تعليقا على مؤتمر النهضة... رضي الشيخان ولم يرض الثّائر
فتحي الزغل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4673
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تابعت مثل عديد المحلّلين مؤتمر حزب حركة النهضة الذي انعقد مؤخرا بتونس، وقد آليتُ على نفسي أن لا أنشر تعليقا أو تحليلا يخصّ مضمون هذا المؤتمر قبل وأثناء وقوعه، انتظارا لمخرجاته التي سيكون الكلام فيها منطقا، عندما تكون قرارات أصدرت ومقرّرات اُعتمِدت.
لكن وها أن المؤتمر قد ولّى بما أحدثه من إبهار وانبهار لدى البعض، وحقد واستفزاز لدى بعض آخر خاصّة من يساريّي الوطن. وبما احتواه من رسائل أراد منظموه أن يرسلوها للداخل والخارج، ورسائل بدت لي وأظنّ أنّها انفلتت منهم فكان بينها واضحا أو على استحياء دون أن يشعرون. فقد أشرّع لنفسي الخوض في الحدث الذي لم أُدعَ إليه، إنّما من خلال ما تناقلته وسائل الإعلام باختلافها وتنوّعها. مع يقيني بأنّ ما اختلج في نفسي وعواطفي هو غير ما وقر في عقلي وفي فكري الذي أحملُ في كلّ ما يخصّ هذا المؤتمر وهذا الحزب. حيث أنّ الدّقّة العلميّة والرؤية الموضوعيّة المطلوبتان لهكذا حدث وطني تجعل منّي أكابد تموضعي في الفكر العامّ لهذا الحزب، إذ لا يخفى عليكم توجّهي الفكري الإسلامي واعتمادي الظاهر على المنهج الذي يسمّى اصطلاحا بالمنهج الإسلامي في السياسة وفي الفكر وفي كلّ مجالات الحياة. ولعلّ ذلك السبب هو الذي جعلني أسلّط الضّوء على نقاط هي من قبيل الاستشرافيات لا من تلك التي تبحث عن الحدث نفسه.
ومن تلك النقاط التي سلبت اهتمامي ذاك التّقارب الكبير الظاهر للعيان بين أعداء الأمس وأصدقاء اليوم، وأقصد طبعا الحزب المؤتمِر والرئيس الحاضر الواصل إلى منصبه عبر تشكيلة حزبيّة أسّسها وبعثها ونسّق صعودها ليضرب شعبيّة هذا الحزب وتمدّده السياسي الانتخابي وقد نجح في ذلك أيّما نجاح.
ولأن الحزب والرّجل يشربان من واديين مختلفين، ولأنهما ينتميان لمدرستين متناقضتين، فقد كان التقارب الحاصل في المؤتمر بينهما يثير الدهشة أكثر من أي وقت مضى، فالرجل – رئيس الجمهورية – بدا لي وكأنّه مرشّح الحزب المؤتمِر لكل المناصب الحكوميّة الرسميّة المستقبليّة عندما سمعتُ خطابه ورأيت الحفاوة البالغة والمتجاوزة للبروتوكول التي حبته بها حركة النهضة. بل خلتُ في بعض الأوقات أنّ الجماعة سينتخبوه رئيسا لهم للسنوات الخمس القادمة مطبّقين الآية التي تقول معناها بأنّ الذي بينك وبينه عداوة لا تعامله إلّا وكأنّه وليٌّ حميم. في خطوة وموقف كسر كلّ المتعارف عليه سياسيا في البلدان التي شهدت ثورات على نظم قديمة وعلى منظومات قامت عليها تلك الثورات، إذ قطعت القوى المنتصرة في ثورات تلك البلدان مع المنظومات التي كانت سائدة قبلها. وحيث لا يخفى أنّ الرّجل هو أساسا من رموز المنظومة السابقة في تونس. فقد كان التحالف أو التّجاور أو التّعاشر بهذه الكيفيّة وهذا الجدّ غريبا بعض الشيء إن لم يكن في كلّه.
فالحركة لم يكن لها ما كان لولا الثورة على النظام البائد، وخروج الناس إلى الشوارع لطرد المخلوع ولمحاسبة كل رموز نظامه الفاسد ورموز الفساد في ما مضى من عمر الشعب في حقبته المعاصرة لها. وعليه فإنّ حكاية العداء والخصومة السياسية بينها وبين كلّ ما ينتمي لتلك الحقبة التي لفظها الشعب سيكون من باب المنطق. نفس المنطق الذي حكم أولائك الذين ينتمون إلى تلك الحقبة عند استعدائهم الشرس للحركة وللمطالب الثورية في الأيّام الأولى التي أعقبت الثورة. بل قلنا ذلك مرارا وتكرارا وأكّدنا أنّ ذلك لا يعدو أن يكون من قبيل الخارق للعادة أو الغريب من الفكر والممارسة.
لكن أن ينحاز طرف من ذينك الطرفين إلى ضدّه، تحت أيّ سبب أو مناسبة يسمّى "تكتيكا" عند أحدهما و"مهادنة" عند الآخر، فذاك يمكن رؤيته هو الخارق للعادة وقدرة على لباس جبّة على غير المقاس. خاصّة إذا ما استحضرنا –موضوعيًّا – السبب الحقيقي في عودة رموز الحركة من الخارج ولملمة جراحها وإعادة هيكلتها إلى أن تصل إلى النجاح والحالة التي وصلت إليه في المؤتمر موضوع المقالة، وهو خروج كل ثائر خرج يومها رفضا لمن يعتبره مستبدًّا جلده وسرقه وسلبه حرّيته وكرامته.
ولعلّ ذاك التقارب الكبير بين النهضة والنداء هو وليد حسابات سياسية ومناكفات مصلحية تحكمها المرحلة وتحكمها أيضا البراغماتية الميكيافيلّيّة البادية على الطّرفين. ولعلّ في ذلك خير قد جنت البلاد ثمرته، وأنتج حليــبَه للجماعة ولحلفائهم في الحكم والحكومة وفي الرزق والمعونة. بل ولعلّ في ذاك التقارب الذي وُلِد منذ التقى الشيخان "الغنوشي" و"السبسي" في ما يسمّى بــ "لقاء باريس" تجنيب للبلاد ويلات حرب نازلة وصولات نهب حالكة.
لكن يبقى السؤال الذي يؤرّق كلّ متتبّع لمسيرة هذه الحركة الإسلامية منذ الثورة إلى اليوم... هل رضي الذي خرج يوما ينادي بالحرّيّة والكرامة، وأسقط هو النظام بما رضيت به الفرقتان؟ أو بمعنى آخر...
هل رضي الثائر بما رضي به "الشيخان"؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: