صيدلية القرآن – ما شاء الله لا قوة إلا بالله (5-1)
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5420
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين
المنعم على عباده بألوان النعم الظاهرة والباطنة ، أمرنا بالإكثار من حمده والثناء عليه سبحانه ، فهو أهل الحمد والثناء ، فيارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ،
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }( الإسراء : 111) ،
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، سبحانه سبحانه ، خلق الإنسان وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا ، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه طاهرة وباطنة ، سبحانه القائل : {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ، وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }( لقمان : 20 ) ، آية خبرية ، تنبئنا بفضل الله علينا وما حبانا به من نعم وآلاء مما ينبغي أن نتنبه له ولا نغفل عنه في غمرة الحياة :
- فالله تعالى سخر لنا ما في السموات ( من الشمس والقمر والسحاب والنجوم والكواكب وغير ذلك كثير ) , وما في الأرض ( من الدوابِّ والشجر والماء والجبال والمعادن والوديان ) , وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعد ,
- كما أن الله تعالى عم جميع الخلق بنعمه الظاهرة على الأبدان والجوارح , والباطنة في العقول والقلوب , وما ادَّخره لنا سبحانه مما لا نحيط به علما ،
- ومع ذلك ، وبالرغم من كل تلك النعم ، فهناك من الناس مَن يجادل في توحيد الله ، وإخلاص العبادة له بغير حجة ولا بيان وبرهان , ولا كتاب مبين يبيِّن حقيقة دعواه ،
إلهي :
لما علمت بأن قلبي فــــــارغ 00 ممن سواك ملأته بهداك
وملأت كلي منك حتى لم ادع 00 مني مكانا خاليا لسواك
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، علمنا كيف يكون الإقرار بالنعم وذكرها ، وشكر المنعم وصرفها في ما يحبه ويرضاه ، فتروي لنا السيدة عائشة رضي الله عنها أنه قام ليلة يصلي ، فلم يزل يبكي حتى بل حجره ، ثم بكى ، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، و جاء بلال يؤذن بالصلاة ، فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله تبكي و قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ (1)
سيدي أبا القاسم يا رسول الله :
البدر دونك في قدر وفي شرف – والبحر دونك في خير وفي كرم
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له – وأنت أحييت أجيالا من العدم
صلى الله عليك وعلى آلك وصحابتك الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
أمــا بعـــد :
فأوصيكم – أيها الأحباب - ونفسي الغافلة الخاطئة بتقوى الله عز وجل في السراء والضراء ، وفي الشدة والرخاء ، وفي السر والعلانية ،
فالتقوى هي خير ما يتزود به الإنسان في رحلة سفره إلى الله ، قال تعالى : { .....وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } ( البقرة : 197 ) ، ولذلك عندما سئل الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله : عن سر زهده في الدنيا وانصرافه عنها ، قال : أربعة أمور جعلتني أنظر إلى الدنيا على حقيقتها : الأول : علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري فاطمأن قلبي ، إذا فالقضية الأولى هي قضية الرزق ، والله قد تكفل به وضمنه لكل مخلوق ، قال تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }( هود : 6 ) ،
وقال تعالى : {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }العنكبوت60 ) ، أي وكم من دابة لا تدَّخر غذاءها لغد, كما يفعل ابن آدم, فالله سبحانه وتعالى يرزفها كما يرزقكم, وهو السميع لأقوالكم, العليم بأفعالكم وخطرات قلوبكم ،
وقال عز وجل : {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ، َوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }الذاريات22- 23 ) ، سمعها أعرابي يوما فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى الجؤوه إلى اليمين ، قائلا ثلاثا، وخرجت معها نفسه ، فمات من ساعته ،
قال الحسن : وأما الأمر الثاني : علمت أن الله مطلع علي فاستحييت أن يراني على معصية ، فما دام يوقن أن الله يراه فكيف يحتريء على المعاصي والذنوب وهو يعلم أن الله مطلع عليه ، ولذلك كان الرجل من سلفنا الصالح إذا هم بالخروج من بيته ، وقف على باب البيت يذكر نفسه قائلا : الله معي ، الله ناظر إلى ، الله شاهد علي ، الله مطلع علي ، ثم يمضي لحال سبيله ، وهو مستحضر تلك المعاني ،
وأما الأمر الثالث : علمت أن عملي لا يقوم به أحد غيري فاشتغلت به وحدي ،
وأما الرابع فلقد علمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله رب العالمين "
إبن آدم :
تزود من حياتك للمعاد *** وقم لله واجمع خير زاد
ولا تركن إلى الدنيا كثيرا *** فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنت بغير زاد
* حقائق إيمانية بين يدي الموضوع :
أيها الإخوة الأعزاء :
مجموعة حقائق إيمانية نصدر بها هذا اللقاء الكريم ، وننوه بها بين يدي الحديث عن موضوع اليوم والذي يدور حول كيفية صيانة النعم الربانية على العبد ،
- الحقيقة الأولى : مصدر جميع النعم هو الله وحده :
- ذلك أن الإنسان – أي إنسان – هو في حقيقته مخلوق لله تعالى ، يتقلب في نعم الله التي لا تحصى ولا تعد ، فعليه أولا أن يقر بتلك النعم ، وأن يعترف بفضل المنعم عليه ، حين يعلم يقينا أن كل النعم التي ينعم بها هي من الله عز وجل وحده ، وهي محض فضل من الله تعالى عليه قال تعالى : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } ( النحل : 53 ) ، والمعنى – والله أعلم بمراده – أن جميع ما بكم مِن نعمةِ هدايةٍ , أو صحة جسم , أو سَعَة رزقٍ وأهل وولد , وجاه وسلطان ومكانة ، ...وغير ذلك , فهي جميعا مِنَ الله وحده , فهو المُنْعِم المتفضل بها عليكم, ودلل على ذلك شعورهم الفطري وهو أنهم إذا مسهم الضر من فقرٍ أو مرض أو تغير حال كخوف غرقٍ في البحر ، فإنهم يرفعون أصواتهم إلى أعلاها مستغيثين بالله ، سائلينه أن يكشف ضرهم أو ينجيهم من هلكتهم المتوقعة لهم فقال عز وجل: {ثم إذا مسكم الضر فإليه} دون غيره {تجأرون} برفع أصواتكم بالدعاء والاستغاثة به سبحانه وتعالى ، أي إذا نزل بكم السقم والبلاء والقحط فإلى الله وحده تَضِجُّون بالدعاء ليرفع عنكم ما نزل بكم ، وليس ذلك إلا لله وحده ،والخلاصة على الإنسان ، يعلم أنه ما من خير إلا والله تعالى مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة ، إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله ،
كما أن أن نعم الله على الإنسان هي من الكثرة والتنوع بحيث لو ذهبنا لعدها وحصرها ما أمكننا ذلك ، فالإنسان مهما أوتي من قدرة ومهارة وذكاء وفطنة لا يستطيع أن يحصي نعم الله عليه عددا لكثرتها وتنوعها ، ولذلك قال الحق تعالى : {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }( إبراهيم : 34 ) ، فالله تعالى قد تفضل عليكم وأعطاكم من كل ما طلبتموه دون استحقاق , وإن ذهبتم لتعدُّوا نِعَم الله عليكم لا تطيقوا عدها ولا إحصاءها ولا القيام بشكرها ، لكثرتها وتنوُّعها ، إن الإنسان لَكثير الظلم لنفسه , كثيرالجحود لنعم ربه ، وفي موضع آخر من القرآن الكريم تكرر هذا المعنى نفسه فقال تعالى : {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }( النحل : 18 ) ، أي وإن تحاولوا حَصْرَ نِعَم الله عليكم لا تَفُوا بحَصْرها ، لكثرتها وتنوعها ، إن الله لَغفور لكم رحيم بكم ، إذ يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم , ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ومعصيتكم , ولا يعاجلكم بالعقوبة ،
- الحقيقة الثانية : أمهات النعم :
أن أمهات النعم الإلهية على الإنسان ثلاث : نعمة الإيجاد والإمداد والإرشاد ، الإيجاد من العدم ، والإمداد من العدم ، والإرشاد إلى دين الله القويم وصراطه المستقيم ، واعلم أن اثنتان من تلك النعم عمت المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والصالح والطالح ، فهي لكل إنسان على وجه البسيطة من لدن آدم إلى أن يرث الله عليها ، وهما نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، نعمتان لكل الناس ، بل لكل ما خلق الله تعالى وبرأ ، فالله تعالى خلق الإنسان وأوجده من العدم بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، وعلى الإنسان ألا ينسى ذلك أو يغفل عنه ، والله تعالى ذكره بذلك لينتبه لتلك النعمة ، ففي مطلع سورة الإنسان نقرأ قول الله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ، {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } ( الإنسان :1 – 2 ) ، وهكذا كل إنسان مر عليه أمد طويل لم يكن شيئا يُذكر, ولا يُعرف له أثر ، فخلقه الله وسواه ، والله تعالى أمده من العدم ، وعلى موائد كرمه رباه ، فهاتان نعمتان من أمهات النعم التي من الله بها على جنس الإنسان ، الخلق والإمداد ، فما خلقت نفسك أيها الإنسان ، وما رزقت نفسك ، وليس في الكون من يخلق ويرزق سوى الله ، وهاتان النعمتان هما لكل إنسان ، للبر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، والتقي والشقي ، لا فرق في ذلك بين إنسان وآخر ،
- الحقيقة الثالثة : أن الله تعالى خص المؤمن وحده بنهمة الهداية والإرشاد :
فمن بين جميع الناس ، خص الله المؤمن بنعمة خاصة علاوة على النعمتين السابقتين ، تفرد بها وتميز عن سائر الناس هي نعمة الهداية والإرشاد ، فهداه إلى دينه القويم ، وصراطه المستقيم ، وميزه على سائر جنس الإنسان بأن وفقه للإسلام ، وجعله من أتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم ، ومن عليه بالإيمان ، قال تعالى :{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }( الحجرات : 17 ) ، فلقد كان بعض الأعراب يمنون على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم ، ومتابعتهم ونصرتهم له , فأمره الله تعالى أن يقول لهم: لا تَمُنُّوا عليَّ دخولكم في الإسلام ، فإنَّ نفع ذلك إنما يعود عليكم , ولله المنة عليكم فيه أنْ وفقكم للإيمان به وبرسوله , إن كنتم صادقين في إيمانكم.
- الحقيقة الرابعة : النعم تستوجب الذكر والشكر :
أن نعم الله عليك أيها الإنسان تستوجب منك الشكر للمنعم جل جلاله ، وذلك الشكر إنما يكون بالإيمان والامتثال والطاعة لله ورسوله ، واتباع منهجه وهديه والمداومة على ذلك ، وبحمد الله تعالى والثناء عليه ، والاعتراف بالنعمة له ، والتصرف فيها حسب مرضات المنعم سبحانه ، وذكر تلك النعم دوما وعدم الغفلة عنها ، ولقد أمرنا الله بكل ذلك فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }( الضحى : 11 ) ، وأن من عباد الله تعالى من يوفقه الله لشكر تلك النعم ، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ، ففي الصحيحين: عن أنس أن المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله قال : لا ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم ، (2)
مما يدل على وجوب شكر المنعم عز وجل بحمده والثناء عليه ، وأن شكر ذي النعمة من الناس كذلك ولو بالدعاء له والثناء عليه ، فمن لا يشكر النس لا يشكر الله ، (3)
- الحقيقة الخامسة : التحذير من كفران النعمة وجحودها :
وكما أن من الناس من يشكر المنعم على نعمه ، منهم أيضا من يكفر بنعم الله عليه ، قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }( لقمان : 12 ) ، وقال تعالى عن نبيه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام : {...... فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ( أي ليختبرني ) أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }( النمل : 40 ) ، والآيتان تقرران أن مَن يشكر لربه على نعمه فإنما يشكر لنفسه لأنه يقيد بالشكر محصولها ، ويستجلب به مفقودها ، ويحط عن ذمته عناء الواجب ، ويتخلص من وصمة الكفران.، ويعود نَفْع ذلك عليه وحده , ومن جحد نِعَمَه تعالى ، وترك الشكر فإن الله غني عن شكره , كريم بترك تعجيل العقوبة إليه ، له الحمد والثناء سبحانه ، على كل حال ، ولذلك نعى الله على أولئك الذين يجحدون نعمة الله عليهم فقال : { ....أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }( النحل : 71 ) ، وشدد النكير على من بدلوا نعمة الله تعالى ، فقال جل جلاله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}إبراهيم28 – 29 ) ، وقال سبحانه : {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }( البقرة : 211 ) ،
- الحقيقة السادسة : أن الإعراض عن شكر النعمة يقود إلى سلبها وذهابها وفقدها،
والقرآن يؤكد ذلك والواقع يشهد له ، فكم من الذين أعرضوا عن شكر النعم جل جلاله ، فسلبهم الله النعمة ، وإذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة ، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالجحود والكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم ، ويبدلها بأضدادها من النقم ، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها ، فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر، وحقيقة الشكرأَلا يُعْصَى الله بنعمه ، كما قال الجنيد رضي الله عنه ، والله تعالى أعلم ، وفي الخبر: " من شكر النعم فقد قيّدها بعقالها، ومن لم يشكر فقد تعرض لزوالها ".، وقال الواسطي : ما كان مِنَّا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا، وله المنة والفضل علينا. هـ.
أيها الإخوة الأحباب :
تحدثنا في اللقاءات الأربع السابقة عن علاجات القرآن للخوف والهم والمكر والمرض ، كما استنبطها الإمام جعفر الصادق رحمه الله ، ورأينا كيف أن القرآن العظيم سلحنا بما نقابل به تلك الأدواء والابتلاءات بعد استنفاد الأسباب المتاحة ، والوصول إلى حالة الإضرار التي ليس لها سوى اللجوء إلى الواحد القهار ، فللخوف سلاح قرآني استخدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أعقاب غزوة أحد وثبتت فاعليته والسلاح هو : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فكانت النتيجة : فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ، وللهم سلاح نبي الله يونس عليه السلام حين نادى في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وكانت النتيجة : فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ، وللمكر سلاح مؤمن آل فرعون : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ، والنتيجة : فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب ، النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ، وللمرض سلاح أيوب : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، والنتيجة : فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ،
إذن فالجوانب البشرية في النفس إخوة الإيمان : هي خوف له علاج ووَصْفَة ، وهمٌّ له علاج ووصفة ، ومكر بك له علاج ووصفة ، ومرض له علاج ووصفة ،
ونواصل اليوم مع تلك الوصايا الجعفرية الغالية ونأتي إلى السلاح الخامس والوصفة الخامسة : يقول جعفر الصادق : عجبت لمن طلب الدنيا وزينتها والسعادة بالنعم التي أنعم الله عليه بها ، كيف لا يفزع عند رؤيته لتلك النعم إلى قول الله : { مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ }( الكهف : 39 ) ، فإني سمعت الله يعقبها يقول : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً ، فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ }، ( الكهف : 39-40 ) ،
وبالنظر إلى واقع الأمة الإسلامية اليوم نجد إن دوائر الفكر والعلم والتحليل الاستراتيجي في العالم تكاد تجمع على أن الله تعالى منح الأمة الإسلامية من عوامل النهضة ومقومات التقدم والارتقاء والسيادة ما الله به عليم ، ورغم توفر كافة تلك المقومات السكانية والاقتصادية والثقافية والموقع والمناخ والثروات والموارد والامكانيات الوفيرة التي جعلت دول العالم تتطلع إلى خيرات هذه المنطقة ، وتخطط للإستيلاء عليها ، والتاريخ والواقع يشهدان على ذلك ، إلا أننا نرى ذلك التخلف والفقر والتراجع الذي تعاني منه الأمة ، وإن ذهبت تبحث عن الأسباب فستجد الكثير من الأسباب والعوامل الخارجية والداخلية التي تناولها الكتاب والمحللون مالمفكرون ، ولكن عندما نعود إلى كتاب الله سنجد حقيقة واضحة ساطعة تقول : أن الفرق شاسع ، والبون واسع بين من أعطي نعمة فشكرها ، ومن أعطي نعمة فكفرها ، نعم فرق كبير بين من أنعم الله عليه فأقر بالنعمة ، واعترف بفضل المنعم ، وتواضع لعظمته ، وعلم أنها محض فضل من الله عليه ، فذكر وشكر ، وبين من جاءته النعمة من سيده ومولاه فجحد النعمة ، وكفر بالمنعم ، واغتر بما بين يديه فما ذكر وما شكر ولكنه تولى وكفر ،
إن قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف تجسد لنا كل تلك المعاني ، سورة الكهف التي تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى قراءتها في كل يوم جمعة لما فيها من الدروس والعبر ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين " ( رواه النسائي والبيهقي مرفوعا والحاكم مرفوعا وموقوفا أيضا وقال صحيح الإسناد ، وصححه الألباني ) ،
ففي تلك القصة نحن أمام رجلين بينهما صلة وصحبة ، ولكن لهما موقفان بينهما من بعد الشقة والمسافة ما بين الأرض والسماء ، وما بين حضيض الغبراء ، وسمو الجوزاء ، موقف الكفر والغرور والجحود والنكران والتمرد والعصيان والتعالي على خلق الله ، وموقف الإيمان والتواضع والخضوع لله والإقرار بنعم الله وذكرها وشكرها والطاعة والامتثال ،
وهذه القصة نسوقها إلى فريقين ، الأول إلى أصحاب الثروات والأموال وإلى أولئك الناجحين في الحياة ، ونجوم المجتمع من أصحاب المال ورجال الأعمال وذوي الجاه والسلطان ، وباختصار إلى نجوم المجتمع الذين يشار إليهم بالبنان ، وأما الفريق الثاني فهم أولئك الفقراء والمهمشين والمستضعفين الذين لا يعبأ بهم أحد ،
فإلى من يرفلون في نعم الله تعالى عليهم ، باختلاف صنوفها وأنواعها صحة جسد كانت ، أو وفرة مال ، أو علو منصب ، أو كثره عيال وعشيرة ، أو علم فتح الله عليهم به ، أو سعة جاه وعلو سلطان ، وغيرها من نعم الله على العباد ، إلى هؤلاء نقول : إعلموا أن ما أنتم فيه من النعم هو محض فضل من الله عز وجل ، فاشكروا الله تعالى على ما حباكم وأعطاكم وتفضل عليكم ، واعملوا جاهدين على أن تقيدوا نعم الله عليكم بذكرها وشكرها ، ولا تزيلوها بالجحود والكفران وترك الشكر ،
وصدق القائل :
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإن الذنـــــوب تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله *** فـــــــــــإن الإله سريع النقم
وحطها بطاعة رب العبـاد *** فرب العباد ســـريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعـت*** فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الــــــورى *** لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعــــــــــــدهم *** شهود عليهم، ولا تتهم
وما كان شيء عليهم أضـر *** من الظلم وهو الذي قد قصم
فكم تركوا من جنان ومن *** قصور، وأخرى عليهم أطم
صلوا بالجحيم وفات النعـيم *** وكان الذي نالهم كالحلم"(4)،
ونعود إلى سورة الكهف وقصة صاحب الجنتين :
فنحن أمام رجلين : مؤمن فقير ، وكافر غني ، بر وفاجر ، صابر وجاحد ، فقد ابتلى الله الرجُلَ المؤمن بضيق ذات اليد، وقلة الرزق والمال والمتاع ، لكنه أنعم عليه بأعظم نعمة في الوجود ، وهي نعمة الإيمان واليقين ، والرضا بقدر الله ، وابتغاء ما عند الله ، وهي نِعَمٌ تفوق المال والمتاع الزائل بكثير ،
أما صاحبه الكافر فقد ابتلاه الله بأن بَسَط له الرزق ، ووسَّع عليه في الدنيا ، وآتاه الكثير من المال والمتاع ، ليبلوه هل يشكر أم يكفر؟ وهل يطغى أم يتواضع؟ ، وهل يقبل أم يدبر ؟
تبدأ القصة بقول الله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً }( الكهف : 32 ) ، إذا فنحن أمام مثل من أمثال القرآن الكريم التي تجسد المعاني ، وتقرب المفاهيم وتجليها ، وأمام قصة من قصص القرآن الكريم المليئة بالدروس والعبر والعظات ، ولذلك قال الحق تبارك وتعالى في شأن الحكمة من قصص القرآن : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }( يوسف : 111 ) ، ففي قصص القرآن عظة لأهل العقول السليمة ، وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وما كان هذا القرآن حديثًا مكذوبًا مختلَقًا, ولكن أنزلناه مصدقًا لما سبقه من الكتب السماوية , وبيانًا لكل ما يحتاج إليه العباد من تحليل وتحريم , ومحبوب ومكروه وغير ذلك , وإرشادًا من الضلال , ورحمة لأهل الإيمان ، تهتدي به قلوبهم , وتستنير به بصائرهم ، وتستقيم عليه جوارحهم فيعملون بما فيه من الأوامر والنواهي ،
( واضرب لهم مثلا رجلين ) ، والخطاب لسيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد ، بأن يضرب لأمته هذا المثل من الأمم السابقة ، ليأخذوا من الدرس والعبرة لحياتهم ، قيل أن المراد بـ ( لهم ) أي كفار قومك ، وقيل هو للكفار مع المؤمنين ،
والرجلان : أحدهما مؤمن، والآخر كافر،
وهنا لنا وقفتان :
الأولى : أنه لا توجد أحاديث صحيحة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تضيف لنا معلومات جديدة على ما ذكره القرآن عن القصة ، ولهذا سنقتصر في تناولنا للموضوع على ما جاء في الآيات الكريمة ، نقول بما قالت به ، ونسكت عن ما سكتت الآيات عنه ، ولا نذكر إسرائيليات أو روايات غير صحيحة في عرض هذه القصة ، كما في غيرها من القصص القرآني
الأمر الآخر : وهو مرتبط بالأول أن الآيات أَبهمت اسمَيّ الرجُلَيْن ، فلم تخبرنا بإسميهما ، كما أبهمت تحديد زمانهما ومكانهما وقومهما ، فلا نعرف مَن هما ، ولا أين عاشا ، ولا في أيِّ زمان وُجِدا ،
فنحن إذا إمام قصة أغفل الله أسماء أصحابها، وزمانها، ومكانها، وجزئياتها لأنها نموذج متكرر في دنيا الناس، في كل عصر، في كل مصر، هناك من يتملكه الغرور والاعتزاز بنفسه فتراه دائما يقول أنا .. أنا ، هناك من يتوهم نفسه على غير حقيقتها وفوق حقيقتها فتراه يقول عما بين يديه من نعم الله وعطاءاته : إنما أوتيته على علم عندي ، فكثيرون هؤلاء الذين يرون النعمة ولا يرون المنعم ، والحديث اليوم في رحاب هذه القصة إلى هؤلاء الذين استولى عليهم الغرور ، وملأ العجب والكبر والتعالي عليهم جنبات نفوسهم المعتلة ، نعم القصة اليوم لهؤلاء ، والغرور والعجب منزلق خطير، قد تدخل إلى المسجد وقد تصلي، وأنت معجب بنفسك ، وبصلاتك ، وعبادتك ، ترى أنك حصلت شيئاً ثميناً بقدراتك الذاتية ، وتنسى فضل الله عليك.
إن قصة الغرورالبشري بالنعمة قصة متكررة في دنيا الناس ، نراها كل يوم تتكرر ، فالمغتر لا يأخذ النعمة بالاعتراف والشكر، بل بالغرور والتيه والعجب والاستعلاء ، ويتوهم أنه حصل عليها بفكره وعمله ، وذكائه وفطنته ، وأنه بها قد استغنى عن الله ، الذي خلقه وخلق له هذه النعمة ، وأعطاه القدرة على التمتع بها.. قد تملك المال وقد تشتري الطعام ، ولا يسمح الله لك أن تستمع بالطعام، قد تتزوج وتنجب الأولاد، ويكون الابن عبئاً عليك، سبباً لشقائك ، لأن الله جل جلاله بيده كل شيء.
يتبـــع ...... إنشاء الله
*************
الهوامش والاحالات :
===========
(1) - الحديث عن عطاء قال " دخلت أنا و عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها ، فقال عبد الله ابن عمير : حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت ، و قالت :" قام ليلة من الليالي فقال : يا عائشة ذريني أتعبد لربي ، قالت : قلت : والله إني لأحب قربك ، و أحب ما يسرك ، قالت : فقام فتطهر ، ثم قام يصلي ، فلم يزل يبكي حتى بل حجره ، ثم بكى . فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، و جاء بلال يؤذن بالصلاة ، فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله تبكي و قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ لقد نزل " .....الحديث ( قال الألباني : قلت : و هذا إسناد جيد ، رجاله كلهم ثقات غير يحيى بن زكريا قال ابن أبي حاتم ( 4 / 2 / 145 ) . " سألت أبي عنه ؟ قال : ليس به بأس ، هو صالح الحديث " ؟ أنظر : السلسلة الصحيحة ، ج1 ، ص : 106 ) ،
(2) – الحديث عن أنس رضي الله عنه قال : قال المهاجرون يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ما رأينا قوما أحسن بذلا لكثير ، ولا أحسن مواساة في قليل منهم ، ولقد كفونا المؤنة قال أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم قالوا بلى قال فذاك بذاك ، رواه أبو داود والنسائي واللفظ له ( قال الألباني صحيح ) ، أنظر : - محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح الترغيب والترهيب " ، مكتبة المعارف – الرياض ، ط3 ،
(3) - كما في الحديث عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يشكر الله من لا يشكر الناس " رواه أحمد ورواته ثقات ، وصححه الألباني رحمه الله ، أنظر : صحيح الترغيب والترهيب ،
(4) - محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله : " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي المعروف بـ (الداء والدواء) " ، دار الكتب العلمية – بيروت ، ص 105- 106،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: