مواقف من التراث - مكانة العلم والمعلم " بين هارون الرشيد ومعلم الأمين والمأمون "
أ.د / أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 12741
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ،
وبعــد :
قال تعالى : { .......وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } ( طه : 114 )
وقال تعالى : { ......قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } ( الزمر : 9 )
--------
" وإذا كانت خلافة الإنسان في الأرض هي مهمة الإنسان في الحياة ، وهي حكمة خلْقه، وحكمة الإنعام عليه بقوى العلم والعمل ، وحكمة تَسخير الكون وإخضاعه له في التفكير والتصريف ، فإنه لا سبيل إلى قيامه بهذه المهمة وتحقيق تلك الحِكَم ، إلا إذا تحصَّن بالعلم ؛ ليَعرف الخير من الشر، والنافع من الضار، والمُعمِّر من المُخَرِّب ، وتحصَّن كذلك بالصحة ؛ ليَكْمُل عقْله ، ويَسْلَم تدبيره ، وتتَّصل جهوده "
( الشيخ محمود شلتوت )
" إن مكانة المعلم في الإسلام أرفع مكانة ، إنها مهمة الأنبياء والرسل عليهم جميعا صلوات الله وتسليماته ، وهو ما يؤكده قول الله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) ( الجمعة : ) ، وهذا المعنى ذاته وضحه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بقوله في الحديث : ( ولكن بعثني معلماً ميسراً ) ( رواه مسلم واحمد ) ، قالوا : ووردت معلماً نكرة لتعم كل أنواع وجنس التعليم "
-----------------------------------
كثيرا ما أتوقف أمام أحوال السلف الصالح في شتى شؤون الحياة ، ومواقفهم إزاء العديد من القضايا والأشخاص والأحداث والموضوعات ...تلك المواقف التي تحمل من المعاني والدلالات ما نحن في أمس الحاجة إليه في حياتنا المعاصرة ، إنها مواقف من التراث الغني الزاخر لأمة الإسلام تحمل العديد من المعاني التي غابت عن واقعنا اليوم أو تكاد ، وهنا أستشعر عظم مسؤولية الدعاة والمربين وأهل الفكر والقلم في تبصير أجيالنا الحالية بما كان عليه سلفهم الصالح رضوان الله عليهم في جميع أحوالهم ، لتحقق فيهم الأسوة الطيبة ، والقدوة الحسنة ، لأجيال كثيرا ما نسمع النابهين منهم يقولون " نحن جيل بلا أساتذة " ، إنهم يضجون بالشكوى مما هم فيه من تيه ، وما هم عليه من ضياع البوصلة التي تدلهم على الطريق القويم وترشدهم إلى سواء السبيل ،
ولا شك أن في سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلكوا مسلكهم ، واتبعوا نهجهم القدوة التي تفتقدها الأجيال المعاصرة ، وصدق القائل :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ***إن التشبه بالرجال فلاح
ولذلك بقول الإمام " ابن الجوزي " رحمة الله عليه في كتابه الموسوعي " المنتظم في تاريخ الملوك والأمم " : " واعلم أن في ذكر السير والتاريخ فوائد كثيرة ، ( وذكر منها ) أن يطلع بذلك على عجائب الأمور ، وتقلبات الزمن ، وتصاريف القدر، وسماع الأخبار، فالنفس تجد راحةً بسماع الأخبار، قال أبو عمرو بن العلاء: قيل لرجل من بكر بن وائل قد كبر وذهبت منه لذة المأكل والمشرب والنكاح ؛ قيل له : أتحب أن تموت ؟ قال : لا ، قيل له : فما بقي لك من لذة الدنيا ؟ قال : أستمع أخبار الرجال وأستمع العجائب " (1)
إننا نحسب أن من أهم وسائل إشعال العزائم ، وإثارة الروح الوثابة ، وقدح المواهب ، وإذكاء الهمم ، وتقويم الأخلاق بصمت وهدوء دون أمر ونهي ، والتسامي إلى معالي الأمور ، والترفع عن سفسافها ، والاحتذاء بسير الأجلاء الأسلاف ؛ خير سبيل إلى ذلك كله هو التذكير بالمواقف الثرية من سير العلماء الصلحاء ، والوقوف على بعض أخبار الرجال العظماء ، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين ، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجدين ،
والموقف الذي نحن بصدده يجلي لنا كيف كانوا ينظرون إلى مكانة العلم ، ويقدرون دور المعلم ، وجلال مهمته وعظمة رسالته ، الأمر الذي جعلهم يرفعون مكانته ، وينزلونه منزلة مرموقة ، إنه موقف يجسد لنا منزلة المعلم بين تقدير السلف وإهمال الخلف ، وكيف أن حال المعلم اليوم – والذي لا يخفى على أحد – يشي بالهيبة الضائعة ، والمكانة مفقودة...فكيف يمكن أن نعيد للمعلم هيبته ومكانته ، حتى يتسنى له أن يعود إلى مهمته المقدسة ودوره الفعال في بناء الأجيال ،
إنه المعلم باني الانسان ، وصانع الأجيال ، ومؤسس القادة ، الذي قيل فيه بحق :
قم للمعلم وفه التبجيلا *** كاد المعلم ان يكون رسولا
هذا الشعار الذي أطلقه أمير الشعراء " أحمد شوقي " قبل سنين عديدة معترفا بفضل المعلم في بناء الصرح العلمي ، ومكانته الراقية في المجتمع ، ودوره الهام في رقي وازدهار الامم من خلال رسالة التعليم ،
نعم لقد كان سلفنا الصالح يعرف فضل العلم والعلماء ، وفضل المعلم والمربي ودوره الهام في صناعة الأجيال وبناء الإنسان الصالح المصلح ، النافع لنفسه ودينه وأمته ،
ومن هؤلاء كان الخليفة " هارون الرشيد " (2) الذي يعطينا درسا بليغا في قيمة العلم ومكانة المعلم ، فلقد عهد إلى الكسائي ( وقيل إلى الأصمعي ) بتعليم ابنيه " الأمين والمأمون " (3) ، وأوصاه ألا يدللهما ، وأن يوقفهما على بابه ليدركا أهمية المعلم ورهبته ، وأن يعنفهما إذا لزم الأمر ، وأوصاه قائلا : أقرئهما القرآن ، وعرفهما الأخبار ، وروهما الأشعار ، وعلمهما السنن ، وبصرهما بمواقع الكلام وبدئه ، وامنعهما من الضحك إلا في أوقاته ، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيدهما إياها " !!! ، وذات يوم أنهى دَرْسَهُ ، ونَهَضَ لِيْنصَرِفَ ، فرَكَضَ إليه تلميذاهُ الأميرانِ : " الأمينُ والمأمونُ " يتسابقان إلى نعليه أيهما يحملهما أولا ليقدمهما إلى المعلم إكراما له ، وتقديرا لمكانته عندهما ، وتسابقا وتشاجرا ، إلى أن اتفقا أن يحمل كل منهما فردة من نعال المعلم ليقدمها له ، وشكرهما المعلم على كمال أدبهما وحسن صنيعهما ،
وتصادف أن رأى الخليفة " هارون الرشيد " ما حدث من ولديه في هذا المشهد المهيب ، لأنه كان يرقب الموقف دون أن يراه المعلم أو الأميران ، فأعجبه ما رأى من ولديه ، وأكبر صنيعهما ، وفي اليومِ التالي ، سألَ الخليفةُ هارونُ الرشيدِ مُعَلِّمَ وَلَدْيهِ : ترى مَنْ أعزُّ النّاسِ؟.
أجابَ المعلم : أنتَ يا أميرَ المؤمنين ، ومن أعز منك ؟ ،
قالَ الرشيدُ : بلْ أعزُّ الناسِ مَنْ يَتَسابقُ ولدا أميرِ المؤمنينَ ، ووليا عهده لتقديمِ الحذاءِ له وإلباسه إياه ، فأصابت المعلم الرهبة ، وظن أن الخليفة غاضب منه وسيعاقبه ، ولكن الخليفة أقبل عليه وأكرمه وأثنى عليه ، وذلك تقديرا منه لفضل العلم ، ومكانة المعلم الناصح الأمين ، وقال الرشيد للمعلم : " لقد سرني ما قاما به ، إن المرء لا يكبر عن ثلاث صفات : تواضعه لسلطانه ، ولوالديه ، ولمعلمه..." ،
الفوائد والعبر :
- قيمة العلم ، ومكانة العلماء في منظور الإسلام ، حتى أن العلم في الإسلام يأتي قبل العمل فلا عمل صالح بغير علم ، يقول " راغب السرجاني " : العلم من أنبل الغايات وأشرفها ، وله مكانة عظيمة في ديننا ، به يعبد المسلم ربه على بصيرة ، بل ويكون أشد خشية له ، فكان تعلمه خشية ، وطلبه عبادة ، والبحث عنه جهاداً ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة " (4)
- مكانة المعلم والمربي في الإسلام ، فهي مكانة سامية عظيمة حددها القرآن الكريم ، وبينتها أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وكذا ما سطره السابقون الأولون ومنهم الإمام الحسن البصري حيث يقول: " لولا العلماء ( والمعلمون ) ، لصار الناس مثل البهائم " ، اي أنهم بالتعليم يخرجونهم من حضيض البهيمة إلى أفق الإنسانية " (5) ، وقال الإمام الغزالي : " حق المعلم أعظم من حق الوالدين ، فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية ، والمعلم سبب الحياة الباقية " (6) ، والسؤال الذي يفرض نفسه : متى يأخذ المربي والمعلم المسلم حقه الذي يظهر مكانته وأهميته في حياة الأمة ، متى يدرك الآباء والأمهات والمجتمع المسلم بأسره فضل المعلم في بناء الإنسان ، وصناعة الأجيال ، وتشييد الأمم ، وإرساء قواعد الحضارة ؟
- يجب أن يكون المعلم قدوة صالحة لطلابه وتلاميذه حتى يكونوا له كما كان يفعل الأمين والمأمون إبنا هارون الرشيد ،
- ونختم – في مقام حديثنا عن العلم والعلماء والمعلمين – بما ذكره " ابن كثير " يرحمه الله في موسوعته التاريخية " البداية والنهاية " إذ يقول : " قال إسماعيل بن عياش ما على وجه الأرض مثله ( يقصد عبد الله بن المبارك ) ، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك ، ولقد حدثنى أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص ، وهو الدهر صائم ، وقدم مرة " الرقة " وبها هارون الرشيد ، فلما دخلها احتفل الناس به ، وازدحم الناس حوله ، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت : ما للناس ؟ ( أي لماذا يتجمع الناس ويتزاحمون هكذا ) ، فقيل لها قدم رجل من علماء خراسان يقال له عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه ، فقالت المرأة : هذا هو الملك لا ملك هارون الرشيد " (7) ،
تلك هي منزلة العلم ، ومكانة العلماء ، وقيمة المعلم ومنزلته في دنيا الناس ، فمتى تعود للمعلم عندنا مكانته ، وهيبته ، ووقاره ، فلا خير في أمة لا مكانة فيها للعلماء والمعلمين ، وخاب وخسر مجتمع لا ينزل المعلم منزلته ، وأي مصيبة يمكن أن يبتلى بها قوم في عصر العلم أخطر من أن تتدنى نظرتهم إلى المعلم ، وتتراجع في سلم أولوياتهم مكانته ومنزلته ، حتى صار المعلم في ذيل القافلة ، في وقت يتصدر فيه الرويبضة وأنصاف الرجال ؟ !!!!!!
وختاما نقول ....... ليس لها من دون الله كاشفة ، وإلى الله المشتكى !!!!!
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ،
*********
الهوامش :
======
(1) - أبو الفرج محمد بن الجوزي ( ت : 597هـ ) : " المنتظم في تاريخ الملوك والأمم " تحقيق : محمد عبد القادر عطا - مصطفى عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1992م ، ج1 ، ص : 118 ،
(2) - هو هارون الرشيد أمير المؤمنين، الخليفة العباسي الذائع الشهرة ، أعظم ملوك زمانه ، هارون ابن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، أبو محمد، ويقال: أبو جعفر. وأمه الخيزران أم ولد ، وكان مولده في شوال سنة ست، وقيل: سبع، وقيل: ثمان وأربعين ومائة. وقيل: إنه ولد سنة خمسين ومائة، وبويع له بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي في ربيع الأول سنة سبعين ومائة، بعهد من أبيه المهدي. وأخبار هارون الرشيد كثيرة وشهيرة، ويكفيه ثناء أهل العلم عليه وتمني رجل مثل الفضيل بن عياض أن يمد الله في عمر الرشيد للخير الذي يرجوه من حياته. وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم ، وإذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم ، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة ، والكسوة التامة ، وكان يحب التشبه بجده أبي جعفر المنصور إلا في العطاء ، فإنه كان سريع العطاء جزيله ، وكان هارون يحب الفقهاء ، والشعراء ، ويعطيهم كثيرا ، ولا يضيع لديه بر ولا معروف ، وكان نقش خاتمه : لا إله إلا الله. وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعا ، إلى أن فارق الدنيا ، إلا أن تعرض له علة. مات بطوس يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة ، ومدة ولايته للخلافة ثلاث وعشرون سنة ، وصلى عليه ابنه صالح ، ودفن بقرية من قرى طوس يقال لها سناباذ رحمه الله ، وسامحه ، وأدخله الجنة ، هذا هو هارون الرشيد الجواد الكريم المؤمن البار الذي لم تغفل عينه عن ربه ولا عن رعيته ، أما ما يقوله عليه الزنادقة فهو حسد من عند أنفسهم ،
(3) - الأمين والمأمون : هما ابنا الخليفة الرشيد، وصارا خليفتين من بعد أبيهما.
(4) – راغب السرجاني : " سلسلة كن صحابياً الصحابة والعلم " ، المصدر : http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=208374&full=1
(5) - محمد جمال الدين القاسمي : " موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين " ، دار الكتب العلمية ، القاهرة ، 1415 هـ - 1995 م ، ص : 16 ،
(6) - أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ) : " إحياء علوم الدين " ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، ج1 ، ص : 55 ،
(7) - إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي : " البداية والنهاية " ، دار عالم الكتب ، القاهرة ، 1424هـ / 2003م ، ج10 ، ص : 178 ،
***************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: