فتحي الزّغـــــل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4720
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
… أمّا الأساس الخامس لمنظومة الاقتصاد في الإسلام، فهو اقتصار الضّريبة على الأغنياء فقط دون غيرهم من سائر الطّبقات الاجتماعيّة. الأساس الذي لا وجود لمثله أو لشبيهٍ له في أيّ منظومة اقتصاديّة بشريّة ، بل إنّه و بوجوده في أيّ مجتمع، يمكن لنا القول عليه بأنّه يطبّق تعاليم الدّين الإسلامي و تشريعاته في المجال الاقتصادي. لأنّ هذا الأساس هو ركنٌ من أركان الدّين الخمسة، علاوةٌ على أنّه أساس من أساسات المنظومة الاقتصاديّة الإسلاميّة سأتناوله على هذا التصنيف. و أنّ تطبيقه في معاملات الفرد المسلم الاقتصاديّة و في معاملات المجتمع الاقتصادية أيضا، هو إتيان لركن من أركان الإسلام الذي لا يقوم إلا به.
و أقصدُ بهذا الأساس "الزّكاة": و هو ضريبة فرضها الإسلام على من يجمع مالًا يزيد على نفقات صاحبه، وهو ما يُعبَّرُ عنه في الفقه بـــ "النِّصاب"، إذا بقي ذلك المال عنده عاما كاملا دون نقصان يُخفّضه إلى ما دون النّصاب. و هي مُحدّدةٌ بمقدار ربع العُشٌرِ أي اِثنان و نصف في المائة، و ذلك في كلّ الحالات و الأزمنة و الأمكنة. بشكل يختلف تماما مع الجداول التّصاعديّة لنسبة الضّرائب المعروفة في الاقتصاد الكلاسيكي. إذ لا وجود في الإسلام لزيادة تلك النّسبة الواجب دفعُها أو إخراجُها كلّما زاد المالُ المجموعُ طيلة العام. و قد أثبتت عديد الدّراسات الاقتصاديّة الأكاديميّة غير التّجريبية في بعض الجامعات الغربيّة العريقة و المنشورة في صفحاتها الرّسميّة على شبكة الإنترنت كجامعة "هارفرد" بالولايات المتّحدة الأمريكيّة و جامعة "كامبريدج" البريطانيّة، أنّ ثبات نسبة الضّريبة في الإسلام لها تأثيرٌ مباشر في تدفّق الاستثمار و تطوّره، و نمو حجم الدّورة الاقتصادية ككلّ. و أنّ نسبتها القليلة (2.5 بالمائة ) مقارنة مع بعض النّسب الّتي تصل إلى 35 بالمائة في بعض الحالات، من شأنها أن تكون حافزا على العمل و الإنتاج، لقطعها التّامّ مع فكرة الدّفع الاِنصياعي لجزءٍ هامٍّ من ثروة الفرد تحت مسمّيات الضريبة على الدّخل.
....و لفهم عبقريّة هذا الأساس و ليتبيَّن لنا مدى صلاحه للفرد و للمجتمع ، يكون من الواجب أن نقارن بينه و بين مثيله في المناهج الاقتصادية المعروفةِ،. ففي النّظام الضّريبي الكلاسيكي يدفع كلُّ ذي دخلٍ ضريبةً على دخله تسليما أو اقتطاعا من أجره، و لو لم يكن قد أبقى شيئا من دخله ذاك عند نهاية عامه. بخلاف الأمر في المنظومة الاقتصاديّة الإسلاميّة التي تعفي هؤلاء من دفع الضريبة و هي الزكاة.
فالموظّفون و العمّال و صغار الحرفيين و صغار التّجار و صغار الفلاّحين و أصحاب المهن ذات الدّخل القليل، يُكوِّنُون شريحة اجتماعيّة كبيرة في أيّ مجتمع. و يعيشون على دخلِهم الذي يكون في الغالب شهريّا و في بعض الأحيان موسميّا، بطريقة لا تبقى لهم مدّخرات لديهم طيلة سنة كاملة، بالنّظر إلى قلّة دخلهم و تواضعه، كما إلى تناسب ذلك الدّخل ومستوى معيشة مجتمعاتهم. و هم حتّى إذا ما نجحوا في اِدّخار شيءٍ من دخلهم لسنة كاملة، فإنّ مقدار تلك المدّخرات لا تصلُ حدَّ النّصاب المفروض عليه الزكاة، أي الضّريبة في النّظام الاقتصادي الإسلامي. بخلاف الأمر في النّظم الاقتصادية الكلاسيكية أينَ يُفرَضُ نظام ضريبةٍ متدرّجٍ عامّ على كلّ ذوي الدّخل على دخلهم، مهما يكن مقدار ذلك الدّخل، و مهما تكن علاقة المناسبة بينه و بين مستوى المعيشة في المجتمع... و هنا يتبيّن لنا عمقُ الاختلاف بين النّظامين: فبينَما يَدفعُ كلّ أفراد المجتمع ذوي الدّخل في المنظومات الاقتصاديّة الكلاسيكية ضريبةً على دخلهم تتناسبُ تصاعديًّا مع مقدار دخلهم، يقتصر دفع الضّريبة في المنظومة الاقتصاديّة الإسلاميّة على الأغنياء فقط، و هم تحديدا الذين جمعوا مالًا بقي عندهم سنة كاملةً يزيد على حاجتهم في تلك السّنة، الضريبة التي لا تتناسب تصاعديّا مع مقدار مالهم المُدّخَرِ، بل هي ثابتة بنسبة قليلةٍ جدّا إذا ما قارنّاها بتلك النِّسب المعروفةِ في كلّ المنظومات الاقتصاديّة الغربيّة في كلّ الدّول و النُّظم.... و هو ما يمثّل بونًا شاسعا بين ما شرّعه الإسلامُ، و ما شرّعهُ البشرُ في نظريّاته في هذا المجال.
و بتطبيق ركنِ أو أساس الزّكاة بالطّريقة التي عرضتُها، سيبرز في المجتمع – لا محالةَ - واقعا اقتصاديّا يتميّز بوفرة النّقد السّائل أو ما يُعبّر عنه بالسّيولة في كلّ أيّام السّنة أي على مدار السّنة، و ذلك نظرا إلى أنّ الزكاة يستوجبُ دفعُها عند اكتمال النّصابِ و بقائه سنة كاملة عند صاحبه، و اكتمال السّنة هذا يحدُثُ في كلّ يومٍ لاختلاف مبدئها من الأيّام حسب الأفراد و يوم اكتمال النّصاب لديهم، الأمر الذي يقطع مع ظاهرة اقتصاديّة معروفةٍ لأهل الذكر في المنظومات الاقتصاديّة الكلاسيكيّة، تُعرف بـــ "فترة كساد التّقويم" أو "فترة حساب الجمع"، و التي تكون عموما في الفترة الممتدة بين آخر كلّ سنة و بداية السّنة التي تليها. كما أنّ وفرة السّيولة هذه ترجع إلى أنّ صاحب المالِ المستوجِب للزكاة، لا يدفع عليه ضريبة مرتفعةً، و أنّ تلك الضّريبة لا تشملُ ما يصرفه لحاجته طيلة سنة كاملة. و بذلك، وإذا ما ربطنا هذا الرّكن و هو الزكاة، بما أنتجه من وفرة مالٍ، مع الرّكن السّابق و هو تحريم الكنز، و الرّكن الذي قبله أيضا و هو تحريم الاِشتغال بالعملة و التّجارة فيها، تظهرُ لنا معالم الدّورة الاقتصادية في المجتمع المسلم، دورةٌ لا تُبقي أيَّ فرصةٍ للمالٍ أن يتجمّع في يد مالكه و يركُدُ، بل تُجبِرُه على استثماره و إنفاقه داخل مجتمعه، دون أن يكون استثماره ذاك قائما على إحساسٍ بالغُبن أو بالدّفع الغصبِ ، باقتطاع ماله للدّولة أو للمجتمع، أو على إحساس بالمراقبة الدّوريّة لنشاطه، لأنّ دفع المسلم للزكاة هو دفعٌ بطواعيَّة يُكمّل من خلاله أركان دينِه، و لا يمارس به فقط واجبا أو شعيرةً في مجال خاصّ من مجالات حياته. و هو ما يُحيلُنا إلى فكرة السّكّة المزدوجة التي صوّرتها في أوّل هذا الكتاب لبيان أنّ كلّ المنظومة الاقتصاديّة في الدّين الإسلاميِّ لا تعدو أن تكون سوى قطارا يسير عليها، و أقصدُ منظومتي "الأخلاق" و "الرّقابة الذّاتيّة". ففي الاقتصاد الإسلاميِّ لا حاجة للدولة أن تُدقِّقَ في الحسابات التي يُدلي بها صاحب المال، لأنّ خشيته من خالقه أشدّ من خشيته على نقصان ماله، بعكس كلّ المنظومات الضريبيّة الأخرى أين تدور لعبة القطّ و الفأر بين المُصرِّحِ بالدّخل و الجهة الجامعة للضريبة عليه، مع ما يدرّ هذا الوضع لوحده من مالٍ، خاصّة إذا عرفنا قيمة تكاليف دواوين المُحاسبة و الحسبة و القباضة، من أجورٍ و موظّفين و مراقبين و محاسبين في كلّ مجتمعات اليوم و كلّ يومٍ.
...و لكن يمكن لسائل أن يتساءل عن مدى كفاية ضريبة الزكاة المنخفضة جدًّا لحاجات و نفقات المجتمع. و هذا ما سأتناوله في ما يلحق من تحليل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: