فتحي الزغل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4523
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
للمرّة الثّانية، يختار السّكوتلانديّون في استفتاء الثّامن عشر من سبتمبر الجاري البقاء ضمن المملكة المتّحدة أو ما يعرف أكثر عندنا ببريطانيا . المملكة الّتي تضمّ أربعة دول أقاليم أو مقاطعات أو قوميّات هي انقلترا و ويلز و إيرلندا الشّماليّة و اسكتلندا.
و قبل أن ألج في موضوع هذه المقالة الرّئيس، أرى أن أنهي إليك قارئي بعض المعلومات التّاريخية و الجغرافيّة و الجيوسياسيّة لهذه المقاطعة و أقصد سكوتلندا، حتى تتّضح الصّورة التي سأعلّق عليها فيما يلحق من رأي.
فدولة سكوتلاندا هي مملكة تحكمها عائلة ستيوارت كانت مستقلّة إلى حدود سنة 1707 عندما أبرمت مع انقلترا ما يسمّى بقانون الوحدة. و هو القانون الّذي أوجد بريطانيا الفدراليّة المعروفة. و تحتلّ سكوتلاندا الجزء الشّمالي من بريطانيا على كامل الجزيرة المثلّثة التي تظهر في خريطة البلد من فوق بمساحة تقارب الثّمانين ألف كم2 يقطنها حوالي الخمسة ملايين ساكن موزّعين على مدنها الكبيرة كالعاصمة أدنبره و غلاسكو و على جلّ الجزر المتاخمة للجزيرة الأمّ و الّتي يقارب عددها السبعين. و يتديّن أغلبهم بالدّين المسيحي و لا يدين ثلثهم بأيّ دين، و يعتبر الإسلام ثاني دين في هذا البلد بما يقارب المائة ألف مسلم.
و قد اختار السّكوتلانديّون منذ أيّام في استفتاء وصلت نسبة المشاركة فيه بين المسجّلين في قوائم النّاخبين 86 بالمائة، البقاء تحت التّاج البريطاني. وذلك بفارق خمسة بالمائة من الأصوات. إذ كانت الـ "لا" و هي التي تعني رفض الانفصال قد حصدت 55 بالمائة من إجمالي الأصوات. بعد فترة حملة انتخابيّة استثنائيّة حبلى بالنّشاطات و الفعاليّات شارك فيها الأحزاب الثّلاثة الأولى في هذا البلد بكلّ ماكيناتها و قوّتها البشريّة لدعم رفض الانفصال.
و حسب تقديري، فإنّ اختيار الشّعب السكوتلاندي لهذا الخيار، ينبع أساسا من رؤيته لمصلحته و لمصلحة بلاده، إذا ما نزّلنا استفتاء السكوتلانديون على استقلالهم في سياق الاستفتاءات العديدة التي شهدها العالم على الأقل في العقدين الأخيرين، حيث أنّنا نجد أنّ نتيجته مخالفة لها. و التي نتذكر بعضها مثل تلك التي حدثت في تيمور الشّرقيّة في أندونيسيا أو في القرم في أكرانيا أو في جنوب السّودان في السّودان، وهو ما يشكّل لوحده ظاهرة تلفت نظر الدّارس و المحلّل.
فالسّكوتلانديون قد صوّتوا لخيار مصلحتهم أوّلا و أخيرا في هذا الاستفتاء. و غلّبوا تلك المصلحة على ما يمكن أن يكون فطريّا لدى البشر من عصبيّة للعرقيّة و توقٍ للتّفرّد ضمن العرق و الجغرافيا لدى كلّ الشّعوب و المجتمعات البشريّة. و هي النّزعة الّتي تبدأ فرديّة ذاتيّة لها جذور في كلّ شخص و حيوان، و تنتهي جماعيّة لها تمظهرات في كلّ مجموعة بشريّة أو حيوانيّة، إذا ما وُجِد القاسم المشترك بين أعضائها، مهما يكن هذا القاسم. سواء كان لغة أو تاريخا أو أرضا أو دينا أو حتّى عرقا...
و مخالفة الغريزة لم تكن، لولا درجة الوعي الشّخصي، و الوعي الجماعي الّذي اكتسبه السكوتلانديون ليقرّروا مصيرهم. لأنّهم يعرفون أنّ الانفصال عن المملكة المتحدة سينتزع منهم مزايا و مستحقّات و منافع قد تستوجب منهم العمل لسنوات أو لعقود قادمة ليحققّوها لذاتهم في حال انفصالهم، خاصّة و أنّ البيئة الاقتصاديّة العالميّة الرّاهنة تتّسم بالتّقلّب، و بصعوبات جمّة في نسب النّمو الّتي تعاني من أجلها كلّ الشّعوب.
فالمواطن السكوتلاندي مثله مثل أيّ مواطن بريطاني، يعيش ضمن منظومة اقتصاديّة اجتماعيّة تصنّف الرّابعة أو الثّالثة عالميّا، و لذلك فهو يدرك جيّدا أنّه بانفصاله عن البلد الأمّ سيخسر ذلك التّصنيف نهائيا أو على الأقل لفترة مستقبليّة قد تكون طويلة نسبيًّا. هذا إلى جانب خسارته لصفة المملكة المتّحدة في الرّقعة الدّولية و ما تتمتّع به من قوّة و عراقة بين الأمم، في محيطها الأوربّي كما في محيطها الدّولي .
كما لا يفوت أيّ ملاحظ للشّأن البريطاني الدّاخلي و ما تبنّته الحملة الرّافضة للانفصال من وعود و رؤى قطعها السّياسيون على أنفسهم لإقناع السكوتلانديون بالبقاء ضمن المملكة المتّحدة ، و الّتي أعتبرها في حدّ ذاتها مكسبا عظيما جدّا إذا ما تحقّقت، و بل و تتعدّى أهمّيتها الشعب السكوتلاندي لبقيّة شعوب الدّولة البريطانيّة ..... و كأنّ السكوتلانديين بذلك قد حرّكوا مقبض المصلحة لفائدتهم باستفتائهم كما لفائدة زملائهم الّذين يكوّنون معهم المملكة المتّحدة. فهم قد اقتلعوا وعودا بتوسيع اللاّمركزية في مقاطعتهم، و تدعيم استقلاليّة قرارهم في عديد المجالات الّتي تبقى أهمّها الضّرائب، و كلّ ما هو بعلاقة بالاقتصادي من حياتهم، عصب حياة كلّ الشّعوب بدون استثناء في نظري.
و عليه فإنّ التّصويت بالبقاء ضمن الدّولة الأمّ يمكن أن يكون درسا في البراغماتية السّياسية لكلّ الشّعوب، و خاصة الأقلّيات منها. تلك الّتي تضع لنفسها هدفا واحدا لعقود كاملة... و هو الاستقلال و لا غير الاستقلال، تخرجه للعالم في أشكال نضاليّة لتجلب به الرأفة و الرحمة. دون أن تفكّر يوما واحدا فقط في مدى امتلاكها لعوامل المحافظة على ذلك الاستقلال... هذا إن وقع.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: