د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9628
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
- " ..... فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه ...... " من حديث شريف، والضمير يعود إلى عمر ابن الخطاب،
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعــــــد
ثانيا : آية الحجاب :
==========
الموقف الثاني من موافقات الفاروق عمر ما حدث بمناسبة نزول آية الحجاب، وذلك أن مما يعرف عن الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان شديد الغيرة على النساء (1)، فهو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحجب نسائه فوافقه القرآن الكريم، وسبق أن أشرنا إلى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي فيه أن عمر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب "، ولذلك قال صاحب كتاب " تفسير آيات الأحكام " : " وأما بالنسبة لمشروعية الحجاب فقد كان سبب النزول ما روي في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ .... الآية } ( الأحزاب53 )، وهذه إحدى الموافقات الثلاث التي نزل القرآن الكريم فيها موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه " (2)،
وهكذا ِيثبت هذا الموقف ما عرف عن عمر بن الخطاب من أنه كان موصوفا بشدة الغيرة، ومما يروي في هذا المقام عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنّ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : كان عمر بن الخطّاب يقول لرسول الله صلّى الله عليه : احجب نساءك، فلم يفعل، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع، وهو صعيد أقبح، فخرجت " سودة بنت زمعة "، وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال : قد عرفتكِ يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب "، وعن عامر قال : مرَّ عمر على نساء النبي صلّى الله عليه وهو مع النساء في المسجد فقال لهنّ : احتجبن، فإنَّ لكنَّ على النساء فضلاً، كما أنّ لزوجكنَّ على الرجال الفضل، فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى أنزل الله آية الحجاب، وروى عن ابن مسعود قال : أمر عمر بن الخطاب نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحجاب فقالت " زينب " : يابن الخطّاب إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب، ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } (الأحزاب53 ) (3)، والمعنى إذا أردتم أن تخاطبوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور، أو تسألوهن عن شيء فعليكم أن تخاطبوهن أو تسألوهن من وراء حجاب، وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال، فلما نزلت هذه الآية ضرب عليهن الحجاب بينهن وبين الرجال { ذلكم } أي : الحجاب { أطهر لقلوبكم وقلوبهن } فإن كل واحد من الرجل والمرأة إذا لم ير الآخر لم يقع في قلبه،
وثمة قول آخر أن آية الحجاب هي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } ( الأحزاب 59 )،
ثالثا : موقف اجتماع بعض نساء النبي عليه في الغيرة :
===============================
وهو موقف من المواقف الأسرية في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعبر عنه الفاروق عمر بقوله في حديث أنس السابق : " واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم عليه في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك، يعني نزلت الآية التي يقول الله تعالى فيها : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } ( التحريم : 5 )، قال ( مصطفى العدوي ) في سلسلة التفسير : " ....فمن موافقات عمر لربه أنه قال لـحفصة أم المؤمنين رضي الله عنها : ( يا حفصة لا تسألي رسول الله ولا تستكثريه، سليني من مالي ما شئتِ )، وفي ثنايا حديثه معها قال : ( كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فأتينا إلى المدينة فإذا رجال تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم )، فنساء بعض البلاد يغلبن الرجال، ورجال بعض البلاد يستضعفون النساء، ولا يعني أنها تغلبه بالضرب، بل برأيها كأهل المدينة، أما قريش فلم يكن رجالها كذلك، والشاهد: أن عمر قال لـحفصة ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } ( التحريم : 5 )، فنزلت الآية موافقة لقول عمر رضي الله تعالى عنه، فهذا يعد من مناقب عمر، وموافقات عمر لربه رضي الله تعالى عنه (4)
وقال ( ابن عاشور في التحرير ) في قوله تعالى : " عسى ربه إن طلقكن " : وهي موعظة بأن يأذن الله له بطلاقهن وأنه تصير له أزواجٌ خيرٌ منهن " (5)، وقيل : إن هذه الآية نزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحذيرًا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة.
رابعا : مسألة أساري بدر :
===============
ومن تلك الموافقات أيضا ما حدث في غزوة بدر، حيث كان لعمر رضي الله عنه رأي موفق حول كيفية التصرف حيال الأسرى الذين وقعوا في أيدي المسلمين في تلك الغزوة، فلقد تباينت آراء الصحابة حول طريقة التصرف في الأسرى عندما طلب الرسول مشورة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فرأى أبو بكر رأيا، ورأى عمر رأيا آخر مباينا لرأي أبي بكر، فنزل القرآن الكريم موافقا لرأي عمر رضي الله عنه ، وهو ما جاء في رواية لابن عمر رضي الله عنه قال : قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : " وافقت ربي في ثلاث، في الحجاب، وفي أساري بدر، وفي مقام إبراهيم ( متفق عليه )،
وكانت قضية الأسرى تلك في أول معركة يخوضها المسلمون في مواجهة الكفار وذلك يوم بدر، حيث قتل المسلمون يومنذ سبعين من الكفار، وأسروا سبعين منهم، ولكونها أول مرة يكون للمسلمين أسرى حرب من الكفار، أي لم يكن لديهم سابق خبرة بكيفية التصوف حيال الأسرى، ولم يكن لدى المسلمين – أيضا - بيان من الوحي حول كيفية التصرف في الأسرى، ولذا طلب الرسول صلى الله عليه وسلم المشورة من أصحابه، قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما : " فلما أسروا الأسرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسرى ؟ فقال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة ( والإخوان )، وأرى أن نأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام، ( فيكونوا لنا عضداً أي عونا وسندا )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قال عمر : لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبا بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من "عقيل " فيضرب عنقه، وتمكني من فلان ( نسيبا لعمر ) فأضرب عنقه، ( وتمكن حمزة من فلان " أخيه " فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين )، فإن هؤلاء أئمة الكفر ( وهم صناديدهم وأئمتهم وقادتهم )، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر، قال عمر : فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شئ تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(الأنفال67 – 69 )، فأحل الله الغنيمة لهم " (6)،
قال ( القرطبي ) في تفسيره : " ...عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر جئ بالأسرى وفيهم العباس ( عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " ما ترون في هؤلاء الأسارى " فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فأضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة : أنظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم، فقال العباس وهو يسمع : قطعت رحمك، قال : فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أي ترك مجلسهم ودخل بيته ) ولم يرد عليهم شيئا، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه، وقال أناس : يأخذ بقول عمر رضي الله عنه، وقال أناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحه رضي الله عنه، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، ( وتوجه بالحديث إلى أبي بكر رضي الله عنه قائلا ) مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ( عليه السلام ) إذ قال " فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" ( إبراهيم: 36 )، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ( عليه السلام ) إذ قال " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ( المائدة: 118 )، ( وتوجه إلى عمر رضي الله عنه قائلا ) ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال " رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً" ( نوح: 26 )، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال " رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ" ( يونس : 88 ) أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أوضربة عنق، فقال عبد الله : إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال : فما رأيتني أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم، فأنزل الله عز وجل :" ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ" إلى آخر الآيتين، وفي رواية : فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ( إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر)، وروى أبو داود عن عمر قال : لما كان يوم بدر واخذ - يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الفداء، أنزل الله عز وجل" ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ" إلى قوله" لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ"- من الفداء-" عَذابٌ عَظِيمٌ" ( الأنفال: 68 )، ثم أحل الغنائم (7)،
وهكذا جاء القرآن ليوافق ما رأى عمر في تلك الواقعة، وهو ما يشير إلى فضل عمر وعلو مكانته، وثاقب فكره، وقوة بصيرته، ولنا مع هذا الموقف وقفات وفيه دروس وعبر :
1- مصطلح الأسرى : " الأسرى " جمع أسير، وهو من أخذ في الحرب، يشد عادة بإسار وهو قيد من جلد فأطلق لفظ الأسير على كل من أخذ في الحرب، يقال أسير: كقتيل وجريح، ويجمع على أسرى : كقتلى وجرحى، وعلى أُسارى بضم الهمزة وفتحها، والضم أشهر (8)،
ولمزيد من الإيضاح نقول : الأسرى في المفهوم الإسلامي : " هم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء , والأسير : هو الحربي الذي أسر في حال الحروب مع المسلمين، وبتعبير متكافيء : الأسرى هم الرجال الذين يقعون في قبضة عدوهم أحياء في حال الحرب، وفي الفقه يطلق أسرى الحرب على الأعداء المحاربين الذين أظهروا العداوة للإسلام وصمموا على محاربته بالعمل، فسقطوا في أيدي المسلمين المجاهدين الذين أرادوا إعلاء كلمة الله تعالى، وبهذا يدخل كل من يحمل السلاح ضد الإسلام، وهو قادر على الحرب، سواء أكان جندياً أصلياً، أو متطوعاً، أو مرتزقاً، أو جاسوساً، فيخرج الأطفال والشيخ والنساء، والرهبان والفلاحين ومطلق العجزة، فلهم معاملة خاصة في الإسلام (9)،
2- الشورى قيمة إسلامية أصيلة : فنلمس من هذا الموقف بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قمة التأكيد على قيمة الشورى وأهميتها في التصور الإسلامي، وألاَّ يستبد الحاكم برأيه، فالشورى في الإسلام (فيما لم يرد فيه نص ) من قواعد هذا الدين ومبادئه الأصيلة،، وكيف أن لتلك القيمة أثرها في مواجهة الأحداث والنوازل حين لا يكون نص من الوحي يتوجب الالتزام به، ولو وسع أحد الاستغناء عن الشورى، لاستغنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ثبت أنه كان يشاور صحابته عند الملمات، بل إنه كان يأخذ برأيهم، ولو خالف رأيه – أحيانا - كما حدث في أُحُد، وصدق من قال :
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به* رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
ويقول آخر :
ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم * من يستشار إذا استشير فيطرق
حتى يحل بكل واد قلبـــــــــــــه * فيرى ويعرف ما يقول فينطق
ويقول الآخر :
إذا كنت في حاجة مرسلا * فأرسل حكيما ولا توصه
وإن باب أمر عليك التوى * فشاور لبيبـــا ولا تعصه
وقد قيل : " الناس ثلاثة : رجل كامل - أي الكمال النسبي - وهو الذي له عقل ويستشير، ونصف رجل : وهو الذي له عقل ولا يستشير، ( فلو كان له عقل لاستشار )، والثالث : لا شيء، وهو الذي لا عقل له ولا يستشير (10) .
وتجدر الإشارة إلى أن الشورى أيا كان مجالها لا تكاد تخطئ الصواب، وإن أخطأته فلا يمكن أن تقع في أردى الأحوال أبدًا، وإنما تتجه إلى الصواب غالبًا، أو قريبًا منه نادرًا، ولهذا جعلها الله من صفات أوليائه المؤمنين المنقادين لربهم، وأثنى عليهم بها وجعلها صفة لأمرهم الذي يهمهم، فقال سبحانه وتعالى : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ( الشورى : 38 )، بل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمشاورة المؤمنين وأخذ آرائهم والاستئناس بها في الأمور الهامة التي تحتاج إلى مشاورة ( وهي الأمور الخاضعة للاجتهاد والتي لا نص فيها بطبيعة الحال )، فقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }( آل عمران : 159 )،
فالشورى فيها سداد الرأي وصوابه من ناحية، وتطييب لقلوب الرعية من ناحية أخرى، ولا شك أن تلك النصوص تدل على أهمية الشورى وعظم مكانتها، كما أن المستشار مؤتمن، فيتأكد عليه أن يشير بالنصيحة الخالصة (11)،
2- فضل أبي بكر وعمر ومكانتهما : حيث استشارهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة أسرى بدر، كما أثنى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشبه كل منهما بنبيين من أنبياء الله، فشبه أبا بكر رضي الله عنه بكل من : إبراهيم خليل الرحمن، وعيسى كلمة الله، وهما من أولي العزم من الرسل على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وشبه عمر رضي الله عنه بكل من بني الله نوح ( شيخ المرسلين )، وموسى كليم الله، وهما أيضا من أولي العزم من الرسل عليهما الصلاة والسلام، وفي هذا ما فيه من علو منزلة أبي بكر وعمر، وسمو مكانتهما بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما، قال القرطبي في تفسيره (12) : فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أي بعدما استمع إلى رأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ) : " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، ( وتوجه بالحديث إلى أبي بكر رضي الله عنه قائلا ) مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ( عليه السلام ) إذ قال " فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" ( إبراهيم: 36 )، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ( عليه السلام ) إذ قال " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" ( المائدة: 118 )، ( وتوجه إلى عمر رضي الله عنه قائلا ) ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال " رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً" ( نوح: 26 )، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال " رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ" ( يونس : 88 )
3- قوله تعالى : " لولا كتاب من الله سبق....." قال أهل التفسير أن الكتاب الذي سبق من الله تعالى هو قوله تعالى: {.....فَإمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً} ( محمد : 4 )، ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسرى، ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب، لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، ثم إنهم قبلوا الفداء من أولئك المجرمين الذين لم يكونوا أسرى حرب فقط، بل كانوا أكابر مجرمي الحرب الذين لا يتركهم قانون الحرب الحديث إلا ويحاكمهم، ولا يكون الحكم في الغالب إلا في الإعدام أو بالحبس حتى الموت، واستقر الأمرعلى رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم (13)،
وقيل : وهو كتاب المقادير بأن الله تعالى أحل لنبّي هذه الأمة الغنائم،
وأصل القصة كما ذكرها أهل التفسير : أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عمر وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، رغبوا في مفاداة الأسرى ( في غزوة بدر ) بالمال للظروف المعاشية القاسية التي كانوا يعيشونها، وكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من الله تعالى بإحلالها أو تحريمها، أما عمر رضي الله عنه فكان لا يعثر على أسير إلا قتله، وأما سعد فقد قال ( الاثخان في القتال أولى من استبقاء الرجال ) (14)،
ولما تم الفداء، نزلت هذه الآية الكريمة تعاتبهم أشد العتاب، حيث أخبر القرآن في هذا العتاب أنه ما صح من نبي، ولا كان ينبغي له أن يكون له أسرى حرب يبقيهم ليفاديهم أو يمن عليهم بلا فداء حتى يشتد في أرض العدو قتلاً وتشريداً، فإذا عرف بالبأس والشدة وهابه الأعداء جاز له الأسرأي الإبقاء على الأسرى أحياء ليمن عليهم بلا مقابل أو ليفاديهم بالمال، ومن العتاب أن قال لهم أنكم بصنيعكم هذا ( فداء الأسرى ) كنتم تريدون حطام الدنيا وهو المال، والله تعالى يريد الآخرة، فشتان ما بين مرادكم ومراد ربكم لكم، تريدون العرض الفاني والله يريد لكم النعيم الباقي، والله تعالى غالب على أمره، ينصر من توكل عليه وفوّض أمره إليه، حكيم في تصرفاته فلا يخذل أولياءه، وينصر أعداءه، فعليكم أيها المؤمنون بطلب مرضاته بترك ما تريدون لما يريد هو سبحانه وتعالى، ولولا أنه مضى علم الله تعالى بحلية الغنائم لهذه الأمة، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، لكان ينالكم جزاء رضاكم بالمفاداة وأخذ الفدية عذاب عظيم، ثم أذن لهم جل جلاله ( أي لأهل بدر ) أن يأكلوا مما
يتبــــــع
==============
الهوامش :
======
(1) - محمد ناصر الدين الألباني ( ت 1420هـ ) : " إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل "، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405 هـ - 1985م، ج5، ص : 46،
(2) - أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري : " الكشف والبيان "، تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - 1422 هـ - 2002 م، ج1، ص : 270،
(3) - أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري : " الكشف والبيان "، تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1422 هـ - 2002 م، الطبعة : الأولى، ج8، ص : 59،
(4) - عبد القادر شيبة الحمد : " تفسير آيات الأحكام "، مكتبة العبيكان، الرياض، 1427هـ - 2006م، ص : 370،
(5) - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " التحرير والتنوير "، الطبعة التونسية، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م، ج28، ص : 361،
(6) - أبو عبد الله مصطفى بن العدوى شلباية المصري : " سلسلة التفسير"، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، مصدر الكتاب : http://www.islamweb.net
(7) - أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (المتوفى : 671هـ) : " الجامع لأحكام القرآن "، تحقيق : أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، ج : 8 ، ص :47،
(8) - جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري : " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير "، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط5، 2003م، ج2، ص : 328،
(9) - محمد كمال صابر السوسي : " حقوق الأسرى في الشريعة الإسلامية "، بحث مقدم لليـوم الدراســي والذي بعنوان : ( الأسرى الفلسطينيون بين سياسات الاحتلال والواجب الوطني والإنساني )، كلية التجارة- قسم الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة الإسلامية بغزة، يوم 6-إبريل2010م، ص : 5،
(10) انظر: عائض القرني : " حتى لا تغرق السفينة "، ص 68، المصدر :
www.saaid.net/Warathah/qarni/q14.doc
(11) – كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " المستشار مؤتمن "، ( قال الألباني ( صحيح ) أنظر السلسلة الصحيحة، حديث رقم : 1641،
(12) - أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (المتوفى : 671هـ) : " الجامع لأحكام القرآن "، تحقيق : أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، ج : 8 ، ص :47،
(13) - منير محمد الغضبان : " عندما يحكم الإسلام .. وعندما تحكم الجاهلية، رؤية إسلامية للأحداث المعاصرة على ضوء السيرة النبوية "، - مجلة البيان، تصدر عن المنتدى الإسلامي، لندن، العدد (178)، ص : 58،
(14) – الإثخان يعني الشدة والغلبة، أو هو المبالغة في القتل ليتم إذلال الكفر وأهله، وقيل : الإثخان في الشيء : المبالغة فيه والإكثار منه والمراد به هنا : المبالغة في قتل المشركين حتى لا يبقى منهم أسير في ساحة المعركة،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: