د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4884
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ثالثا : الإستعمالات القرآنية لمصطلح " كتاب " :
تعددت وتنوعت الإستعمالات القرآنية لهذا المصطلح ، ابتداءاً بالشائع المتعارف عليه الذي هو " القرطاس " ، مروراً بكتاب الله " القرآن " ، وانتقالاً إلى عالم الكون والوجود ، وعالم الحساب ......وغير ذلك ، وفيما يلي بيان للمعاني المتباينة لاستعمال مصطلح الكتاب في القرآن الكريم ، نوردها على النحو التالي :
* الكتاب يأتي أحيانا وصفا للقرآن الكريم ذاته :
أي ورود لفظ " الكتاب " بمعنى القرآن الكريم ، حيث عرف القرآن نفسه بـ " الكتاب " وأطلق هذا المصطلح كثيراً إشارة إلى القرآن الكريم ، ويأتي دائماً محلى بأل (التعريفية ) ، وكأنه يعني بذلك الكتاب الحق ، والمعتمد والأبرز ، وكان عدد المرات التي ورد فيها مصطلح الكتاب – بمعنى القرآن - أكثر من عدد مرات ورود لفظ " القرآن " ، وكذلك قرن " الكتاب " بصفات هي نفسها التي ذكرها للقرآن الكريم.
إن القرآن الكريم بهذا قد غير من الفهم الساذج للكتاب بأنه " قرطاس " ، وهو ما كان سائداً في المجتمع من تصور عن الكتاب ، قبل نزول القرآن ، ولذلك لما كان القرآن يصرعلى أنه كتاب ، طالبه مجتمع الجزيرة ( مشركي مكة ) بكتاب بقراطيس نازلاً من السماء كدليل على أنه منزل من السماء ، قال تعالى : {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }( الإسراء : 93 ) ، والمعنى : " ....ولن نصدِّقك في صعودك حتى تعود ، ومعك كتاب من الله منشور نقرأ فيه أنك رسول الله حقا " ، وكذلك كان حال اليهود أيضا فقال تعالى : {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً }( النساء : 153 ) ،
هذا ولقد جاء مصطلح الكتاب بمعنى القرآن حوالي (69) مرة في القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله تعالى :
التوراة هي كتاب الله عز وجل المنزل على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، الذي أرسله الله عز وجل إلى بني إسرائيل ، قال الله تعالى : إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ( المائدة: 44 ) ، وكان إنزال التوراة على موسى بعد إهلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل ، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( القصص : 43) ،
ولقد جاء لفظ " الكتاب " في بعض مواضع القرآن بمعنى التوراة ، ولقد بلغت تلك المواضع (35) مرة ، ومن ذلك قوله تعالى :
- {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }( البقرة : 44 ) ، والمعنى : وأنتم تقرءون التوراة , التي فيها صفات محمد صلى الله عليه وسلم , ووجوب الإيمان به ،
- {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }( البقرة : 53 ) ، أي الكتاب الفارق بين الحق والباطل - وهو التوراة - لكي تهتدوا من الضلالة ،
- {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }( البقرة : 78 ) ، أي لا يعلمون التوراة وما فيها من صفات نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم , وما عندهم من ذلك إلا أكاذيبُ وظنون فاسدة ،
* وتأتي لفظة " الكتاب " في بعض المواضع لتشير إلى اليهود والنصارى " أهل الكتاب " ، وإلى التوراة والإنجيل معا :
إختلف الفقهاء في تعريف مفهوم أهل الكتاب على قولين : إلا أن العديد من أهل العلم رجحوا قول الجمهور بأنهم أهل التوراة والإيجيل اليهود والنصارى ، وبفرقهم المختلفة دون غيرهم لقول تعالى : { أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } ( الأنعام : 151 ) ، والطائفتان هم اليهود وكتابهم التوراة ، والنصارى وكتابهم الإنجيل ،
ولقد ورد مصطلح الكتاب في القرآن الكريم في بعض المواضع ليدل على أهل الكتاب ، وإلى التوراة والإنجيل معا ، حوالي ( 50 ) مرة ، وذلك تمييزا لهم عن أولئك الذين ليس لهم كتاب.. من الكافرين ، ومن ذلك قوله تعالى :
* ويأتي الكتاب بمعنى مكاتبة العبيد والأرقاء لتحريرهم :
ومكاتبة العبيد على الحرية هي عبارة عن "عقد بين المملوك ( العبد ) ومالكه ، يقضي بأن يدفع المملوك للمالك مقدارا من المال دفعة واحدة , أو على شكل أقساط , فإذا أدى ما عليه صار حرا " ، وجاء لفظ الكتاب في القرآن ليشير إلى هذا العقد ، كما قال تعالى :
- {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }( النور : 33 ) ،
* ويأتي بمعنى المعرفة والحجة والبرهان :
حيث استعمل القرآن الكريم لفظ "الكتاب" مشيراً إلى لازمه ومؤداه ، وهو العلم والمعرفة والحجة والبرهان ، لأن الكتاب عادة يسجل فيه المعلومات والوقائع ، وهذا التسجيل يحفظها من النسيان ويمنع عنها التسطيح والتهويل ، ويعد الكتاب بذلك بما سجل وكتب فيه على الموضوع شاهداً على صحته وتشخيصاً دقيقاً وموثقاً للوقائع ، وما استخدام الكتب كمصادر للبحث تعتمد عليها البحوث والدراسات ، ويستند عليها في مناقشة الآراء وتثبيت الحجج إلا تأكيد لهذه الحقيقة ، ومن الآيات التي تضمنت هذا المعنى قول الله تعالى :
اللوح المحفوظ هو مستودعٌ مشيئات الله تعالى ، وهو في الملإ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل ، وقال ابن القيم رحمه الله : " الشياطين لا يمكنهم التنزّل به لأن محله محفوظ أن يصلوا إليه ، وهو في نفسه محفوظ أن يقْدِر الشيطان على الزيادة فيه والنقصان " ،
ومن الآيات التي استعملت مصطلح الكتاب للإشارة إلى اللوح المحفوظ قول الله تعالى :
حيث اورد القرآن الكريم لفظ "الكتاب" – في بعض مواضعه - بمعنى الشريعة والأحكام التي جاء بها الأنبياء والرسل بشكل عام ومطلق ، والتي تمثل تفضلاً من الله ورحمة بالبشر واستجابة لحاجاتهم وتنظيماً لشؤونهم واختلافاتهم ،
ومن معاني الكتاب في القرآن الكريم أيضا كتاب الأعمال والأقوال للإنسان طوال حياته ، والذي يمثل نتيجة عمل الإنسان وأدائه ومواقفه وأعماله التي قام بها بإراداته وتقريره وتصميمه ، وتمثل في مجموعها سيرة الإنسان طوال حياته الدنيا ، وما ينعكس من الأعمال على بنائه النفسي والروحي ، والتي ستكون ملازمة له ، ومحددة لمسار حياته الأبدية في عالم ما بعد الموت.
وهو كتاب – بهذا المعنى – لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأثبتها ودونها ، وليس فيه فرصة للتزوير أو التدليس ، لأنه يُخط بحضور مشهود ، ويكتب بعين الفعل ، فهو مُبرزَ بذاته وبصورته وصوته فهو كتاب "مرقوم" ثابت ، والكتاب هنا على لونين اثنين رئيسين وإن اختلفت في كل صنف درجات ألوانه وعمقها وحدتها ، فهناك كتاب الأبرار وأصحاب اليمين ، ويقابله كتاب الفجار وأصحاب الشمال ، كما قال تعالى :
كما أن هناك كتاباً آخر لا يكتبه الله أيضاً ، بل أودع كتابته ورسمه إلى الأمة ، أي يكتب من قبل مجموعة يشدها أمرٌ واحد ، ويجمعها هدف مشترك ، ليخّطوا كتابهم ، ويرسموا عطاءهم ليكون هذا الكتاب هويتهم ونتاجهم الذي سيحدد موقعهم ودرجتهم في حفل العرض العام للأمم والحضارات ، والذي تستعرض فيه كل أمة عطاءها ورموزها وإمامها ، والذي يسبق عرض الأفراد والأشخاص ، فهناك موقف عرض الكتاب الأممي، ثم يأتي موقف عرض الكتاب الشخصي.
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً }( الأحزاب : 6 ) ،
رابعا : القرآن كتاب الله الحق الذي لا ريب فيه :
إن القرآن الكريم في حقيقته إنما هو الكتاب الخاتم الذي أنزله الله تعالى على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم هدى للناس جميعا ، ولذلك قال الله تعالى :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }( البقرة : 185 ) ، فهو إنما نزل هداية للناس – كل الناس - إلى الحق , وفيه أوضح الدلائل والبراهين على هدى الله عز وجل , وعلى الفارق بين الحق والباطل ، كما أنه نزل تبياناً للأحكام التي بها إصلاح الناس وأحوالهم في عاجلهم وآجلهم ، ومعاشهم ومعادهم ، والقرآن هو " الكتاب " الحق ، لأنه لن يصل إليه أي تحريف أو تبديل ، فرسالات السماء السابقة ائتمن الله البشر عليها ، فنسوا بعضها ، وما لم ينسوه حرفوه وبدلوه ، وأضافوا إليه من كلام البشر، ما نسبوه إلي الله سبحانه وتعالى ظلما وبهتانا وزورا ، ففضحهم الله على رؤوس الأشهاد ، قال تعالى : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }( البقرة : 79 ) ، وقال : {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }( البقرة : 75 ) ، وقال : {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا .... }( النساء : 46 ) ، وقال أيضا : {..... يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ... }( المائدة : 13 ) ، وقال : {..... وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ..... }( المائدة : 41 ) ،
أما القرآن الكريم فهو الكتاب الوحيد – من بين الكتب السماوية جميعا – الذي تعهد الله بحفظه من التحريف والتغيير والتبديل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وذلك مصداقاً لقوله تعالى : {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (سورة الحجر : 9 )
ولقد قيل في علة وصف القرآن بأنه " الكتاب " أن ذلك يرجع إلى أنه يقرأ ويحفظ في الصدور ، وأيضاً يُكتب ويسجل في الصحف والسطور ، وبينا كيف تعددت الآيات التي جاء فيها ذكر " الكتاب " ويقصد به القرآن الكريم ،
فالقرآن الكريم هو الكتاب الحق ، وهو الكتاب الذي لا يعتريه ريب ولا اضطراب ، قال تعالى في وصفه : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }( البقرة : 2 ) ، وقال أيضا :{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }( الأنعام : 115 ) ، وهكذا تؤكد الآية أن كلمة الله عز وجل - وهي القرآن الكريم – قد تمت وكملت صدقًا في الأخبار والأقوال , وعدلا في الأحكام والشرائع , فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة التامة ، لأنه سبحانه تعهد بحفظها من تدخل البشر ،
ونشير هنا إلى أن بعض أهل العلم يرى أن كلمات الله تعالى تأتي على صورتين : الأولى : ( تكوينية ) وتتمثل بالكون والأشياء ، والثانية : ( تكليفية ) وتتمثل بالنصوص المتضمنة للتعاليم الإلهية ، وهذه المقابلة بين كلمات القرآن وكلمات الكون لها دلالتها على الإنتظام والدقة ، ويمكن للمتأمل فيها أن يصل إلى تلمس جوانب هذا الكل ، و كلمات الله التكليفية باجتماعها تشكل " الكتاب " ، وكلماته التكوينية باجتماعها تشكل " الكون " وينتظم مفهوم الكتاب في القرآن (بمعناه غير اللغوي) ضمن محورين متكاملين : الكتاب الإلهي المنزل على الرسل ، والكتاب الإلهي المحيط بالكون وقد سمي بأم الكتاب واللوح المحفوظ (14) ، كما أن الأمر بالقراءة الوارد في قوله تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }( العلق : 1 ) ، وهو أول ما نزل من القرآن الكريم ، يتضمن القراءتين قراءة الكتاب المنزل وقراءة الكون ،
ويقول الإمام ( الشعراوي ) يرحمه الله في تفسيره : " لقد وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بأنه " الكتاب " ، وكلمة ( قرآن ) معناها أنه يُقرأ ، وكلمة ( كتاب ) معناها أنه لا يحفظ فقط في الصدور ، ولكن يُدوّن في السطور ، ويبقى محفوظاً إلى يوم القيامة ، والقول بأنه الكتاب ، تمييز له عن كل كتب الدنيا ، وتمييز له عن كل الكتب السماوية التي نزلت قبل ذلك ، فالقرآن هو الكتاب الجامع لكل أحكام السماء ، منذ بداية الرسالات حتى يوم القيامة ، وهذا تأكيد لارتفاع شأن القرآن وتفرده وسماويته ودليل على وحدانية الخالق ، فمنذ فجر التاريخ ، نزلت على الأمم السابقة كتب تحمل منهج السماء ، ولكن كل كتاب وكل رسالة نزلت موقوتة ، في زمانها ومكانها ، تؤدي مهمتها لفترة محددة وتجاه قوم مُحَّددين ، فرسالة نوح (عليه السلام ) كانت لقومه ، وكذلك رسالات إبراهيم ولوط وشعيب وصالح عليهم السلام . . كل هذه رسالات كان لها وقت محدود ، تمارس مهمتها في الحياة ، حتى يأتي الكتاب وهو " القرآن الكريم " الجامع لمنهج الله سبحانه وتعالى ، ولذلك بُشر في الكتب السماوية التي نزلت قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام بأن هناك رسولا سيأتي ، وأنه يحمل الرسالة الخاتمة للعالم ، وعلى كل الذين يصدقون بمنهج السماء أن يتبعوه ، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } ( سورة الأعراف : 157 ) ، والقرآن هو الكتاب ، لأنه لن يصل إليه أي تحريف أو تبديل ، ومعنى ذلك ألا يرتاب إنسان في هذا الكتاب ، لأن كل ما فيه من منهج الله محفوظ منذ لحظة نزوله إلى قيام الساعة بقدرة الله سبحانه وتعالى " (15) ،
يتبع الحلقة الثالثة .....
***************
الهوامش والإحالات :
===========
(14) - أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (المتوفى : 671هـ) : " الجامع لأحكام القرآن " ، تحقيق : أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش ، دار الكتب المصرية – القاهرة ، ج 10 ، ص : 389 ،
(15) – الشيخ محمد متولي الشعراوي : " مرجع سبق ذكره ، ج1 ، ص : 41 ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: