وقفة مع آية - 4 - " وتقلبك في الساجدين " وبيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4988
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعـــد
تابع الفوائد واللطائف والهدايات التي نستفيدها من من الآية وسياقها :
* أن المقصود بالسجود في الآية - كما قال المفسرون - هو الصلاة، حيث أن التعبير هنا عن الصلاة بجزء من أجزائها كما في قوله تعالى : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } ( العلق:19 )، أي: صلِّ، وكما في الحديث : " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " (1) أي: في صلاته، لكن السجود المطلق بعد الصلاة فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، ولا أعلم أحداً من الأئمة المتبوعين أفتى باستحبابه،غير أنه اختُلف في المراد بـ " الساجدين " بالتحديد، وتعددت الآراء حول المقصود بهم على أقوال :
- الأول : أنهم أهل الصلاة ، فيصبح معنى في الساجدين : " أي صلاتك مع المصلين " (2)،
- الثاني : أن المقصود بـ " الساجدين " هو الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم، ويكون معنى {وتقلبك في الساجدين }أي تقلبك في صلاتك حين قيامك وحين ركوعك وسجودك (3)، فهو من إطلاق الجمع وإرادة المفرد، والمعنيان – السابقان - متقاربان، وكلا القولين مروي عن عبد الله بن عباس ( ت68هـ ) رضي الله عنهما(4)
- الثالث : أنهم آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده،
- الرابع : أن ثمة أقوال أخرى في بيان المراد بالساجدين في الآية، فقيل : هم جميع المؤمنين، وقيل جميع الناس، وقيل هم الأنبياء، غير أن هذه كلها أقوال أجنبية عن ألفاظ الآية المتضمنة بعض هيئات الصلاة (5)،
* التنويه إلى فضل الصلاة في جماعة، قال الألوسي : إن هذه الآية - التي نحن بصددها - شبيهة - إلى حد كبير - بآية ( الحجر ) وهي قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } ( الحجر : 97- 99 )، وذلك في مقصدها ومعناها، حيث أن كلا الآيتين سُبقت ببيان موقف الكافرين من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما تضمنت كل منهما توجيه الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بملازمة الصلاة، وفي الجمع في كل منهما في لفظ {السَّاجِدِينَ } إشارة إلى صلاة الجماعة (6)، ولا سيما أن هذا التوجيه الإلهي الكريم للرسول صلى الله عليه وسلم في السورتين سُبق بخفض الجناح للمؤمنين الذين بهم قوام صلاة الجماعة (7)،
* أن في الآية تنويه بفضل سجود العبادة لله تعالى وفضله ومكانته بين العبادات،
فالسجود يعد من العبادات العظيمة في الإسلام، لما فيه من غاية الذل والخضوع لله تعالى، ولذلك – كما قال بعض أهل العلم والله أعلم - نهي المصلي عن قراءة القرآن في السجود لأن كلام الله تعالى أشرف الكلام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم " (8)
ولذلك يسجد المصلي في صلاته خاضعاً متذللا يسبح ربه الأعلى وينزهه ويقدسه، وبقدر نزوله وتذلله لربه عز وجل فإن الله يجازيه بأن يجعله في وضعه أقرب ما يكون من ربه تبارك وتعالى، ولذلك أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعاء في السجود،
ومما يدل على فضل السجود عند الله وعظمته، أن الله تعالى حرّم على النار أن تأكل مواضع سجود أهل التوحيد والإيمان، كما هو ثابت في الحديث الصحيح،
وفي مكانة السجود وفضله جاء الحديث النبوي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة و حط عنه بها سيئة و رفع له بها درجة فاستكثروا من السجود " (قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : ( 5742 ) في صحيح الجامع ) (9)، فانظر إلى ما حمله هذا الحديث من تأكيد واضح على فضل السجود لله تبارك وتعالى، حتى أن السجدة الواحدة ( الصحيحة الخالصة لله تعالى ) من شأنها أن يترتب عليها عظيم الأجر عند الله تعالى : فهي تكتب له عند الله حسنة ( والحسنة بعشر إمثالها والله يضاعف لمن بشاء )، وتحط عنه سيئة، أي يمحو الله عنه بها ذنبا من ذنوبه، وترفع له بها درجة من درجات القرب عند الله وفي جنات النعيم، والأبدع في كون الشيء الواحد يكون رافعا ومكفرا، كما أن السجدة في الحديث تعني السجود في الصلاة، فخرج سجود الشكر والتلاوة فلا يؤمر بكثرته لأنه إنما شرع لعارض،
قال " المناوي " فإن قيل ما الفرق بين رفع الدرجة وكتب الحسنة فقد يكون رفع الدرجة بسبب كتابة الحسنة، قلنا رفع الدرجة وإن كان بسبب اكتساب الحسنة فالسبب غير المسبب فهما شيئان وأيضا رفع الدرجة قد لا يكون مرتبا على اكتسابه الحسنة فقد يمحى بكتابتها سيئة أخرى وهذا الحديث قد احتج به من فضل إطالة السجود على إطالة القيام ووجهه أيضا بأن أول سورة نزلت وهي : (إقرأ) ختمها بقوله تعالى : ( واسجد واقترب )، وبأن السجود يقع من المخلوقات كلها علويها وسفليها، وبأن الساجد أذل ما يكون لربه وأخضع له، وذلك أشرف حالات العبد، وبأن السجود سر العبودية فإنها هي الذل والخضوع وأذل ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجدا (10)،
وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ روي عنه أنه قال " اللهم لا تجعل قتلي بيد رجل صلى لك سجدة .....الحديث " قال ( بن عبد البر ) أراد عمر أن يكون قاتله مخلدا في النار، ولا يكون كذلك إلا من لم يسجد لله سجدة واحدة، ولم يعمل من الخير والإيمان مثقال ذرة (11)
ومما يروى في فضل السجود - أن سعيد بن جبير " التابعي الجليل " رحمه الله (12)، لقي مسروقاً (13) رحمه الله فقال له : يا أبا سعيد " ما من شئ يرغب فيه إلا أن نعفـر وجوهنا في التراب "، يعني السجود، ولا شك أن هذه الكلمات تبين أن كل مراده في الدنيا، وأن كل لذته فيها، إنما يجدها في تمريغ جبهته في التراب سجودا وذله وخضوعا لله سبحانه وتعالى، ولذا تجاوب معه مسروق رحمه الله عليه فقال : " ما من الدنيا شئ آسى عليه إلا السجود لله تعالى " (14)، ومن هنا يظهر لنا جلياً أن السجود لم يكن لديهم أمرا عاديا، ولا أمرا هيناً، وليس مجرد حركات عضوية بدنية، أو أقوالاً ترددها وتلوكها الألسنة وتتشدق بها، وإنما هو منتهى الخضوع والامتثال والحبة والتذلل لله جل جلاله،
* أن في الآية تنويه بعبادة محمد صلى الله عليه وسلم لربه، فهو خير عباد الله النبي المصطفى المجتبى صلى الله عليه وسلم ، وهوأعبد الناس لله تعالى، وأشدهم له خشية، إنه كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه فيقال له : كيف ذلك وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول : " أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً "، فمن ذا الذي يحقق العبادة كتحقيق الرسول عليه الصلاة والسلام ولهذا قال : " إني والله أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى"، فهو بلا شك أعظم العابدين عبادة وأشدهم تحقيقاً لها صلى الله عليه وسلم،
* قال بعض أهل العلم أن من عطاءات هذه الآيات أن فيها إثبات لصفة من صفات الله تعالى العلا وهي " العلم "، وهو قوله تعالى { الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين }،
انتهت والحمد لله رب العالمين
===============
الهوامش :
=====
(1) – الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أقْرَب ما يكون العبدُ من رئه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء "( قال الألباني : قلت : إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه هو وأبو عوانة في "صحيحيهما )، أنظر : - محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح أبي داود "، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، 1423 هـ - 2002 م، ج4، ص : 30،
(2) - أبي محمد عبدالحق بن غالب ابن عطية الأندلسي الغرناطي الحافظ القاضي (ت 546 هـ) : " المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز "، تحقيق : عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية - لبنان، ط1، 1413هـ - 1993م، ج11، ص : 159،
(3) - محمد بن جرير الطبري ( 224 – 310هـ ) : " جامع البيان في تأويل القرآن "، تحقيق : أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ - 2000م، ج19، ص : 124،
(4) – نفس المصدر السابق،
(5) – أنظر:
- أبي محمد عبدالحق بن غالب ابن عطية : مرجع سبق ذكره، ج11، ص : 159،
- محمود الألوسي أبو الفضل : " روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني "، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج19، ص : 137،
(6) - محمود الألوسي أبو الفضل : " روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني "، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج19، ص : 137، ج14، ص : 87، وج19، ص : 137،
(7) - مجموعة من المؤلفين : " مجلة جامعة أم القرى "، مصدر الكتاب : موقع المجلة على الإنترنت، ج3، ص : 158،
(8) مسلم الصلاة (479)، النسائي التطبيق (1120)، أبو داود الصلاة (876)، ابن ماجه تعبير الرؤيا ( 3899)، أحمد (1/ 219)، الدارمي الصلاة (1325) .
(9) - محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته "، المكتب الإسلامي، بيروت، ص : 1068،
(10) – المناوي : " فيض القدير شرح الجامع الصغير "، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الاولى 1415 ه - 1994 م، ج5، ص : 621
(11) - عبدالرحمن بن أبي بكر أبو الفضل السيوطي : " تنوير الحوالك شرح موطأ مالك "، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، 1389 – 1969م، ج1، ص : 306
(12) - هو سعيد بن جُبير الأسدي، أبو محمد الكوفي من التابعين (45 - 95هـ، 666 - 714م). من أعلمهم. ثقة، عابد، فقيه، فاضل، ورع. تروى أخبار كثيرة عن عبادته. وكان ابن عباس بعدما أصيب بالعمى إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه قال: أتسألوني وفيكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير. خرج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على عبدالملك بن مروان، فلما هزم ابن الأشعث هرب سعيد إلى مكة فأخذه أميرها خالد القسري، وبعث به إلى الحجاج فقتله، ولم يكمل 50 سنة. فقال الإمام أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيدًا وماعلى وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، أنظر : الموسوعة العربية العالمية : موقع المكتبة الشاملة http://shamela.ws/
(13) - هو مسروق بن الأجدع بن مالك الكوفي ( ؟ - 63هـ، ؟ - 683م) من كبار التابعين وعُد في المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . يُقال إنه سُرِق وهو صغير ثم وجد فسُمي مسروقًا. وهو كثير المناقب. وكان مسروق أحد أصحاب عبدالله بن مسعود الذين يُقرئون ويفتون. وكان يصلي حتى تتورم قدماه. شلت يده يوم القادسية، وشهد حروب علي، وولاه زياد على السلسلة، ومات بها. أخرج له أصحاب الكتب الستة وغيرهم، أنظر : نفس المصدر السابق، ص :
(14) - شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى : " نزهة الفضلاء - تهذيب سير النبلاء "، مؤسسة أم القرى للترجمة والتوزيع، مكة المكرمة، ط4، 2008م،ج1، ص : 333،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: