د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4584
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحلقة الثالثة :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
أيها الإخوة الأحباب :
* من نماذج التطبيق المقدس لقيم الإسلام - نموذج من التربية النبوية - المنهج النبوي في مواجهة الأخطاء -
كانت هذه نبذة موجزة عن دين الإسلام أردنا من خلالها أن نعرف جانبا يسيرا من جوانب تلك النعمة الكبرى ، والمنة العظمى ، نعمة الله علينا بهذا الدين العظيم ، فلتلهج قلوبنا وألستنا بجميل الحمد والثناء لله تعالى على هذه النعمة الكبرى ، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة ، والْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ، قل بفضل وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ، الحمد لله الذي شرح صدورنا لهذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، وكرمهم به وأرشدهم إليه , وكما عشنا مع بعض النصوص المقدسة عن الإسلام ، فتعالوا إخوة الإيمان نعيش لحظات مع موقف من مواقف التطبيق المقدس ، تعالوا أيها الأحباب إلى موقف من مواقف العظمة لرسول الله المخاطب الأول بالقرآن الكريم ، وكل مواقفه تدل على العظمة ، تعالوا لنتعرف على منهج الإسلام في التربية ، ومواجهة الأخطاء البشرية ، تعالوا لنتعلم ، تعالوا لنجلس بين يدى معلم البشرية ، وأستاذ الإنسانية ، تعالوا إخوة الإيمان لنعرف كم نحن في حاجة ماسة إعادة صياغة أنفسنا من جديد على تعاليم الإسلام ، وقيم الإسلام ، ومفاهيم الإسلام ، وأنوار هدي نبينا العدنان ،
* شاب مأزوم يعرض نفسه على طبيب القلوب سيدنا محمد :
الموقف إخوة الإيمان رواه الإمام أحمد في مسنده ، وصححه الألباني ، ورواه أبو أمامة رضي الله عنه ، تعالوا لنعايش الموقف النبوي الرائع مجسدا ،
أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس يوما في مسجده الطاهر المكرم لاحرمنا الله تعالى وإياكم من الصلاة فيه ، فهو القائل صلى الله عليه وسلم : " وصلاة في مسجدي ألف صلاة " (1) ، يجلس الرسول الأمين في مسجده بالمدينة المنورة زادها الله نورا وتشريفا وتعظيما وتكريما ، مثوى جسد رسول الله الطاهر الشريف ،
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه **فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي تتوق لقبر أنت ساكنه ** فيه العفاف وفيه الطهر والكرم
* مرحلة الشباب ونيران الشهوة :
نعم أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين كوكبة من أصحابه الأخيار ، يتلوا عليهم آيات الله تعالى ، زيعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وبينما هو كذلك ، إذ يقبل عليه شاب في ريعان الصبا ، تغلي مراجل الشهوة في بدنه ، وإذا به يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبا عجيبا ، يا رسول الله ، إئذن لي في الزنا ، فإنه لا صبر لي على نار الشهوة التي تتأجج في داخلي ، أنا أريدك أن تتأمل الموقف جيدا ، وأن تتوقف أمام هذا الطلب من هذا الشاب ، إنه يطلب من صاحب الرسالة العصماء أن يأذن له في الزنا ، وما كاد الشاب ينطق بما نطق به ، هاج عليه القوم وماجوا ، وأراد الصحابة أن يفتكوا به لتطاوله على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فماذا كان رد فعل الحبيب المصطفى ، بكل سكينة وهدوء أشار إليهم أن يتركوه ، والتفت إلى الشاب وأقبل عليه قائلا : أدنه ، أي اقترب مني ، فاقترب منه الشاب بعد أن روعوه ، فدنا منه الشاب واقترب ، واسمع معي وأنت تتعجب إلى ذلك الحوار الراقي الذي دار بين مبعوث العناية الإلهية وبين هذا الشاب ، اسمع وتأمل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للشاب : أترضاه لأمك ؟ أي أترضى الزنا لأمك ، فوجيء الشاب بالسؤال ، وأسقط في يده ، أترضاه لأمك ؟ قال لا والله جعلني الله فداك يا رسول الله ، لا أرضاه لأمي ، قال الرسول : ولا الناس يرضونه لأمهاتهم ، قال له رسول الله : أترضاه لأختك ؟ لا ، أترضاه لعمتك ، لا ، أترضاه لخالتك ، لا ، أترضاه لابنتك ، لا ، وفي كل مرة يقول الشاب لا جعلني الله فداك ، فماذا حدث بعد ذلك ؟ وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وهو يدعوا له ويقول : اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه ، فماذا حدث ، روي أن هذا الشاب قال بعد هذا الحوار : لقد جئت إلى رسول الله وليس في الدنيا شيء أحب إلي من الزنا ، وذهبت من عند رسول الله وليس في الدنيا شيء أبغض إلى قلبي من الزنا ،
* إنه موقف من روائع الهدي النبوي :
إن هذه الواقعة تعطينا ما لا يحصى من الدروس والفوائد الهمة في مجال الدعوة إلى الله تعالى ، بالرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة ، إنها تطبيق نموذجي لتوجيهات الإسلام في قوله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }( النحل : 125 ) ، والمعنى : ادعُ - أيها الرسول - أنت ومَنِ اتبعك إلى دين ربك وطريقه المستقيم , بالطريقة الحكيمة التي أوحاها الله إليك في الكتاب والسنة , وخاطِب الناس بالأسلوب المناسب لهم , وانصح لهم نصحًا حسنًا , يرغبهم في الخير, وينفرهم من الشر, وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين. فما عليك إلا البلاغ , وقد بلَّغْتَ, أما هدايتهم فعلى الله وحده , فهو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله, وهو أعلم بالمهتدين ،
فياله من درس عملي عظيم للقائمين على الدعوة والإصلاح ، والتربية والتعليم ، والتوجيه والإرشاد ، درس عظيم للآباء مع أبنائهم ، وللأزواج مع زوجاتهم ، للمعلم مع تلاميذه ، لأستاذ الجامعة مع طلابه ، للدعاة مع المدعوين ، لولاة الأمور مع الرعية ،
نحن إذا أمام درس محمدي عبقري فذ ، تتجلى فيه صفات الرأفة والرحمة ، والرفق واللين ، ورجاحة العقل ، وسعة الأفق ، والحلم والأناة ، ولا تعجب أخا الإيمان ، أليس هو رسول الله الذي وصفه الله تعالى في قرآن يتلى إلى يوم القيامة ، حين قال جل جلاله :{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }( التوبة : 128 ) ، نعم بالمؤمنين رؤوف رحيم ، والرؤف الرحيم إسمان من أسماء الله الحسنى ، فانظر كيف وصف بهما رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قالوا ، أن من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يوجد نبي ولا رسول منحه الله تعالى وخلع عليه اسمين من أسمائه إلا سيد الخلق محمد ، فوصفه بأنه : بالمؤمنين رؤوف رحيم ،
نحن أيها الأخوة الأعزاء أمام نموذج تربوي فريد لا تعرف الدنيا له مثيلا ، إنه النموذج النبوي ، التربية المحمدية ، فما أحوج المسلمين اليوم إلى التربية النبوية ، إلى تربية الإسلام ، ما أحوج الناس في دنيا الناس اليوم إلى خلق الرحمة ، والرفق واللين والعاطفة ، في زمن ساد فيه العنف والصلف والطغيان والجبروت ، زمن سادت فيه الغلظة وقسوة القلوب ، دماء تسيل ، في شتى بقاع المعمورة لتعلن بوضوح لا خفاء فيه ظلم العباد للعباد ،
* إنه محمد أرحم الناس بالناس :
إسمع ما قاله الله عز وجل لأرحم الناس بالناس صلى الله عليه وسلم ، إسمع وترحم على تلك القيم ، وعلى أيامها ، قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم في قرآن يتلى إلى يوم القيامة : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }( آل عمران : 159 ) ،
المخاطب هو الله جل جلاله ، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموضوع الخطاب ما جبل عليه رسول الله من الرحمة والرقة والرأفة واللين ، تأمل أخي الكريم هذه الآية التي جمعت من الدلالات والمعاني والقيم ما الله به عليم ، إنك إذا تأملتها ، تصورتها ميزانا له كفتان : أما الكفة الأولى الراجحة ففيها صفات الإيجاب ، وقيم الإسلام ، التي جاء يبشر بها النبي الكريم ، ويدعوا الناس إليها ، تلك الصفات التي تحققت في صاحب الدعوة ، فبما رحمة من الله لنت لهم ، ( الرحمة واللين ) ، وأما الكفة المقابلة ففيها صفات السلب التي سادت في دنيا الناس اليوم ، صفات تنزه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينبغي أن ينزه عنها أتباعه من المؤمنين ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ،
إن المتذوق للغة العربية والمتعمق في تجويد القرآن يدرك قيمة الحرف ويتذوق معاني الألفاظ والكلمات وجرسها ووقعها ، ففي ناحية الإيجاب نرى كلمتي : الرحمة واللين ( رحمة – لنت ) ، وحين نسمع كلمة " رحمة " وتدخل إلى قلبك من خلال أذنك فكأنها البلسم الشافي الذي يغمر الإنسان من كل جوانبه ، فمن صوت الراء التي من صفاتها التجويدية الانفتاح ، إلى صوت الحاء وما فيه من الهمس وهو جريان النفس أثناء النطق به ، إلى الميم المرققة المفتوحة ، إلى التاء المربوطة المكسورة المنونة ( رحمته ) والتي تصور الرحمة وكأنها الغيث المغيث تتنزل ومن أين من الله ، ثم انظر إلى كلمة " لنت " ، وحروفها ، اللام المكسورة والتي تخفض خفض الجناح ثم النون وما فيها من إخفاء وغنة ، والترقيق ثم التاء المفتوحة ، وبهذه الصفات الجميلة في الداعية يكون التفاف المدعوين حوله كما التفوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
هذا هو نبينا الرؤوف الرحيم بالمؤمنين ، صلى الله عليه وسلم ،
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا ***منها ومـــا يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل ***يــغرى بهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى ***وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا عفوت فقادرا ومـــــــقدرا *** لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنـــــت أم أو أب ***هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا خطبت فللمنابر هـــــــــزة *** تعروا الندي وللقلوب بكاء
وإذا أخذت العـــــهد أو أعطيته *** فجميع عهدك ذمة ووفاء
* من الدروس النافعات في مجال التربية والدعوة :
والآن تعالوا إخوة الإيمان نتأمل بعض ملامح هذا النموذج النبوي الفريد ، نتأمل مضامين الحوار الذي دار بين صاحب الرسالة العصماء ، وبين هذا الشاب ، إنه موقف من مواقف العظمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل مواقفه تتسم بالعظمة والروعة والجلال ، ولا عجب فهو سيد الأولين والآخرين ، وهو المعلم الأول للبشرية جمعاء ، هو الأمي الذي علم المتعلمين ، المربي الذي رسم البسمة على شفاه البائسين ، وأشاع الأمل في قلوب اليائسين ، الربان الذي قاد سفينة الحياة في معترك الأمواج المتلاطمة ، إلى شاطيء الله رب العالمين ،
رأينا هذا الموقف التربوي لمعلم الإنسانية فماذا نلحظ وما الدروس والعبر التي نستخلصها من هذا المشهد :
* أول الدروس والعبر : شاب يعرض معاناته على رسول الله
- أن هذا الشاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله سؤالا ، ويطلب طلبا سيطر على كل جوانب نفسه واهتمامه ، إنه طلب غريب ، وسؤال عجيب ، هل جاء يسأل عن الجهاد في سبيل الله ، أم عن الانفاق في سبيل الله ، هل جاء يطلب من الرسول أن يسمح له بالخروج معه للغزو في سبيل الله ، كما كان شباب الإسلام يفعلون ، كلا !! وإنما جاء يأخذ تصريحا بأن يفعل فعلا عده الإسلام من كبائر الموبقات ، جاء يستأذن في الزنا !!!!
- أن مجيء الشاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا ، إنما كان سببه أن نيران الشهوة تتأجج في جوانحه ، بحكم الخلقة والجبلة ، نحن أمام شاب تملكته الشهوة .. وأخذت عليه مجامع نفسه وعقله ، وهو لا يستطيع الصبر عليها ، أو الفكاك منها ، وأنتم تعرفون قوة هذه الشهوة تحديدا وتمكنها من نفس الإنسان ، وللدلالة على قوة الطاقة الجنسية لدى الإنسان وشدتها ، يكفي أن نشير إلى بعض الأمور :
* ثاني الدروس : الإنسان ضعيف بطبعه :
- أن الله تعالى قال في سورة النساء وفي معرض حديثه عن النكاح ، وعما حرم من المناكح ، وما أباحه منها ، وبعدما ذكر الذين يتبعون الشهوات قال جل جلاله : {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }( النساء : 28 ) ، قال بعض أهل التفسير : أي لا يصبر عن النساء والشهوات (2) ، وقيل : لا يصبر عن النساء ، بما غرز فيه من غريزة الميل إلى أنثاه لحفظ النوع ولحكم عالية ، فلذا رخص تعالى لهم في الزواج من الفتيات المؤمنات (3) ، وقيل " يخفف عنكم " أي في جميع الأحكام ، وبخاصة في نكاح الإماء ، لما علم من ضعف الإنسان في أمر النساء.(4) ،
- أن الله تعالى قال في كتابه الكريم : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }( آل عمران : 14 ) ، قال الزركشي في " البرهان " : " وأخر ذكر الذهب والفضة عن النساء والبنين لأنهما أقوى في الشهوة الجبلية من المال ، فلما صدرت الآية بذكر الحب ، وكان المحبوب مختلف المراتب اقتضت حكمة الترتيب أن يقدم ما هو الأهم فالأهم في رتبة المحبوبات ، وقال في موضع آخر : قدمهن في الذكر ( أي النساء ) لأن المحنة بهن أعظم من المحنة بالأولاد وفي صحيح مسلم : " ما تركت بعدي في الناس وسلم فتنة أضر على الرجال من النساء " (5)
- كما روى الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" ، وفي حديث آخر: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" ( رواه مسلم ) ، ولذلك قال بعض العارفين : ما أيس الشيطانُ من إنسان قط إلا أتاه من قبل النساء ،
فلنقف قليلا أمام دلالات هذا المشهد ، ولنحاول الإجابة على بعض التساؤلات التي يمكن أن ترد على الخاطر : لماذا يأتي هذا الشاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب هذا الطلب العجيب والغريب ، ويعرض نفسه لما لا تحمد عقباه ؟ ولماذا لم يذهب ليلبي نداء الشهوة ، ويفعل ما يشاء بعيدا عن رسول الله ، وبعيدا عن أعين الناس والرقباء ، وبإمكانه أن يفعل هذا ؟ وإذا تأملنا الموقف برمته لأمكننا أن نقول :
* ثالث الدروس : طبيعة مرحلة الشباب :
- لقد جاء الشاب إلى النبي وطلب منه ما طلب ليس لأنه فاقد للحياء ، ولا لأنه تعمد الاجتراء على رسول الله وكبار الصحابة ، وإنما جاء يلتمس حلا لمشكلة تؤرقه ، وتصدع رأسه ، جاء وهو يعلم أن النبي هو صاحب الرسالة العصماء ، وعليه نزلت أحكام الشريعة الغراء ، ويعلم أن النبي هو المربي الأول ، والمعلم الأول ، هو طبيب القلوب والنفوس والأرواح ، وهو المنوط به حل مشكلات المسلمين ، وإليه اللجوء بعد الله عز وجل ،
- أن خطاب الشاب للنبي يوحي بأنه في مشكلة معقدة ، وأزمة مستحكمة ، فكأنه يعاني من صراع محتدم داخل نفسه بين دواع الشهوة المـتأججة داخله ، والرغبة المحمومة في تصريف طاقتها وتهدئة ثورتها ، وبين الخطاب الرباني المانع من التصرف المحرم وهو هنا ( الزنا ) ، وهذا يعني أن الخطاب الرباني قد أدى رسالته في صون الإنسان عن الحرام ، وكفه عن الفعل الذي يجرمه ويحرمه الشرع الحنيف ، لذلك جاء يلتمس الحل عند من نزل عليه الوحي والمبلغ له صلى الله عليه وسلم ،
- هنا نوجه للآباء والأمهات والمربين سؤالا : هل تسمح وتشجع على أن يأتي إليك إبنك أو ابنتك ، أو تلميذك ليحادثك في مثل هذه الأمور ، ويطرح عليك أمثال هذا الموقف ، ويشتكي إليك مما يعانيه منه من ضغوط تؤرقه وتنغص عليه حياته ، هل ربينا أبناءنا وبناتنا وعودناهم وشجعناهم على ذلك ؟ أم أننا تربينا وربينا أبناءنا على أن هذا باب مغلق لا يجوز فتحه بحال من الأحوال ؟ أترك لكم جميعا الإجابة ،
- أنظروا إلى الفرق بين رد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ورد فعل الصحابة الكرام ، واستجابة كل طرف ، وتأملوا الفرق الشاسع ، والبون الواسع بين كلا الاستجابتين ،
أما القوم من الصحابة فرأينا كيف ثارت ثائرتهم ، وقامت قيامتهم عندما سمعوا ما نطق به الشاب المسكين ، وكيف هاجوا وماجوا .. وزجروه وعنفوه ، وأرادوا أن يفتكوا به عقابا له على ما اقترف من جرم ، لماذا ؟ لأنه في رأيهم تجاوز كل الخطوط الحمراء ، تجاوز كل حدود المعروف والمألوف ، وهذا هو حالنا اليوم كمربين وكآباء ، وتلك هي في الغالب ردود أفعالنا على تصرفات أبنائنا التي نقيمها ونحكم عليها من وجهة نظرنا فقط ،
وتعالوا لترى الجانب الآخر من الموقف ، لنرى تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو من هو ، صاحب الخلق العظيم الذي مدحه الله بما منحه فقال مخاطبا إياه بما لم يخاطب به نبي مرسل ولا ملك مقرب ، فقال له ويا نعم ما قال : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }( القلم : 4 ) ، إنها شهادة ربانية لسيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد ، وكفى بالله شهيدا ، إنه محمد الذي سماه ربه بالرؤوف الرحيم فقال : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }( التوبة : 128 ) ، ولم يحظ أحد من العالمين بهذا العطاء الإلهي الكريم سوى الحبيب محمد الذي خلع عليه المولى جل جلاله اسمين من أسمائه : الرؤوف ، الرحيم ، إنه محمد صاحب القلب الكبير ، أرحم الناس بالناس ، الذي قال الحق جل جلاله في وصفه ووصف سلوكه وتصرفه قائلا : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }( آل عمران : 159 ) ، نعم رأينا كيف أنه لم يغضب من الشاب كما غضبوا ، ولم يهم إلى معاقبته كما هموا ، ولم يعنفه كما فعلوا ، وإنما كل الذي فعله رسول الله أن نهاهم عن المساس به وتعنيفه ، وأمرهم أن يهدئوا ويسكنوا ، ألا يدلنا ذلك على درجة عالية من العقل والذكاء والفطنة والعلم والبصيرة ، وانظر كيف علم المربي الأول صلى الله عليه وسلم وراعى طبيعة المرحلة العمرية التي يمر بها الشاب ، وخصائص وسمات ومتطلبات تلك المرحلة ، وعلم تأجج الشهوة التي تستعر داخله وفقا لطبيعة تلك المرحلة العمرية فقابله بالأسلوب النبوي الراقي في التربية والإصلاح ، إنه أعظم أسلوب في الفهم والاستيعاب ، وإزالة العقبات ، والتوجيه النافع والإرشاد القويم الذي يعين على التقويم والتهذيب ،
- ثم أنظر كيف أقبل على الشاب بكل سكينة وهدوء ، وهش في وجهه ، وبش وابتسم وهدأ من روع الفتى وجزعه مما لقيه من الحاضرين ، وانظر كيف دعاه بالرفق واللين إلى الاقتراب منه ، ولكم أن تتعجبوا معي وحق لنا أن نتعجب ، إن موقف الرسول العظيم ، لم يفتح المجال أمام هذا الشاب لطرح شكواه فقط ، وإنما اتسم موقفه بالرفق واللين والرحمة الغامرة واللمسة الحانية في الموطن الذي تتم مقابلته عادة بالاستهجان والاستنكار والاحتقار والتقليل من الشأن ، بل وربما يقابل بالتكفير والتفسيق والإخراج من الملة ، لكن الحبيب ما فعل شيئا من هذا ، وإنما يناديه قائلا ( كما جاء في بعض الروايات ) أقبل يا أخي ، وهو الذي جاء يحصل على إذن أو تصريح من الرسول بالزنا ، فما أعظمك يارسول الله ، وما أعظم خلقك ، وما أكمل رحمتك ،
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
إنه شاب يمتلئ قوة وفتوة وعنفوانا وشهوة ، وجاء يطلب لشهوته المتأججة متنفسا ، جاء يطلب تصريحا بالزنا ، فماذا كان موقف أرحم الناس بالناس ، هل لعنه ، هل عنفه ، هل أمر بضربه ورجمه ، هل وبخه على سوء تصرفه ، وجرأة صنيعه ، كلا ؟ فليس محمد هو الذي يقابل ضعف البشر بمثل هذه الغلظة والقسوة ،
إن الأمر يحتاج إلى نوع من الإقناع العقلي ، واليقين القلبي ، وفتح لعين المخطيء على الجوانب التي غفل عنها ، يحتاج إلى تنبيه للغافل ، وإيقاظ للنائم ، وتصحيح للمفاهيم ، وتقويم للأفكار ، وهذا ما حدث ،
فما أعظم وأبهى وأكمل وأجمل هذا النموذج التربوي الفذ ، المتفهم لدوافع النفس البشرية وفطرتها ، ونوازعها وشهواتها وما جبلت عليه ، ثم هو بعد ذلك كله مثال الطبيب الحاني الرفيق الذي يضع المراهم الشافية على الجراح الدامية فتصبح بإذن الله تعالى أثرا بعد عين ،
- أنظر كيف قال للفتى وهو يرمقه بنظرة حانية صنعت صنيعها في نفس الشاب الذي روعه الحاضرون ، فقال له الحبيب : أدن مني ، إقترب مني ، وفي ذلك إشعار للفتى بالأمن والأمان والطمأنينة والسلام ، فهدأت نفسه ، واطمأن قلبه ،
* رابع الدروس نموذج فريد للحوار الإيجابي في منظور الإسلام :
- أنظر كيف أدار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحوار العقلاني المنطقي الهاديء المثمر كأرقى وأروع ما يكون الحوار ، إنه حوار هاديء ، وإقناع منطقي ، لابد أن يؤتي أكله ، ويعطي ثماره ، ويتمخض عن نتائج إيجابية ، إذ أن المتعمق في مضمون هذا الحوار وطريقته ليصل إلى قناعة كاملة بأنه يعتبر مرجعا تربويا لمنهج الإسلام الفريد في صيانة وتربية وبناء الفرد والمجتمع على السواء ، نقول ذلك في زمن تضاءلت فيه فرص الحوار البناء بين الأطراف المتباينة بدءا بالأفراد ، ومرورا بالجماعات والمؤسسات والطوائف والفئات ، وانتهاءا بالمجتمعات والثقافات والحضارات على مستوى العالم كله ، ومرة أخرى فإن تحليل محتوى الحوار وطريقته يصل بنا إلى مجموعة من الملاحظات والحقائق التي يجدر بنا رصدها فيما يلي :
* أن هذا الحوار الذي تضمنه هذا الموقف النبوي الكريم يشي بأن العلاقة بين الفرد والمجتمع في منظور الإسلام علاقة وثيقة لا تنفك ولا تنفصم ، فالإنسان لا يعيش في جزيرة منعزلة ، وإنما هو في علاقات متشابكة وحتمية مع كافة مكونات المجتمع ، وفي إطار هذه الشبكة المعقدة من العلاقات ، فإن كل امرأة مسلمة – مثلا – هي إما أن تكون أما ، أو أختا أو إبنة ، أو عمة ، أو خالة لأحد من المسلمين ، وأن ما لا يرضاه الإنسان ولا يقبله لنفسه ولا لأهله وقرابته لا ينبغي له أن يرضاه لغيره ، ولا لأهل غيره ، وتلك حقيقة رسخها الإسلام وأكد عليها حين جعل إيمان المؤمن لا يكتمل حتى يحب لأخيه – في الدين – ما لا يحبه لنفسه (5) ،
* طبيعة الحوار ذاته : وكيف أنه يتجه إلى ثوابت الفطرة التي يغرسها ويرسخها المجتمع المسلم في نفوس ووعي أبنائه ، وتحتاج فقط إلى الإحياء وتسليط الضوء عليها ،
- أن السرعة المذهلة التي ميزت استجابة هذا الشاب للخطاب النبوي الشريف ليؤكد أن أبناءنا وفتياتنا عندما نحسن تربيتهم ورعايتهم والإستعداد لأزماتهم ، والتهيؤ والإستعداد لما سيمرون به من مراحل عمرية مختلفة لكل منها خصائصها وسماتها والتغيرات التي تطرأ على الإنسان باختلاف تلك المراحل ، وحسن الفهم لتلك الخصائص والتغيرات ، فهم حينئذ لا يحتاجون إلى أكثر من لطيف الإشارة ، ودقيق التوجيه والإرشاد ، وعميق الدعاء وخالصه ،
- أن الطلب الذي جاء لأجله الشاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو طلب جريء ولا جدال في ذلك ، ولكنه طلب مقبول من حيث الإستفسار كموضوع للنقاش والحوار وتبادل الآراء وتمحيصها وتفنيدها ، وتلك نقطة كثيرا ما يغفل عنها القائمون على شؤون التربية والدعوة وبناء الإنسان ، هؤلاء الذين ينبغي أن يدركوا أن التوبيخ والزجر والنهر والقهر والاستهزاء والسخرية والتهكم .... وغيرها من تلك الصور السلبية ، كلها لم تكن تمثل يوما حلا – ولن تكون - لمثل تلك المواقف التي يتعرض لها الشباب في مراحل نموهم المختلفة ، كما أن التكفير والتفسيق والتبديع والاتهام بالتحلل والانحراف والزندقة بل وأحيانا بالإلحاد ليس حلا ، وزجر المتسائلين والحيارى وأصحاب المشاكل والأزمات ليس منهجا قويما في التعامل مع أمثال هؤلاء ، وإنما المنهج الأمثل هو الذي يقوم على الحوار والنقاش الهاديء والموضوعي بالعقل والمنطق واحترام الرأي المعارض حتى ولو كان مرفوضا ، ومحاولة الوصول إلى حل للموقف أو الأزمة بعيدا عن تلك الأساليب التي لا تزيد الأمر إلا تعقيدا ، ولذلك رأينا كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية التفهم العقلاني لأزمة هذا الشاب ومعاناته ، وفي غاية الرحمة والرفق واللين وسعة الصدر والهدوء والسماحة ، فأي منهج تربوي هذا في بناء الإنسان والتعامل مع الأخطاء ،
وإذا كان هذا هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب ، فكيف يكون منهجنا مع أبنائنا وفتياتنا وهم أحوج ما يكونون إلى عطفنا وتفهمنا ولمساتنا الحانية ،
يتبـــع إنشاء الله ،
********************
الهوامش والإحالات :
===========
(1) - الحديث رواه البزار عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ، أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل المسجد الحرام ومسجدي ، وصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ( قال الألباني : صحيح لغيره ، أنظر :
- محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح الترغيب والترهيب " ، مكتبة المعارف – الرياض ، ط3 ،
(2)- جلال الدين المحلي – جلال الدين السيوطي : " تفسير الجلالين " ، دار الحديث ، القاهرة ، ط1 ، تفسير الآية ،
(3) - جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري : " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية ، ط5 ، 2003م ، ج2 ، ص : 96
(4)- " نفس المصدر السابق " : ج2 ، ص : 97 ،
(5) - بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي : " البرهان في علوم القرآن " ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار أحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه ، القاهرة ، ط1، 1376 ه - 1957 م ، ج5 ، ص : 249 ،
(6) – الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير " ( صححه الألباني ، أنظر : صحيح وضعيف سنن النسائي ) ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: