أ.د/ أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4120
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
- عجيب أمر هذا الإنسان ، فهو شديد التمرد على حاله ، وغالبا ما يشكو من وضعه الذي هو فيه ، قليل الرضا ، شديد التطلع إلى ما عند الآخرين ، لا يعرف قيمة الشئ إلا بعد أن يفتقده ،
وقديما قالوا : " الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى " لماذا ؟ لأنهم افتقدوه ، فعرفوا قيمته بعد افتقاده ،
ولذلك الإسلام يوجهنا إلى عدم التطلع إلى ما عند الآخرين من متاع الدنيا الزائل ، وإنما يحثنا على أن ننظر إلى من هو دوننا في مثل هذه الأمور لنعرف قيمة ما نملك ، ولذلك جاء التوجيه الإلهي في قول الله تعالى : {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }( الحجر : 88 ) ، أي : لا تنظر بعينيك وتتمنَّ ما مَتَّعْنا به أصنافًا من الكفار مِن مُتَع الدنيا ، ولا تحزن على كفرهم ، وتواضَعْ للمؤمنين بالله ورسوله.( التفسير الميسر ) ، وقال تعالى : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }( طه : 131 ) ، أي : ولا تنظر إلى ما مَتَّعْنا به هؤلاء المشركين وأمثالهم من أنواع المتع, فإنها زينة زائلة في هذه الحياة الدنيا, متعناهم بها; لنبتليهم بها, ورزق ربك وثوابه خير لك مما متعناهم به وأدوم; حيث لا انقطاع له ولا نفاد.( التفسير الميسر ) ،
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنهقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ" ( الحديث مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: " انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى من هُوَ قوقكم فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم " ( صحيح مسلم ) ،
ولذلك يحكى أن بعض اليهود اشتكى للحاخام ( رجل الدين اليهودي ) من شدة ضيق مسكنه مع كثرة عياله ، وكيف أنهم يعانون الأمرين في حياتهم لهذا السبب ، مما جعله يضيق ذرعا من حياته ، ويلتمس منه النصيحة والمشورة ، فما كان من الحاخام إلا أن أمره على الفور بأن يقتنى في هذا المسكن خنزيرايقيم معهم ، وأخذ الرجل بنصيحة الحاخام ظنا منه أن ذلك سيحل مشكلته ، وبعد عدة أيام لقيه الحاخام فسأله : كيف حالكالآن ؟ قال الرجل بصوت يعتصره الألم : نحن في أسوأ حال وأضيقه ، منذ أن جئنا بهذا الخنزير ليعيش معنا فنغص علينا عيشتنا ، وجعلها جحيما لا يطاق ، فقال له : الآن أطلق الخنزير وتخلص منه، ثم سأله بعدها كيف حالك ؟ فأجاب وهو يبتسم فرحا ،وقد انفرجت أساريره وانشرح صدره : نحن في أوسع حال ، وأرغد عيش ، فرد الحاخام : أرأيت كيف أنك الآن قد حلت مشكلتك ،
ماذا نأخذ من هذا الموقف ؟
- أن ما فعله الحاخام مع الرجل هو مثال صارخ لما يقع فيه كثير من الناس حين يلجأون إلى الحلول الزائفة لما يواجهونه من مشكلات ، وما قام به الرجل في هذه القصة هو عبارة عن نوع من التغيير المزيف ،
- أن هذا الموقف يلفت أنظارنا إلى ألاعيب السياسيين والحكام في بلادنا المتخلفة ، ضد شعوبهم ، حين يختلقون الأكاذيب وينشرون الشائعات في أوساط الجماهير باستخدام وسائل الإعلام الفتاكة في عصرنا ، حتى إذا ضاق الناس زرعا بما سمعوه ، سارع هؤلاء الساسة إلى تكذيب تلك الأكاذيب والشائعات ، فيشعر الناس بالراحة والسعادة ، وأن مشاكلهم قد حلت ، وهو في الواقع شعور زائف ، وحيلة خادعة ، فهؤلاء المخادعون كثيرا ما تسول لهم عقولهم المريضة ، ونفوسهم الخربة ، باللجوء إلى صبغ الباطل وإظهاره بصورة الحق ، حتى إذا زهق هذا الباطل، طابت نفوسهم وانشرحت صدورهم وتعالت ضحكاتهم بهذا الفرج الزائف ، وصدق الله تعالى إذ يقول : {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }( الرعد : 17 ) ، فالباطل كغثاء الماء يتلاشى أو يُرْمى إذ لا فائدة منه ترجى ، والحق كالماء الصافي ، والمعادن النقية تبقى في الأرض للانتفاع بها ،
- أن الجانب المضيء في القصة :أنها تنبهنا إلى أمرين :
الأول : قيمة الرضا والتسليم بما قسم الله للإنسان من نعيم الدنيا ، وذلك بطبيعة الحال بعد أداء الواجب على الوجه الأكمل ، وبذل الجهد والأخذ بالأسباب جميعها لتغيير الحال المراد تغييره ، وفي الحديث : " .....وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ " (1)
الثاني : أهمية الوعي بكيفية التعامل مع المشكلات التي تواجه الانسان في حياته ، واتباع الطريقة المنهجية لحل المشكلة ، والقائمة على فهم المشكلة وحجمها ، ومتغيراتها ، وأسبابها ، والبدائل المتاحة أو التي يمكن إتاحتها للحل ، والموازنة الموضوعية بين تلك البدائل ، واختيار البديل الأمثل والأنسب ، والعمل على تنفيذه ،
-------------------------------------------------
(1) – الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب " ( قال الألباني : حديث حسن ، أنظر : صحيح الجامغ الصغير وزيادته ، ص : 82 ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: