د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5417
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ثالث أسباب الغفلة والنسيان : النفس الأمارة بالسوء
ومن أهم أسباب الغفلة والنسيان النفس الأمارة بالسوء والمعصية، ولقد ذكرت " النفس " في القرآن الكريم (295) مائتين وخمساً وتسعين مرة (1)، ما بين المعرف وغير المعرف، والمفرد والجمع، في سياقات متعددة، وبمعاني مختلفة ومتنوعة ،
- فجاءت تارة بمعنى " الروح "، وبمعنى ما يكون به التمييز، قال تعالى: " اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا " ( الزمر: 42 )،
- ووردت بمعنى " الإنسان "، قال تعالى: " أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ( الزمر:56 )،
- ووردت بمعنى " الغيب " في قوله تعالى: " تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك ( المائدة : 116 )، أي تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وغير ذلك من المعاني،
ولقد وردت آيات كثيرة – في هذا الشأن - تنبه إلى المعاني التي تدل على ضرورة اليقظة والتنبه والحذر من النفس، ومن تلك المعاني :
- لقد أخبرنا مولانا الكريم جل جلاله أن النفس تميل إلى ما تهواه مما لها فيه من اللذة والمتعة، وقد علمت أنها قد نهيت عنه، ثم أعلمنا القرآن أن من نهى نفسه عما تحبه وتتطلع إليه وتهواه، فإن الجنة ونعيمها هي مأواه ومآله ومصيره، ونعم المأوى والمصير، قال الله تبارك وتعالى : " فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " (النازعات : 37-41 )،
- النفس تسول للإنسان – أي تزين وتمهد له – الإنسياق وراء الشهوات والملذات والمعاصي، قال تعالى : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }( يوسف53 )، وقال تعالى على لسان يعقوب - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - لأبناءه إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام : {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }( يوسف : 18 )، أي بل زيَّنت لكم أنفسكم الأمَّارة بالسوء أمرًا قبيحًا في يوسف ( عليه الصلاة والسلام ) , فرأيتموه حسنًا وفعلتموه , ونفس المعنى ورد في ذات السورة، قال تعالى في موضع آخر : {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }( يوسف : 83 )، وقال على لسان السامري في سورة طه : {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي }( طه : 96 )، وكلمة سولت أي زينت ومهدت، وكلمة أمارة صفة للنفس أي تأمر وتكرر التسول والتزيين والمتهيد والتهيئة للمعصية، وعلى الإنسان أن يدرك بجلاء أنه إذا حصل خطأ في مظهره مثلا فربما ينبهه الناس إلى ذلك الخطأ، فربما يسارع إلى تدراكه، لكن النفس لا يطلع عليها ولاعلمها عملها وخواطرها إلا الله تعالى , وتسويل النفس إنما هو لحظات إذا ثبت فيها المسلم زالت، وإلا فإذا استجاب لها وتابعها كان لذة ساعة، وحسرة دهر، والعياذ بالله،
هذا ويخبرنا القرآن الكريم أن للنفس الإنسانية ثلاثة مستويات أو أحوال هي :
* المستوى الأول النفس الأمارة بالسوء:
وهي أدنى مراتب وأحوال النفس وأخسها، حيث تكون منشدة إلى الأرض منقادة إلى رغباتها وتهتم بتأمين الحياة في هذه الدنيا وترتيب أوضاعها، والقران الكريم يحدثنا عن هذا النمط من الأشخاص الذين يقولون كما حكى الله تعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم، قال تعالى {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }( الأنعام : 29 )، وقال أيضا : {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }( المؤمنون : 37 )، وقال : {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }( الجاثية : 24 )،
إن النفس الأمارة هي النفس التي تسيطر عليها الدوافع الغريزية، وتتمثل فيها الصفات الحيوانية، وتبرز فيها الدوافع الشريرة، فهي توجه صاحبها بما تهواه من شهوات ونزوات، قال تعالى : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }( يوسف : 53 )، فالآية تقرر أن النفس لكثيرة الأمر والإلحاح على صاحبها بعمل المعاصي طلبا لملذاتها ومتعها , إلا مَن عصمه الله عز وجل وحماه، ولذلك قال " أمارة " وهي من صيغ المبالغة، على وزن «فعّال» مبالغة في وصف النّفس بالاندفاع نحو المعاصي والمهالك، فهي كثيرة الأمر والطلب والإلحاح لا تكل ولاتمل، ولم يقل " آمرة "، فهي ليستْ مجرد آمرةً بالسوء، بمعنى أنها تأمر الإنسان لتقع منه المعصية مرة واحدة وينتهي الأمر، كما أن الآية تؤكِّد أن النفس على إطلاقها أمَّارة بالسوء، وهي ميّالة بالطّبع إلى الشّهوات والأهواء، إلا أولئك الذين رحمهم الله تعالى وعصمهم،
* المستوى الثاني النفس اللوّامة:
وهي النفس التي تبرز فيها قوة الضمير، فيحاسب الإنسان نفسه قبل أن يحاسب غيره، أو يحاسبه غيره، ولهذا أقسم بها الله تعالى في كتابه الكريم فقال{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ }( القيامة : 2 )، وهي النفس المؤمنة التقية التي تلوم صاحبها وتكثر من لومه وتأنيبه على ترك الطاعات وفِعْل الموبقات، ولذلك قال " لوامة " على وزن فعالة أي كثيرة اللوم، ولم يقل " لائمة " وجواب القسم أن الناس يبعثون يوم القيامة،
* المستوى الثالث النفس المطمئنة:
وهي النفس التي استوعبت قدرة الله عز وجل، وتبلور فيها الإيمان العميق واليقين والثقة بالغيب، لا يستفزها خوف ولا حزن، لأنها سكنت إلى الله، واطمأنت بذآت الله، وأنست بقرب الله، فهي آمنة مطمئنة، تحس بالإستقرار النفسي والصحة والسكينة النفسية، والشعورالإيجابي بالسعادة، فحق لها أن يخاطبها رب العالمين بقوله : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ }( الفجر : 27 )، فهي المطمئنة إلى ذِكر الله والإيمان به , وبما أعدَّه من النعيم للمؤمنين , ألا بذكر الله تطمئن القلوب،
والمستوى الذي نعنيه ونشير إليه هنا – ونحن نتحدث عن أسباب الغفلة والنسيان والشرود والبعد – هو المستوى الأول : " النفس الأمارة بالسوء "، والتي من عيوبها الْغَفْلَة والتواني والإصرار والتسويف، وتقريب الأمل وتبعيد الْأَجَل، ولذلك فإن علاج ذلك كله إنما يكون بتوبة تحل الْإِصْرَار، وَخَوف يزِيل التسويف، ورجاء يبْعَث على قصد مسالك الْعَمَل، وَذكر الله على اخْتِلَاف الْأَوْقَات، وإهانة النَّفس بقربها من الْأَجَل وَبعدهَا عَن الأمل، ولايتم ذلك إلا بقلب مُفْرد فِيهِ تَوْحِيد مُجَرّد (2)،
ولذلك ينبهنا القرآن إلى حقيقة عمل النفس، فهي دائماً أمَّارة بالسوء، والتكليفات الإلهية كلها إمَّا أوامر أو نَوَاهٍ، ( إفعل ولا تفعل )، وقد يستقبِل الإنسان الأوامر كتكليف يشقُّ على نفسه، خاصة وأن النواهي تمنع المكلف من أفعال قد تكون مرغوبة وحبوبة ومطلوبة له، لأنها في ظاهرها ممتعة، وتلبي نداء غرائز الإنسان، ولذلك جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ النار بالشهوات » (3)، بمعنى أن المعاصي قد تُغري الإنسان وتجذبه، ولكن العاقل هو من يملك زمام نفسه، ويُقدِّر العواقب البعيدة، ولا ينظر إلى اللذة العارضة الوقتية فقط، وإنما ينبغي أن ينظر معها إلى الغاية التي توصله إليها تلك اللذة، لأن شيئاً قد تستلِذُّ به لحظة، قد تَشْقى به زمناً طويلاً، ولذلك فإن الذي يُسرف على نفسه، إنما هو في الحقيقة غافل عن ثواب الطاعة ومآلها، وعن عذاب العقوبة على المعصية، ولو استحضر الثواب على الطاعة، والعذاب على المعصية، لامتنع عن الإسراف على نفسه، إنما هي الغفلة والنسيان والتيه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن و التوبة معروضة بعد " (4)، ومعنى هذا أن لحظة ارتكاب المعصية نجد الإنسان وهو يستر إيمانه، ولا يضع في باله أنه قد يموت قبل أن يتوبَ عن معصيته، أو قبل أن يُكفِّر عنها، نعوذ بالله من الخذلان،
ولأجل ذلك جاءت توجيهات القرآن الكريم بضرورة مخالفة نزوات النفس وشهواتها وتطلعاتها ورغباتها، وبذل الجهد في تزكيتها وتطهيرها وتنميتها بالخير والاستقامة والصلاح، ففي ( سورة الشمس ) أقسم الله تعالى بأقسام كثيرة ( أحد عشر قسما )، وكما نعلم فإن القسم لا يكون إلا بعظيم، على أمر عظيم، وكان جواب القسم أن فلاح الإنسان مرهون بتطهير النفس، وأن خسرانه وضياعه وهلاكه وخيبته مرهونة بتدسيتها ( إخفائها في المعاصي والموبقات )، قال تعالى : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا{1} وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا{2} وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا{3} وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا{4} وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا{5} وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا{6} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{10}( سورة الشمس )، ومعنى زكاها أي طهرها من الذنوب والمعاصي والشهوات الجامحة،
ولاشك أن الإنسان بحكم طبيعته ونفسه القابلة للخير والشر, {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }( الشمس : 8 )، بحاجة إلى أن يبدأ – في سيره إلى الله عز وجل - بتزكية نفسه، فالرسل كلهم - من أولهم إلى آخرهم- من لدن نوح شيخ المرسلين عليه الصلاة السلام، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ما بعثوا إلا لدعوة الناس لتزكية النفوس وتطهيرها من كل شائبة، قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ [البقرة:151], وقال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة ويزكيهمَ ( البقرة:129 )، إذاً الرسل كلهم بعثوا للتزكية والتطهير , بعثوا لتقوية عوامل الخير في نفس الإنسان , ومحاصرة عوامل الشر واختزالها، وإنما تكون تزكية النفس بأمور عدة منها : إصلاح النية وتصحيحها، وطلب العلم النافع، والإلتزام بأداء العبادات ( الصلاة والصيام والذكر والصدقات وغيرها 000 )، وقطع الصلة بالحياة السابقة وما فيها من معاصي وانحرافات، وتجنب رفقاء السوء، وهجر مواطن الإنحراف ومواقع الفساد..... إلخ،
والموفق هو من قام على نفسه يحاسبها على الدوام ؛ لأن النفس جموحة
طموحة منوعة تريد الرفعة والعلو والمديح والتقدم والتعالي على الآخرين، فهو
معها في جهاد يكبح جماحها ؛ فإن عمل طاعة فهو متلهف مشغوف يحسن الظن بربه
أن يقبل تلك الطاعة، وإن أذنب ثم تاب فهو خائف قلق يخشى أن لا يقبل الله توبته.
والموفق هو الذي نجاه ربه وسلمه من شر كبائر القلوب الخفية كالغل والحسد
وسوء الظن بالآخرين واتهام نياتهم والوقوع في أعراضهم والوشاية بهم والسقوط
في الغيبة والنميمة والكذب المُبطّن ؛ فما أسوأ حال من كانت هذه صنعته وما أبعده
عن التوفيق ؛ لأنه من شرار الناس، فعن (عبد الرحمن بن غنم) يبلغ به النبي :
(خيار عباد الله : الذين إذا رُؤُوا ذُكِرَ الله، وشرار عباد الله المشّاؤون بالنميمة،
المفرقون بين الأحبة، الباغون للبُرآء العنت) [2].
يتبــــــع
الهوامش :
======
(1) - محمد قؤاد عبد الباقي : " المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم "، دار الحديث، القاهرة، 1987م، مادة "نفس"، ص ص : 710 – 714
(2) – أنظر :
- محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن خالد بن سالم النيسابوري، أبو عبد الرحمن السلمي (المتوفى: 412هـ) : " عيوب النفس " تحقيق : مجدي فتحي السيد الناشر، نقلا عن :
http://www.islamww.com/books/GoToPage9-34 6786-113.html
(3) - محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته "، المكتب الإسلامي، بيروت، ج1، ص : 546
(4) - قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 7706 في صحيح الجامع
----------- أحمد يوسف بشير
جامعة حلوان - مصر
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: