وقفة مع آية - 3 - " وتقلبك في الساجدين " وبيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11985
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
القول الثالث : تقلبك مع الساجدين
أما القول الثالث : فمؤداه أن معنى " وتقلبك في الساجدين " أي وتقلبك مع الساجدين بمعنى تصرفك معهم فـي الـجلوس والقـيام والقعود، وممن قال هذا عبد الله ابن عبـاس رضي الله عنه حيث قال: وَتَقَلّبَكَ فِـي السّاجِدِينَ قال : يراك وأنت مع الساجدين تَقَلّب وتقوم وتقعد معهم، ثم قال : " وأولى الأقوال في ذلك بتأويله قول من قال تأويله : ويرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك، حين تقوم معهم وتركع وتسجد، لأن ذلك هو الظاهر من معناه " (1)،
هذا وممن اختار هذا القول من المفسرين المحدثين ( ابو بكر الجزائري ) إذ قال في تفسيره لهذه الآية : أي ويرى تقلبك قائماً وراكعاً وساجداً مع المصلين من المؤمنين، بمعنى أنه معك يسمع ويرى فتوكل عليه ولا تخف غيره، وامض في دعوتك ومفاصلتك للمشركين، (2)،
القول الرابع : كما كانت الأنبياء من قبلك تفعل
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : " وتصرّفك فـي أحوالك كما كانت الأنبـياء من قبلك تفعله , والساجدون فـي قول قائل هذا القول: الأنبـياء (3)،
القول الخامس : تقلبك في أصلاب آبائك :
وثمة قول يرى أن معنى الآية أن الله تبارك وتعالى يعلم تقلبه في أصلاب الأنبياء من آبائه الساجدين من أب إلى أب مثل إبراهيم ونوح عليهم السلام، وفي هذا قال عطاء عن ابن عباس : " أراد تقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة "(4)،
وروي عن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس قال : " وتقلبك فى الساجدين " , قال: من نبى إلى نبى حتى أخرجت نبيا " ( رواه ابن عساكر، قال الألباني : قلت : وشبيب بن بشر ضعيف ) (5) ,
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى " وتقلبك في الساجدين " ما زال يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه صلى الله عليه وسلم " (6)،
وقال ( الآجري ) في الآية رحمه الله (7) : " اعلموا رحمنا الله وإياكم أن النكاح كان في الجاهلية على أنواع غير محمودة إلا نكاحا واحدا نكاح صحيح : وهو هذا النكاح الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيزوجه على الصداق وبالشهود، فرفع الله عز وجل قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، وصانه عن نكاح الجاهلية، ونقله في الأصلاب الطاهرات بالنكاح الصحيح، من لدن آدم، بنقله في أصلاب الأنبياء، وأولاد الأنبياء، حتى أخرجه بالنكاح الصحيح صلى الله عليه وسلم "،
وطبقا لهذا القول استدل بعضهم بهذه الآية على أن آباء الأنبياء ما كانوا كفاراً، قال الرازي : " ويدل عليه وجوه : منها قوله تعالى : " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين "، ( الشعراء : 218، 219 )، قيل معناه : إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد، وبهذا التقدير فالآية دالة على أن جميع آباء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين، وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام كان مسلماً (8)، وعلى هذا
فإن المذكور في القرآن فذاك عمه، واستدلّ بعضهم لهذا القول أيضا فيمن بعد إبراهيم من آبائه، بقوله تعالى عن إبراهيم: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}، أي وجعل كلمة التوحيد المفهومة من قوله " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " كلمة باقية في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى، كما استندوا أيضا إلى حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح " ( قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : ( 3223 ) في صحيح الجامع )،
وفي تعقيبه على هذا الرأي يقول ( الشنقيطي ) رحمه الله في ( أضواء البيان ) : " ...في الآية قرينة تدلّ على عدم صحة هذا القول، وهي قوله تعالى قبله مقترنًا به : {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعًا، وأوّل الآية مرتبط بأخرها، أي: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك، وحين تقوم من فراشك ومجلسك، ويرى {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، أي: المُصلِّين، على أظهر الأقوال، لأنه صلى الله عليه وسلم يتقلب في المصلّين قائمًا، وساجدًا وراكعًا، وقال بعضهم: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، أي : إلى الصلاة وحدك، و {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، أي: المصلّين إذا صلُّيت بالناس (9)،
فوائد ولطائف وهدايات من الآية وسياقها :
ومن خلال تأملنا لقوله تعالى : { وتقلبك في الساجدين } والسياق الذي وردت فيه الآية يمكننا أن نستخلص بعض الفوائد والهدايات التي يمكن لنا أن نوجزها فيما يلي :
- أن تلك الآيات - التي نحن بصددها – تشير وتؤكد على أن الحق سبحانه وتعالى مطلع على رسوله، ومشاهد له، وعليم بجميع أحواله وحركاته وسكناته، وبذلك فهي تتضمن إشارة واضحة إلى سمو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلو مكانته عند ربه، وتنويهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في جليل أعماله الصالحة في سبيل إرضاء ربه ومولاه، كما أن في الآية وسياقها تسلية إلهية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يُلاقيه من أذي المشركين وتكذيبهم وإعراضهم، وتثبيتا له على الحق، لأن اطلاع الله على ذلك، وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية، كقوله تعالى : {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } ( الطور : 48 )، فأمره بالصبر لحكم ربه جل جلاله وأمره فيما حَمَّله من تبعات الرسالة، وعلى ما يلحقه من أذى قومه وصدودهم وعنادهم، فإنه بمرأى من ربه وحفظ ومزيد اعتناء، وأمره أن يكثر من التسبيح بحمد ربه، حين يقوم إلى الصلاة والطاعة،
- أن في الآيات إشارة إلى عناية الله تعالى بالمسلمين تبعا للعناية برسولهم صلى الله عليه وسلم، قال ابن الجوزي : أن معنى الآية { الذي يراك حين تقوم ..}، معناه " يراك وحدك ويراك في الجماعة، وهذا قول الأكثرين " (10)،
قال ( ابن عاشور ) في تفسيره : وهذا يجمع معنى العناية بالمسلمين تبعا للعناية برسولهم صلى الله عليه وسلم، فهذا من بركته، وقد جمعها هذا التركيب العجيب الإيجاز " (11)،
==========
يتبــــــع
أحمد بشير - مصر
الهوامش :
(1) - محمد بن جرير الطبري : مرجع سبق ذكره، ج19، ص : 416،
(2) - جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري : " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير "، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط5، 2003م، ج3، ص : 688،
(3) - أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري : " الكشف والبيان "، تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - 1422 هـ - 2002 م، ج7، ص : 184،
(4) - الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي : " تفسير البغوي معالم التنزيل " تحقيق محمد عبد الله النمر وآخرون، ؛،4/358، حقَّقَه وخرَّج أحاديثه :محمد عبدالله النِّمْر، وعثمان جمعة ضميرية،وسليمان مسلم الحرش،دار طيبة للنَّشر والتوزيع،الرياض ـ المملكة العربية السعودية،الطبعة الثانية 1414هـ - 1993م ، ج6، ص : 134،
(5) - محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى : 1420هـ) : " إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل "، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الثانية 1405 هـ - 1985م، ج6، ص : 332،
(6) - أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي (المتوفى : 333هـ) : " المجالسة وجواهر العلم "، تحقيق : أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، 1419هـ، ج8، ص : 184،
(7) - الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري : " الشريعة "، ص : 398، مصدر الكتاب : موقع جامع الحديث :
http://www.alsunnah.com
(8) - محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي : " تفسير الفخر الرازى "، دار إحياء التراث العربى، ج13، ص : 38،
(9) - محمد الأمين الشنقيطي : " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1983م، ج6، ص : 103،
(10) - ابن الجوزي : " زاد المسير "، دار الكتب العلمية، 2009م، ج6، ص : 148،
(11) - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " التحرير والتنوير "، الطبعة التونسية، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م، ج19، ص : 204،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
14-12-2014 / 22:06:33 nour