د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4825
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، ومن تبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين ،
أما بعد :
" عن أبي ذر جندب بن جنادة ، وأبي عبدالرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمْحُها ، وخالِق الناس بخلق حسن " (1) .
كم هي وصية غالية من وصايا سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لاثنين من أصحابه الكرام الأجلاء ، ومن خلالهما لكل واحد من أولئك الذين رضوا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، إنها وصية خالدة لو كتبت بآماق الإبر على أوراق الشجر لكانت عبرة لمن اعتبر ، فصلوات ربي وسلامه عليك يا من أوتيت جوامع الكلم ،
نعم وإذا جاءت الوصية من رسول الله محمد فعلى الإنسان المؤمن أن يتوقف أمامها ففيها الخير كله ، وفيها الهدى كله ، وفيها الصلاح والفلاح والفوز والنجاح كله ، فنعم الموصي ونعم الوصية ،
إنها وصية جامعة فيها من المعاني الأخلاقية والتربوية ما نحن في أمس الحاجة إليه في زمان الناس هذا ،
ولنا مع تلك الوصية وقفات نسأل الله تعالى أن ينفعنا بها :
الوقفة الأولى :
لننظر إلى من قدمت هذه الوصية ؟ لاثنين من أجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من ذلك الجيل الفذ الذي لا يتكرر، هما أبو ذر الغفاري ، ومعاذ ابن جبل رضي الله عنهما ، وما أدراك ما هما ،
- أما الأول : فهو أبو ذر جندب ابن جنادة رضي الله عنه ( توفي 32 هجرية ) وهو أحد السابقين الأولين للإسلام ، ومن نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل أنه أسلم بعد أربعة وكان خامسا في الإسلام ، وأول من حيا النبي بتحية الإسلام ، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على ألا تأخذه في الله لومة لائم ، وَكَانَ يُفْتِي فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ ، وقد شهد فتح بيت المقدس مع عمر ،
كان يشبه بعيسى ابن مريم عليه السلام عبادة ونسكا ، كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَوَى إِلَى مَسْجِدِهِ فَاسْتَوْطَنَهُ ، سَيِّدُ مِنْ آثَرَ الْعُزْلَةَ وَالْوَحْدَةَ، كَانَ وِعَاءً مُلِئَ عِلْمًا فَرَبَطَ عَلَيْهِ ، تُوُفِّيَ بِالرَّبَذَةِ ، فَوَلِيَ غُسْلَهُ وَتَكْفِينَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي نَفَرٍ ثَمَانٍ ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بِالرَّبَذَةِ وَدُفِنَ بِهَا ، وَكَانَ يُؤَاخِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ (2) ، هاجر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بادية الشام ، فأقام إلى أن توفي أبو بكر وعمر وولي عثمان رضي الله عنهم جميعا ، فسكن دمشق وجعل ديدنه تحريض الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم ، فاضطرب هؤلاء ، فشكاه معاوية ( وكان والي الشام ) إلى عثمان ( الخليفة ) فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، فقدمها واستأنف نشر رأيه في تقبيح منع الأغنياء أموالهم عن الفقراء ، فعلت الشكوى منه ، فأمره عثمان بالرحلة إلى الربذة ( من قرى المدينة ) فسكنها إلى أن مات ، وكان كريما لا يخزن من المال قليلا ولا كثيرا ، ولما مات لم يكن في داره ما يكفن به ، روى له البخاري ومسلم (281) حديثا (3) ،
هذا هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه علم من أعلام الصحابة ، يكفيه فضلا ومكانة شهادة سيد الخلق وحبيب الحق له كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر " ( صححه الألباني ) أنظر : السلسلة الصحيحة حديث رقم ( 2343) ،
وأما الآخر : فهو معاذ بن جبل الأنصاري ثم الخزرجي ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ، إِمَامُ الْفُقَهَاءِ، وَكَبِيرُ الْعُلَمَاءِ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِلًا عَلَى الْيَمَنِ ، يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ ، وَقِيلَ: ثَلَاثٍ , وَقِيلَ: أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ , كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُسَمِّيهِ : الْأُمَّةَ الْقَانِتَ، مَاتَ فِي الطَّاعُونِ طَاعُونِ عَمَوَاسَ بِالشَّامِ شَهِيدًا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، كَانَ مِنْ أَفْضَلِ شَبَابِ الْأَنْصَارِ حِلْمًا وَحَيَاءً، وَبَذْلًا وَسَخَاءً،أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ , فَكَانَ رَدِيفَهُ ، وَشَيَّعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا فِي مَخْرَجِهِ إِلَى الْيَمَنِ وَهُوَ رَاكِبٌ ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْيَمَنِ، وَلَمْ يُعَقِّبْ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: " رُفِعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَمَاتَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ " (4) ،
هذا هو معاذ ابن جبل رضي الله عنه الذي قال له رسول الله يوما : إني أحبك في الله !!!(5)
الوقفة الثانية :
أن هذه الوصية المحمدية الغالية شملت ثلاثة مكونات من منظومة العلاقات التي لا غنى للإنسان عنها في الحياة : المكون الأول : علاقة الإنسان بربه وخالقه ومولاه ، وأما المكون الثاني : علاقة الإنسان بنفسه وذاته ، والمكون الأخير علاقة الإنسان بالآخرين من بني جنسه ، فياله من حديث عظيم ، ووصية نافعة جمع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حق الله ، وحق النفس ، وحقوق العباد ،
كان هذا هو الموجز وإلى البيان والتفصيل :
- ضبط علاقة الإنسان بربه وخالقه :
فحق الله على عباده : أن يؤمنوا به ويوحدوه ويعبدوه وحده بغير شريك ولا نظير ، وأن يتقوه حق تقاته ، فيتقوا سخطه وعذابه باجتناب المنهيات وأداء الواجبات ، وهذه الوصية ( الوصية بالتقوى ) هي وصية الله للأولين والآخرين ، والمؤمنين والكافرين ، ووصية كل رسول لقومه أن يصيح فيهم قائلا : { اعبدوا الله واتقوه }( نوح : 3 )
إننا نتحدث عن جانب المعاملة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، التي ينبغي أن تتأسس على الإيمان والتقوى ، تقوى الله تعالى في السر والعلانية ، في الخلوة والجلوة ( بحضرة الناس ) ، في السراء والضراء ، في العسر واليسر ، في الشدة والرخاء ، وباختصار في كل زمان ومكان ، وهو ما عبرعنه قول من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم حين قال في وصيته : " إتق الله حيثما كنت " ، أميراً كنت أم مأموراً ، قائدا كنت أم تابعا ، حيث ما كان موقعك أو وظيفتك أو عملك ، فيالها من وصية جامعة مانعة ، فيما يتعلق بصلة الإنسان بربه ومعبوده الحق ، وضح بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ ولنا جميعاً كيف نتعامل مع الله تعالى بالتقوى ، وما أدراك ما التقوى ، كلمة قليلة في حروفها ومبناها ، لكنها عظيمة في مغزاها وفحواها ومرماها ، كلمة ما أكثر ما نقرؤها أو نسمعها وهي تتلى على آذاننا في كتاب الله عز وجل ، ولكن القليل من الناس هم الذين يقفون عندها ، ويتفكرون في معناها ومضمونها ، نعم كيف بنا ونحن نسمع قول الله تعالى وهو يأمرنا بها في عشرات المواضع والآيات من كتابه الكريم ، ويكفيك أن تسمع قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }( آل عمران:102 ) ،
فما معنى التقوى إذن ؟ إن شئت الاختصار والتركيز فهي في كلمات معدودة : أن يجدك الله تعالى حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي تعالى عنه : " تقواه حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يُشَكَر فلا يُكفَر " ، أما الإمام علي رضي الله عنه فيقول : " التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والرضا بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل " ، هكذا خوف وعمل ورضا واستعداد ، فماذا يا ترى تركت تلك الكلمة ، إنها كلمة جامعة لفعل الواجبات وترك المنهيات ، فعلى المؤمن أن يجتهد قدر استطاعته في أن يجعل بينه وبين عذاب الله تعالى وغضبه وسخطه وقاية ، وذلك من خلال خشيته ومراقبته في السر والعلن ، فإن كان الخلق لا يرونك أيها الإنسان في موضع ، فالله يراك في كل المواضع ،
ولقد ذكر الله خصال التقوى في كتابه الكريم في قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } ( البقرة : 177 ) ، وفي قوله عز وجل : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } ([ آل عمران : 133 ) ، ثم ذكر خصال التقوى فقال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ( آل عمران : 134 ) ، فوصف المتقين بالإيمان بأصوله وعقائده وأعماله الظاهرة والباطنة ، وبأداء العبادات البدنية والعبادات المالية ، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ، وبالعفو عن الناس ، واحتمال أذاهم ، والإحسان إليهم ، وبمبادرتهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بالاستغفار والتوبة ،
ولذلك جاءت وصية المختار صلى الله عليه وسلم بملازمة التقوى حيثما كان العبد في كل وقت وفي كل مكان ، وكل حالة من أحواله ، لأنه مضطر إلى التقوى غاية الاضطرار ، لا يستغني عنها في كل حال ،
فإذا علم المؤمن ذلك فليعلم أيضا أن ثمة عوامل تعين على التقوى ، وتيسر على المؤمن سبيلها منها :
- استحضار عظمة الله تعالى ، وأن الله تعالى مطلع على العبد في سائر أحواله ، ويعلم كل حركاته وسكناته ، وكل ما يأتي وكل ما يدع ، ولك أن تتأمل قوله تعالى : {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم يُنَبِّئُهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكل شيء عليم } ( المجادلة :7 ) ،
فعلى العبد أن يجتهد في أن يدرب نفسه على المراقبة ، وان يستشعر اطلاع الله عز وجل عليه فيستحى عند ذلك من المعصية ويجتهد فى الطاعة : قال الله تعالى :{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }( الحديد : 4 ) ، قال ابن كثير رحمه الله (6) : أى رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم ، من بر أو بحر ، فى ليل او نهار ، فى البيوت او القفار ، الجميع فى علمه على السواء ، وتحت بصره وسمعه فيسمع كلامكم ، ويرى مكانكم ، ويعلم سركم ونجواكم ،
وقال تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ( هود : 5 ) ، قال الشنقيطى رحمة الله : بين الله تعالى فى هذة الآية الكريمه أنه لايخفى عليه شىء ، وان السر كالعلانية عنده ، فهو عالم بما تنطوى عليه الضمائر وما يعلن وما يسر والآيات المبينة لهذا كثيرة جدا كقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ( ق : 16 ) ، وقوله جلا وعلا { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } ( البقره : 235 ) ، وقوله : { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } ( الأعراف : 7 ) ، وقوله { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } ( يونس : 61 ) ، ولا تكاد تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها أية بهذا المعنى.
ومما يؤثر في تقرير هذا المعنى : أن أعرابيا قال : خرجت فى بعض ليالى الظلم فإذا أنا بجارية كأنها علم ، فأردتها عن نفسها فقالت : ويلك أما كان لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ناهٍ من دين ؟ فقلت : إنه والله ما يرانا إلا الكواكب ، فقالت : فأين مكوكبها (7) ،
وسئل الإمام الجنيد رحمه الله يوما : " بم يستعان على غض البصر ؟ قال : بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظر إليه " ، وقال الحارث المحاسبى : " المراقبة علم القلب بقرب الرب " ،
وكان الإمام أحمد رحمه الله ينشد ويقول :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل***خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعـــة***ولا أن ما يخفى عليه يغيب
- التفكر في أسماء الله وصفاته وعظمته وطلاقة قدرته قال بشر ابن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه ، وقال الحسن، عن عامر ابن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – يقولون : إن ضياء الإيمان - أو نور الإيمان - التفكر، وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا آبن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكن في الدنيا ضيفًا، واتخذ المساجد بيتًا، وعلم عينيك البكاء، وجسدك الصبر، وقلبك الفكر، ولا تهتم برزق غد.
- الإكثار من التفكر في الدنيا وحقيقتها وفي هازم اللذات الموت : فها هو عبد اللله ابن عمر رضي الله عنهما ، كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه أتى الخربة ( الخرابة ) ، فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين مكلوم وهو يبكي ، ويقول : أين أهلك ؟ أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه ، فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }( القصص : 88 ) ويرددها ويمضي ،
ومن الروائع التي أثرت عن أمير المؤمنين عمر عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يجلس يوما بين أصحابه ، فإذا به يبكي وينتحب ، يبكي بكاء اليتيم ويتململ تملل العليل السقيم ، فسُئل عن سر بكائه ذلك فقال : " فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ، ولئن لم يكن فيها عبرة ، إن فيها مواعظ لمن ادكر" ، ومما يؤثر عن ابن القيم رحمه الله قوله : " الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليثمر منهما معرفة ثالثة ، كاستحضار الدنيا وصفاتها ، والآخرة وصفاتها ، ليثمر من ذلك أيهما أحق بالإيثار، واستحضار الأخلاق والأعمال الصالحة والفاسدة هل وجودها خير أو عدمها ، ثم يؤثر العاقل أنفع الأمرين، وهكذا.
- معرفة ما فى سبيل الحرام والمعاصي من المفاسد والألام : فليس فى الدنيا والأخرة شر و داء إلا وسببه الذنوب والمعاصى ، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله : " فما الذى أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب ، وما الذى أخرج إبليس من ملكوت السماء ، وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعلت صورته أقبح صوره وأشنعها ، وباطنه أقبح من صورته وأشنع وبدل بالقرب بعداً ، وبالرحمة لعنه ، وبالجنة ناراً تلظى ، فهان على الله غاية الهوان ، وسقط من عينه غاية السقوط ، فصار قوداً لكل فاسق ومجرم ، رضى لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة ، فعياذاً بك اللهم
من مخالفة أمرك ، وأرتكاب نهيك ، وما الذى أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال ، وما الذى سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على سطح الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية ، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم ، وما الذى أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم فى أجوافهم وماتوا عن أخرهم ؟ وما الذى رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم ، فجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعهم حجارة من سجيل ، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ، ولإخوانهم أمثالها وما هى من الظالمين ببعيد ، وما الذى أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل ، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى ؟ وما الذى أغرق فرعون وقومه فى البحر ، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم ، فالأجساد للغرق ، والأرواح للحرق ، وما الذى أهلك القرون من بعد نوح ودمرها تدميراً(8) ، إنها المعاصي والذنوب والاجتراء على الله ومخالفة أمره ، ولا شك أن سبيل المعاصى فيه من التعرض للعذاب العاجل والأجل وضيق الصدر والرزق ، وبغض الخلق ومحق البركة ، ما الله وحده به عليم ، فهى كطعام لذيذ مسموم يتمتع به لحظات وتبقى آلامه فى الحياة وبعد الممات كما قال القائل :
تفنى اللذاذة من نال لذتها ***من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها***لا خير فى لذة من بعدها النار
- أن يتعلم العبد كيف يغالب هواه ويطيع مولاه جل جلاله ، قال الشيخ مصطفى السباعى رحمه الله : " إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله ، فإذا لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال ، فإذا لم ترجع فذكرها بالفضيحه إذا علم الناس ، فإذا لم ترجع فاعلم أنك تلك الساعة انقلبت إلى حيوان " . (9)
وصفوة القول أن تقوى الله تعني : المحافظة على أوامر الله وامتثالها ، واجتناب نواهيه والبعد عنها ، ولنعلم يقينا أن تقوى الله ليست محددة بزمان ولا مكان ، والإنسان عبد لله في جميع الأحوال ، ولا يليق بالعبد أن يعطي نفسه إجازة من خشية سيده وطاعته ومراقبته ، والله يقول {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ، ومادام المؤمن يعلم يقينا أن مهمة الإنسان في هذه الحياة هي عبادة الله وحده وطاعته ، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، فينبغي أن يعي ذلك جيدا ، وأن يكون ثابتا على مبادئه ، معتز بدينه وعقيدته ، في كل زمان ومكان ، فمحياه كله لله ، وأعماله جميعها لمولاه ، ومماته لله ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } ،
يتبــــع إنشاء الله
***************
الهوامش والإحالات :
============
(1) - قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر : - محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته " ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، حديث رقم : 97 ،
(2) - أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني ( ت : 430هـ) : " معرفة الصحابة " ، تحقيق : عادل بن يوسف العزازي ، دار الوطن للنشر – الرياض ، ط1 ، 1419 هـ - 1998 م ، ج2 ، ص : 558 ،
(3) - خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي ( ت 1396هـ) : " الأعلام " ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة : الخامسة عشر - أيار / مايو 2002 م ، ج2 ، ص : 140 ،
(4) - شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت : 748هـ) : " سير أعلام النبلاء " ، تحقيق : مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة : الثالثة ، 1405 هـ / 1985 م ، ج1 ص ص : 443 – 457 ،
(5) – كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: " أخذ بيدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا معاذ"! قلت : لبيك ، قال : " إني أحبك " ، قلت : وأنا والله أحبك ، قال : " ألا أعلمك كلمات تقولها في دبر كل صلاتك " ؟ قلت : نعم ، قال : " قل : اللهم أعني على ذكرك وشكرك ، وحسن عبادتك ".(قال الألباني : صحيح) ، أنظر : - محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري " ، دار الصدّيق ، الطبعة : ط1: 1421هـ ، ج1 ، ص : 254 ،
مصدر الكتاب : www.alalbany.net
.(6) - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 700 -774 هـ ) : " تفسير القرآن العظيم " ، تحقيق : سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة للنشر والتوزيع ، ط2 ، 1420هـ / 2000م ، ج4 ، ص : 304 ،
(7) - أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي : " المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي " ، دار إحياء التراث العربي – بيروت ، الطبعة الثانية ، 1392هـ ، ج1 ، ص : 157- 158 ،
(8) - محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله : " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي المعروف بـ (الداء والدواء) " ، دار الكتب العلمية – بيروت ، ص ص : 42-43 ، ( بتصرف واختصار ) ،
(9) - مصطفى السباعي : " هكذا علمتنى الحياه " ص : 32 ، http://search.4shared.com/postDownload/TnL1yrhv/_____.html
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: