زرت بعد البيت قبر محمد ***وقبلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت من الدمع العيون مهابة ***لأحمد بين الستر والحجرات
وأشرق نور تحت كل سنية ***وضاء أريج تحت كل حصاة
فقل لرسول الله يا خير مرسل ***أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها ***كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة*** فما بالهم في حالك الظلمات
* القرآن كنز الأمة وحياتها – هجر القرآن :
لنا أن نعلم أن القرآن كنز الأمة ، وحياة الأمة ، وروح الأمة ، ولا حياة للأمة الإسلامية بغير القرآن ، ولذلك فنحن في حاجة ماسة إلى إعادة الاعتبار لعلاقتنا بالقرآن ، ونحتاج إلى إعادة صياغة علاقتنا بكتاب الله من جديد ، واسمع حتى تعلم خطورة الأمر ، فالقرآن الكريم يذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتقدم يوم القيامة بالشكوى إلى مالك الملك وملك الملوك ، وإذا كان المشكو إليه هو الله جل جلاله ، وإذا كان الشاكي هو رسول الله ، فاعلم أن الأمر جد خطير ويستدعي الانتباه ، اسمع ما قاله الحق جل جلاله : { وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } ( الفرقان : 30 ) ، وقال الرسول شاكيًا ما صنع قومه: يا ربِّ إن قومي تركوا هذا القرآن وهجروه، متمادين في إعراضهم عنه وتَرْكِ تدبُّره والعمل به وتبليغه. وفي الآية تخويف عظيم لمن هجر القرآن فلم يعمل به ،
نعم هجروا القرآن وما كان ينبغي لهم أن يهجروه ، هجروا تصديقه والإيمان به ، وهجروا تلاوته ، هجروا تعلمه وتعليمه ومدارسته ، هجروا تدبره وفهمه ، هجروا العمل به وتطبيقه ، هجروا تبليغه والدعوة إليه ، هجروا تحكيمه في كل شأن في شؤونهم ،
* إنما نزل القرآن ليعمل به :
كما ينبغي أن نعلم أن القرآن ما نزل إلا ليعمل به ، إلا ليجسد في واقع الحياة ، ما نزل إلا ليحكم الحياة ويضبط حركتها ، ويوجهها الوجهة التي يريدها الله تعالى ،
ولذلك يقول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : إنما نزل القرآن ليعمل به ، فاتخذ الناس تلاوته ( أي قراءته ) عملا " ، يا ألله ، معنى هذا أن القرآن إنما نزل لِيُحِلُّوا حَلالَهُ ، وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهُ ، وَيَقَفُوا عِنْدَ مُتْشَابِهِهِ ، وقيل أن قائل ذلك هو الحسن البصري ، وقيل الفضيل بن عياض ، فعن عبد الصمد بن يزيد قال : سمعت الفضيل يقول: إنما نزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً، قال: قيل: كيف العمل به؟ قال: أي ليحلوا حلاله ويحرموا حرامه ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه ويقفوا عند عجائبه ،
ولذلك قال أهل العلم إن الغاية الحميدة من تلاوة القرآن هي التدبر والفهم والاتعاظ ، وهذا يُدرَك بترتيل التلاوة وتحسينها ، المثمر للعلم والإيمان واليقين ، ولهذا اشتد نكير السلف لمن كانت عنايته بالتلاوة الكثيرة دون التدبّر والتأمّل ، ففي صحيحي البخاري ومسلم ، وبوّبَ له بعض شُرّاح صحيح مسلم : باب ترتيل القراءة واجتناب الهذيان : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال له : إنّي أقرأ المفصّل في ركعة واحدة ، فقال عبد الله : "هذا كهذّ الشِّعر ، إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخَ فيه نفَعَ " ، وذكر شُعبة رحمه الله أن أبا حمزة قال لابن عباس : إني رجل سريع القراءة ، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين ، فقال ابن عباس : لأنْ اقرأ سورة واحدة أعجبُ إلىَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل ، فإن كنت فاعلاً ولابد فاقرأ قراءة تُسمِع أُذُنيكَ ويعيها قلبك " ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : "لا تهذّوا القرآن هذّ الشِّعر، ولا تنثروه نثر الدّقَل ، وقِفُوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن هَمّ أحدكم آخر السورة " ، وقال الحسن البصري : " إنّ مَن كان قبلكم رأوا القرآن رسائل مِن ربّهم ، فكانوا يتدبّرونها بالليل ويُنفذونها بالنهار" (1)
وجاء في " زاد المعاد " لابن القيم رحمه اللَّه ، قال بعض السلف : نزل القرآن ليعمل به ، فاتَخذوا تلاوته عملاً ، ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به ، والعاملون بما فيه ، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب ، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه ، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم(2) ،
وقال أبو رزين : في قوله تعالى : { ...يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ...} ( البقرة : 121 ) قال : يتبعونه حق اتباعه ، يعملون به حق عمله ، ولذلك فقد عاب الله تعالى على أمم سابقة ما تلقوا به النصوص الشرعية فقال عنهم جل جلاله : { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَاًمُرُكُم بِهِ إيمَانُكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }( البقرة : 93) ، وقال تعالى عن اليهود خاصة : { مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ }( الجمعة : 5 )
وعن قوله تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ }( البقرة : 101) ، قال مالك بن مغول : تركوا العمل به . وقال ابن تيمية : " أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم
ينفعه الله بعلمه ، فذنبه من جنس ذنب اليهود " ،
كما وأن الإعراض عن آيات الله بتعطيل أحكامها من أعظم صور الظلم . قال الله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } ( الكهف : 57) ،
ولذلك يوصي شيخ الإسلام ابن تيمية طالب العلم بأن يبدأ بحفظ القرآن؛ فإنه أصل علوم الدين، ثم يقول: " والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل؛ فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين " (3) ،
ويجدر بنا أن ننوه إلى ما ذكره خطيب السُّنة الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قُتَيْبَة ، في كتابه " تأويل مُشْكِل القرآن " (4) قال: " ولم يفرض الله على عباده أن يحفظوا القرآن كلَّه ، ولا أن يَختموه في التعلُّم ، وإنما أنزله ليعملوا بمُحْكَمه ويؤمنوا بمتشابِهه ، ويأتمروا بأمره ، وينتهوا بزَجْره ، ويحفظوا للصلاة مِقدار الطاقة ، ويقرؤوا فيها الميسور، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وهم مصابيح الأرض ، وقادَة الأنام ، ومنتهى العلم إنما يقرأ الرجل منهم السورتين والثلاث والأربع ، والبعض والشَّطر من القرآن ، إلاَّ نَفَرًا منهم وفَّقهم الله لِجَمْعِهِ ، وسهَّل عليهم حفظه ، قال أنس بن مالك : " كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ فينا ، أي جلَّ في عيوننا ، وعَظُمَ في صدورنا " ،
* يوشك أن تداعى عليكم الأمم :
ويوم أن هجر المسلمون القرآن إلا من رحم الله تعالى ، ويوم أن اتخذ بعضهم تلاوته عملا ، ويوم تميعت علاقة المسلمين بالقرآن الكريم ، ويوم أن تركوا القرآن وحكموا أفكار البشر والقوانين الوضعية تحققت فيهم نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتداعت عليهم الأمم من كل حدب وصوب ،
نعم تحققت نبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي قالها منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان ، وجاءت نبوءته كفلق الصبح نراها ونعيشها ونعاني منها ونكتوي بنيرانها ، ولا زلنا نعايشها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولا عجب فهو الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، نعم لقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نحن فيه اليوم وصدقت نبوءته ، واسمع معي إلى هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وأحمد رحمه الله ، وصححه الألباني ، عن ثوبان رضي الله عنه ، هذا الصحابي الجليل يروي لنا مشهدا من مشاهد الروعة والجلال للصادق الأمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو يعلم أصحابه ويعلمنا من خلالهم ، يحدث أصحابه عن أمر سيقع في المستقبل لهذه الأمة ، ويحدثنا من خلالهم ، فماذا قال المعصوم صلى الله عليه وسلم ، إسمع بعد أن تصلي عليه !! قال الحبيب : " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت "،
هكذا يخبر القائد أصحابه ، ويخبرنا من خلالهم ، يصف لهم المستقبل كأنه ماثل أمام أعينهم ، يحدثهم من وراء حجب الغيب ، ويحذرهم مما نحن فيه اليوم ، يوشك أن تنقض عليكم الأمم ، تهجم عليكم الأمم من كل حدب وصوب ، كما تتكالب الأكلة على قصعتها ، قوم أخذ منهم الجوع والمخمصة كل مأخذ ، فوضعت بين أيديهم قصعة فيها طعام فماذا يحدث ، إنهم سيتكالبون على القصعة كل منهم يريد أن يفوز منها بنصيب الأسد ، هكذا سيكون حال الأمة كما أخبر رسول الله ، هنا تعجب الصحابة لما سمعوا من رسول الله ، وتساءل بعضهم ، أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ هل سيكون ذلك بسبب قلة عدد المسلمين ، أتطع فينا الأمم لأننا قلة ، قال المعصوم كلا ، بل أنتم يومئذ كثير ، كثيرون في العدد ، فالمسلمون اليوم عددهم في العالم أكثر من مليار ونصف المليار ، أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، وهو ما يحمله السيل من زبد ووسخ ورغوة ، شبههم به لقلة شجاعتهم ودناءة قدرهم.والوصف كناية عن الضعف، والانفصال عن الجذور ، غثاء لا قيمة له ولا وزن له ولا فائدة فيه ،
ثم ماذا اسمع : غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، أي أن الله تعالى يخرج الخوف والرعب من قلوب عدوكم فلا يخافوكم ، ولا يهابونكم وإنما يتجرأون عليكم ، ثم ماذا : وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، أي أن الله تعالى يلقي في قلوبكم الضعف ، قالوا وما الوهن يا رسول الله ، أي ما سببه وما يوجبه ، قال : حب الدنيا وكراهية الموت ،
قال ( الطيبي ) رحمه الله سؤال عن نوع الوهن أو كأنه أراد من أي وجه يكون ذلك الوهن ، قال حب الدنيا وكراهية الموت وهما متلازمان فكأنهما شيء واحد يدعوهم إلى إعطاء الدنية في الدين من العدو المبين ، ونسأل الله العافية ،
أنا أريدك أخا الإيمان أن تعيد النظر في هذا البيان النبوي المحمدي الكريم ، ثم لنتساءل في دهشة وعجب ، أليس ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بعينه الواقع الذي نعيشه اليوم ونعاني منه ومن ويلاته ،
* الغثائية والوهن :
مليار ونصف المليار مسلم ، ولكنهم غثاء كغثاء السيل ، لا وزن ولا اعتبار ولا قيمة ولا فائدة ، طعامنا من غيرنا ، دواؤنا من غيرنا ، سلاحنا من غيرنا ، قرارنا ليس بأيدينا وإنما هو بأيدي غيرنا ، الواقع الأليم يقول أننا أمة لا تفعل شيئا ، وإنما نحن أمة مفعول بها على طول الخط ، وكأننا نسينا أن في قواعد لغتنا العربية شيء إسمه الفاعل ، نعم فلا يوجد في قاموس واقعنا المعاش شيئا اسمه الفاعل ، شطبنا الفاعل ، وأبقينا على المفعول به ،
أمتنا لا وزن لها في عالم اليوم ولا يعمل لها أي حساب ،
تماما كما قال شاعرها جرير :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ***ولا يستأذنون وهم شهود
بيت الشعر هذا يجسد واقعنا المرير ، وحالنا الأسيف ، فجرير يتحدث عن إحدى قبائل العرب هي قبيلة " تيم " ويصف ضعفها وخورها وانهزامها وانحطاطها ، فيقول : ويقضى الأمر حين تغيب تيم ، ولا يستأذنون وهم شهود ، أي لا قيمة لهم إذا حضروا أو غابوا ، حضورهم كغيابهم سواء بسواء ، وهكذا أمتنا اليوم إلا من رحم الله ،
فالمسلمون اليوم مستضعفون نعم ، وتلك حقيقة لا يماري فيها عاقل ، مشتتون متمزقون نعم ، مقهورون نعم ، مهضومة حقوقهم ، نعم ، مسلوبة أراضيهم نعم ، مسفوكة دماؤهم ، نعم ، منتهكة أعراضهم ، نعم ، منهوبة خيراتهم ، نعم ، مصادر قرارهم نعم ، يتلاعب بهم عدوهم كيف يشاء نعم ،
نعم إخوة الإيمان تلك هي حقيقة واقعنا اليوم ،
طعامنا في يد أعدائنا ، ودواؤنا في يد أعدائنا ، وسلاحنا في يد أعدائنا ، بل وقرارنا لا نملكه إنما هو في يد أعدائنا ، هم يقررون لنا ونحن ننفذ ما يقررون ،
نعم واقعنا الأليم يقول أننا أمة لا تفعل شيئا ، وإنما هي مفعول بها على طول الخط ، وكأننا شطبنا " الفاعل " من كتب النحو ، لأننا كرهناه ، وأبقينا فقط على المفعول به لأننا أدمناه وصرنا لا نطيق الحياة بدونه ، أدمنت الأمة الانبطاح والانكسار ، والتخاذل ، ونسينا أمة مكانها في الصدارة ، أمة رائدة ، أمة قائدة ،
هذا هو حال الأمة الإسلامية اليوم ، الضعف والهوان والتخلف والتراجع ، وتلك حقيقة لا يماري فيها إلا مكابر ، ولا ينكرها إلا من لا عقل له ، ولكنها حقيقة يقع وزرها على المسلمين أنفسهم ، لا على الإسلام ، ولا تصلح عذرا لمجموع الأمة يوم القيامة ، اليوم الذي قال الله تعالى بشأنه : " بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره " ،
ونعود إلى الحديث : لنعرف السبب في هذا الضعف والهوان ، والحديث واضح : السبب : حب الدنيا والتعلق بها ، وكراهية الموت ،
حب الدنيا ، مع أننا نعلم أنها زائلة لا محالة ، فانية لا محالة ،
حب الدنيا مع أنها لهو ولعب ، كما أخبرنا القرآن ،
وكراهية الموت وهو آت لا محالة ، وملاقينا لا محالة ، قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ، هكذا أخبرنا القرآن ،
ما في الحياة بقاء **ما في الحياة ثبوت
نبني البيوت وحتما **تنهار تلك البيوت
تموت كل البرايا **سبحان من لا يموت
* حديث التداعي وواقعنا المعاصر :
وحول هذا الحديث الشريف ، ومدى إمكانية إنزاله على واقعنا المعاصر ، فإننا سنتبين ما يلي :
1- صورة حية ناطقة : رأينا كيف يضعنا النبي صلى الله عليه وسلم أمام هذه الصورة الحية ، إنها صورة حركية مجسدة ومدهشة ، يمثلها بقوم بلغ بهم الجوع مبلغه ، حتى وصلوا إلى مرحلة من الحاجة للطعام أخذت عليهم مجامع عقولهم واهتمامهم ، فراحوا يبحثون عن وليمة باردة سهلة يأكلونها ،
2- قصعة الطعام : وعندما يجدون هذه الفريسة ( القصعة ) ؛ يقف كل واحد منهم على مشارف الطرق ، ويذهب إلى النوادي والمحافل يدعو الأمم والفرق والأفراد والجماعات ، بينما هنا الداعي إلى الطعام لئيم حاقد تأصل فيه الشر حتى صار معدناً للشر ، أي كما يدعو صاحب الطعام ضيوفه إلى الوليمة ، كذلك الأمم والفرق الضالة ، والفئات المعادية ، تدعوا بعضها لينقضوا عليكم يا معشر أمة محمد إذ أنتم الوليمة يومئذ ، وتأمل هذا التشبيه الأول للمسلمين وأمتهم بالقصعة ، الغنيمة الباردة ، التي يهيئها صاحبها بالنسق الذي يسيل لعابه ، ويتحكم بشكلها وطعمها ، والقصعة بين يديه مستسلمة تنتظر موعد وصولها إلى فم آكلها ،
3- تشبيه له مغزى : إن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم تداعي الأمم بتداعي الأكلة على قصعتها ، ليوحي لنا بتلك النفسية العفنة التي انطوت على شراهة واندفاع شديد نحو القصعة يغذيه جوع دموي دفين ، ولعل هذا ما أدى بسيدنا ثوبان رضي الله عنه أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب التداعي ، سبب هذا العداء المستحكم والهجوم الشرس ، هل هو من القلة في العدد لدى أمة الإسلام ، حتى استخفت هذه الأمم بالمسلمين واستهترت بما معهم؟ هنا السؤال عن السبب والعلة ، على العداء ، وسبب الكيد والتدبير والهجوم ،
4- بل أنتم يومئذ كثير – الكثرة الغثائية : فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم جواب الحكيم الذي يفتح مدارك الوعي الإيماني في قلب وعقل المسلم ، حتى لا يكون هو ثغرة يؤتى من خلالها على المسلمين وبلادهم فيكون سبباً لذلة إخوانه ، وسببا لضياع أمته ، وسببا لنيل الأعداء منها ، هنا تأتي الإجابة من المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ليست العلة في قلة العدد ، ومتى كان العدد هو العامل الحاسم في نصر المسلمين أو هزيمتهم ، نعم ليست قلة العدد هي السبب ، أو ما رأينا إلى المسلمين في " بدر " التي خلدها التاريخ (5) ، لقد كانوا قلة ، وكان عددهم لا يتناسب مع عدد عدوهم ، ومع ذلك لم يستطع عدوهم أن ينتصر عليهم ، وإنما انتصرت القلة على الكثرة ، ولم تغن كثرة الأعداء عنهم شيئا ، فيقول الحق سبحانه في كتابه الكريم : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ }{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }( سورة آل عمران : من 123 - 126 ) ، وكذلك في واقعة الأحزاب (6) ، يوم تداعى الجمع عليهم ولم يحقق الله آمال الكافرين في المسلمين مع أن المسلمين كانوا قلة ، إذن ليس للعدد وزن ولا قيمة عند الله ، ولم يجعله الله السبب الرئيس للانتصار في المعارك ،
إن المسلمون عندما تتداعى الأمم عليهم يومئذ عددهم كثير كثير ، ولكنهم غثاء كغثاء السيل ، " الرسول يحدثنا عن الغثائية التي نعاني منها اليوم " ، تأمل أخي المسلم هذا التشبيه الثاني للمسلمين بالغثاء وهو ما ارتفع على وجه الماء وحمله السيل من الوسخ والجيف والأعواد وما سواها مما لا ينفع الناس ولا يقوم به شيء ، ومعلوم أن الغثاء تبع للسيل الجارف لا يقوى على المصادمة ولا خيار له في الطريق الذي يسلكه مع السيل ، بل شأن هذا الغثاء السمع والطاعة العمياء للسيل الجارف الذي يحصد كل ما أتى أمامه ،
5 – بين المهابة والوهن : ويبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب هذا الاستسلام والانقياد الأعمى مع معرفة المنقاد أنه ذاهب إلى الهاوية ، وكأنه صلى الله عليه وسلم قرأ ما في نفس كل سامع للحديث السؤال الذي يتداعى إلى النفس : وممّ هذا ؟ وما السبب في تلك الغثائية ، فيجيب الرسول الرحيم بقوله " ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن " ، وفي رواية " ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن " ، وفي لفظ : " تنتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن " ، إن هذه الألفاظ جميعها تشير إلى :
ـ أن أعداءنا كانوا يهابوننا ، " ينتزع المهابة من قلوب عدوكم " ومثله من روايات الحديث السابقة ، وهذه المهابة لنا في قلوب العدو سببها الوهن الذي فيهم ، والذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بـ ( حب الدنيا وكراهية الموت ) ، إذن إن الوهن الذي أصاب أعداءنا سببه حبهم للدنيا كما قال تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ( البقرة : 96) ، هذا من طرفهم ، وأما من طرف المسلمين فحبهم للموت كان يزرع المهابة في قلوب عدوهم ، وهذا مما يجعل أعداء الإسلام أن يحسبوا للمسلمين ألف حساب عندما تراودهم أنفسهم في التورط بالقتال مع المسلمين ، عندما يعلمون أن المسلمين يحرصون على الموت أكثر من حرصهم هم على الحياة ،
- ولكن يوم التداعي الذي يحدثنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم تتغير الأحوال ، وتتداخل القلوب وتتدخل الأهواء ، ويتحكم الهوى ، وتدخل الدنيا نفوس وقلوب المسلمين ، وتصبح المصالح هي الموجهة بدل الإيمان ، وتؤثر الدنيا على الدين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ( المائدة :105 ) ، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم في معناها : " بل ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من وراءكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم " قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة : " قيل يا رسول الله : أجر خمسين رجلاً منا أو منهم ؟ ، قال : بل أجر خمسين منكم " (7)
6- ثم ماذا .....إن ثوبان رضي الله عنه سمع كلمة ( الوهن ) فأخذت انتباهه ، فهي لفظ مجمل فعندهم مرض يصيب الكتف يسمى وهناً ، والضعف وهن ، والمرض وهن ... فأي أنواع الوهن يصيبهم ؟ ، ثم لكل نوع من الوهن أسبابه ، فما أسباب هذا الوهن الذي يصفه رسول الله ، إن الجواب أعطى للوهن مدلولاً إيمانياً يشمل كل المعاني السابقة ، وأضاف إليها أم المعاني ، إنه : حب الدنيا وكراهية الموت ، وعند الطيالسي : ( بحبكم الدنيا .. ) فالباء سببية ، أي بسبب حبكم الدنيا وكراهيتكم للموت ، إنه وهن قلبي ، وهن نفسي ، وهن فكري ، وهن عقائدي تسرب إليكم لتشرب قلوبكم حب الدنيا ، فتعلقت بها كتعلق الغريق بقشة يظن فيها النجاة ، فالعدو يمتلك الدنيا ورفاهيتها ، وأخذ يتحكم بها فينا كما يريد ، ويلوح بها أمام أعينا كما يلوح الرجل لكلبه بقطعة لحم ، يزينها له ليستعبده ، فيلهث الكلب ويسيل لعابه ، ويرضى لنفسه أن يكون منقاداً لسيده مقبل أن يعطيه الطعام ، كذلك الذي أشرب قلبه حب الدنيا واستمسكت نفسه بها وظن أن السعادة فيها ، أخذ يخاف من زوالها من يديه فأتقن سبب تحصيلها ، أتدري ما هو ؟ ، أن يكون ذليلاً منقاداً في السيل الجارف ، أن يكون إمعة لا رأي له ، أن يكون ريشة في مهب الريح تتقاذفه الأفكار وتتلاعب فيه العواطف ،أن يكون سلاحاً يحارب به إخوانه المسلمين في الأرض ويحارب به الإسلام .
والآن هل أدركت معي أخي المسلم سر تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم لحال المسلمين في زمن التداعي بـ ( القصعة ، والغثاء ) .
وهل أدركت سر المهانة التي يعيشها المسلمون اليوم ؟ وسر استهانة عدونا بنا وسبب جرأته علينا ،
هل وهل .. أسئلة كثيرة تطرح نفسها في كل وقت عندما :
ـ تسمع أن اليهود والنصارى يريدون تغيير المناهج الشرعية في بلاد المسلمين ، وتنعقد المؤتمرات لذلك في بلاد المسلمين ؟ .
ـ تسمع تصريحات الصليبيين علناً في محاربة الإسلام ، والقضاء على العلماء ، وما تعلنه جرائدهم وأبواقهم اللئيمة مطالبة بهدم الكعبة المشرفة زادها الله تعظيماً .
ـ تسمع شتمهم للنبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بما لا يرضاه أحدنا لنفسه فكيف لنبيه؟
ـ ترى قتل المسلمين في أندنوسيا وكشمير وأفغانستان وفلسطين والعراق .. بجهود دولية وتحالفات رسمية تحت شعار الإنسانية .
ـ ترى من هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ويحملون أفكاراً علمانية يلبسونها ثياباً إسلامية ليستسيغها شباب المسلمين ، ويحرفوا عقولهم ...... .
وغير ذلك كثير مما ينفطر القلب له ، ونحن الذين يبلغ تعدادنا ملياراً ونصف المليار ، ولكننا كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل ، كم خسرنا عندما خسرنا إيماننا ، كم خسرنا عندما خسرنا خلافتنا ، كم خسرنا عندما خسرنا تشريعنا ، وكم .. وكم .. ، بل كم خسر العالم عندما خسرنا نحن ، وعندما خسرنا إسلامنا ؟ ؟ ؟ .
إننا لا نتحدث بلهجة اليائس من رحمة الله حاشا لله ، ولكن ننبه إلى واقعنا الأليم وما يتطلبه من كل واحد منا في أنوار هدي النبوة ، فالعلاج في الحديث أن ننزع حب الدنيا من قلوبنا ، وأن نتذاكر الموت فيما بيننا ، وأن نملك مفاصل القوة وأسبابها وأولها كراهية الدنيا وحب الموت ، ولا يظنن ظان أن المقصود بكراهية الدنيا تركها والإعراض عنها بل ترك حبها والتعلق فيها ، و أن تكون بأيدينا لا في قلوبنا ،
مرة أخرى إخوة الإيمان نقول ، حياتنا في القرآن ، صلاحنا في القرآن ، فلاحنا في القرآن ، خلاصنا مما نحن فيه بالصلح مع الله ، وإعادة الاعتبار لعلاقتنا بالقرآن الكريم ،
ها هو الصحابي الجليل ( أبو الدرداء ) رضي الله عنه لما فتح المسلمون جزر البحر المتوسط جلس يبكى , فقالوا له : أتبكي يوم النصر يا أبا الدرداء؟ فقال نعم أبكي على حال هؤلاء - الكفار- هم كفروا بالله وعصوا الله ، فمكننا الله من رقابهم فانتصرنا عليهم ، وأخشى أن يأتي اليوم الذي نعصي الله فيه ، فيمكنهم الله من رقابنا فينتصروا علينا " ،
* أنوار الوعد الإلهي لهذه الأمة :
وفي أجواء المحنة والفتن ، وحماية لهذه الأمة من الوقوع في براثن اليأس والقنوط ، تأتي أنوار الوعد الإلهي بالنصر والتمكين لدين الإسلام ، وبالاستخلاف والتمكين والأمن لأمة الإسلام ، فقال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }( النور : 55 ) ، والمعنى : وعد الله بالنصر الذين آمنوا منكم وعملوا الأعمال الصالحة، بأن يورثهم أرض المشركين، ويجعلهم خلفاء فيها، مثلما فعل مع أسلافهم من المؤمنين بالله ورسله, وأن يجعل دينهم الذي ارتضاه لهم- وهو الإسلام- دينًا عزيزًا مكينًا، وأن يبدل حالهم من الخوف إلى الأمن، إذا عبدوا الله وحده، واستقاموا على طاعته، ولم يشركوا معه شيئًا، ومن كفر بعد ذلك الاستخلاف والأمن والتمكين والسلطنة التامة، وجحد نِعَم الله ، فأولئك هم الخارجون عن طاعة الله.
ذلكم هو الوعد الإلهي لهذا الدين ولهذه الأمة ، وهذا يعني :
- أن الذي وعد هو الله جل جلاله ،الذي لا يخلف الميعاد ، ووعد الله لا يتغير ولا يتخلف ،
- لمن الوعد ، لأهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الحياة ،
- مضمون الوعد : وعد الله المؤمنين العاملين أن يحقق لهم ثلاثة أمور :
الأول : الإستخلاف في الأرض ،
الثاني : التمكين لدين الإسلام ،
الثالث : الأمن من بعد الخوف ،
- شروط تحقيق الوعد : عبادة الله وحده ، وعدم الإشراك به ،
وتأسيسا على هذا الوعد الإلهي الناجز فإننا على يقين أن الإسلام سيبلغ ما بلغته الشمس ، وأن راية الإسلام سترفع في كل مكان على وجه الأرض وخاصة في روما ، ولكن لنقرأ قوله تعالى : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } ( محمد :38 ) ، أي وإن تتولوا عن الإيمان بالله وامتثال أمره يهلكُّم ويذهب بكم , ويأت بقوم آخرين , ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن أمر الله , والإعراض عن منهجه ، بل يطيعونه ويطيعون رسوله , ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم ، وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأنفال:53) ، أي ذلك الجزاء السيِّئ بأن الله إذا أنعم على قوم نعمة لم يسلبها منهم حتى يغيِّروا حالهم الطيبة إلى حال سيئة, وأن الله سميع لأقوال خلقه, عليم بأحوالهم، فيجري عليهم ما اقتضاه علمه ومشيئته ، وقوله عز وجل : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } (الرعد:11) (8) ،
* نماذج للأجيال التي صاغها القرآن ، وبناها الإسلام :
ويوم أن كانت أجيالنا تتربى على مائدة الرحمن ، وتنصهر في بوتقة القرآن ، تتنسم عبيره ، وتتخلق بأخلاقه ، وتتأسس على قيمه ومبادئه ، وتعاليمه وأحكامه ، رأينا نماذج وضاءة من فتيان الإسلام وشبابه ما عرف لهم تاريخ البشرية مثيلا ،
- رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب شابا من شباب هذه الأمة لم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة قائدا لجيش الإسلام ، إنه أسامة بن زيد رضي الله عنه ، وما أدراك ما أسامة ، الحب بن الحب ، كان شابا في ريعان الصبا يوم أن قاد جيشا عظيما فيه أكابر الصحابة رضوان الله عليهم ، فيه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، فياله من نموذج مشرق نحتاج إلى أن نعلمه للدنيا بأسرها ،
- ورأينا نموذجا آخر يمثله محمد بن القاسم الثقفي ، أصغر فاتح في تاريخ الإسلام ، بل في التاريخ كله ، صنعه الإسلام ، وصاغه القرآن ، فاتح بلاد السند والبنجاب ( باكستان حاليا ) ، ومؤسس أول دولة إسلامية في الهند ، كم كان عمره يومها ، سبع عشرة سنة ، واقرؤوا التاريخ ، وتعلموا من دروسه ،
- ورأينا نموذجا فذا لطفل من أطفال الإسلام ، صبي صغير لم يبلغ الحلم ، ولم يجر عليه القلم ، لكنه يوزن بمئات الرجال في ذكائه وفطنته وعقله وعلمه وشجاعته وجرأته ، يروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يمشي ذات مرة في طرقات المدينة ، وأنتم تعلمون من هو عمر ، وشدة عمر ، وهيبة عمر ، مر يوما على ثلة من الصبية الصغار يلعبون في طرقات المدينة ، فما أن رأوا عمر حتى هرولوا جميعا وفروا هاربين لهيبة عمر وخوفا منه ، وبقي صبي واحد لم يتحرك من مكانه ، لم يفر ولم يهرول ، أقبل عليه عمر يسأله : لم لم تعد ( تجري ) مع أقرانك ، قال الصبي بكل جرأة وثبات ووعي وغهم ، يا أمير المؤمنين ، ولماذا أجري ولم أخافك ، فلم اقترف ذنبا فأخافك ، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسعها لك ، فابتسم أمير المؤمنين وربت على كتفه ودعا له ، أتدرون من كان هذا الصبي ، إنه عبد الله بن الزبير ابن العوام ، الذي أصبح فيما بعد من رجالات الإسلام الذين يشار إليهم بالبنان ،
كانوا رجالا وهم صبية ، وكانوا أفذاذا مهم بعد صغار في السن ،
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالرجال فلاح ،
وأخيرا مرة أخى ليتنا نعلم أن القرآن الكريم هو سبيلنا الوحيد لعودة الأمة الإسلامية لسالف مجدها وغابر عزها ، وأن الحياة الدنيا إلى زوال ، وأن أمر الله يوشك أن يأتي ،
ما في الحياة بقاء *** ما في الحياة ثبوت
نبني البيوت وحتما *** تنهار تلك البيوت
تموت كل البرايا *** سبحان من لا يموت
الهوامش والاحالات :
===========
(1) - أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي أبو بكر : " اقتضاء العلم العمل " ، تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ، 1404 هـ - 1984م ، ص : 76 ،
(2) - ابن قيم الجوزية : " في زاد المعاد في هدي خير العباد " تحقيق : شعيب الأرنؤوط ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، توزيع دار الريان للتراث ، ط15 ، 1987م ، ج1 ص: 337 ،
(3) - انظر : شيخ الإسلام أحمد بن تيمية : " مجموع الفتاوى " ، جمع وترتيب : الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه الشيخ محمد ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف ، المدينة النبوية ، 1412 هـ ، ج 2 ، ص : 234 ،
(4) - أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قُتَيْبَة : " تأويل مُشْكِل القرآن " ، تحقيق : السيد أحمد صقر ، مكتبة دار التراث ، القاهرة ، ط2 ، 1973م ، ص : 233 ،
(5) - غزوة بدر الكبرى ، أول معركة حربية كبيرة خاض غمارها المسلمون بقيادة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حيث كانت البداية الحقيقية للجهاد بالسلاح ، الذي خاضه المسلمون ضد أعداء الدعوة الإسلامية ، وكان المسلمون يومئذ قلة مستضعفة ، وكان العدو يفوقهم عددا ، حتى بلغ ثلاثة أضعاف عددهم ،
(6) - غزوة الأحزاب : ( وقعت في شوال من السنة الخامسة من الهجرة النبوية المباركة ) ولقد مثلت هذه الواقعة ابتلاءا شديدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم ؛ إذ رمتهم العرب عن قوس واحدة ، واجتمعت عليهم جموع المشركين مع غدر اليهود وتخذيل المنافقين ، في واقعة سميت بغزوة الأحزاب ، ونزل في وصف شدتها ومحنتها آيات بينات تتلى إلى آخر الزمان ، وفي تلك الغزوة كما قال بعض العلماء العصريين: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والصحابة درجة الصفر، أي: أن فيها انتهت الآمال ، وانقطعت الحبال ، إلا حبل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ؛ حتى يقول الله تعالى : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } ( الأحزاب:10-11 ) ،
(7) ـ أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح ، انظر : - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 700 -774 هـ ) : " تفسير القرآن العظيم " ، تحقيق : سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة للنشر والتوزيع ، ط2 ، 1420هـ / 2000م ، ص :444،
(8) - مرهف سقا : " إبلاغ الواعي لحديث التداعي " ، في : علي بن نايف الشحود (جمع وإعداد ) : " موسوعة البحوث والمقالات العلمية " ، المصدر : موقع المكتبة الشاملة ،
---------------
العنوان كما وردنا:
واقعنا المعاصر والموقف من القرآن الكريم خطبة مسجد الصحابة يونيو 2013
واقع الامة اليوم
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: