وقفة مع آية - 2 - " وتقلبك في الساجدين " وبيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7586
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين، وأكمل الصلاة، وأشرف التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
وبعـــــد :
تلك هي الحلقة الثانية من وقفتنا مع قول الله تعالى يخاطب محمدا صلى الله عليه وسلم قائلا : " وتقلبك في الساجدين "، وانتهينا في الحلقة الأولى إلى السياق القرآني الذي وردت فيه الآية، وهو قول الله تعالى مخاطبا رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم في سورة الشعراء قائلا :
إنها آيات بينات خالدات، من عند رب البريات، يخاطب بها سيد السادات، ونبي المعجزات الباهرات ، سيدنا محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، إنه نداء إلهي كريم للحبيب محمد تضمن أربعة أوامر إلهية، وأربعة أخبار ربانية،
أما الأوامر الأربعة :
- الأول : الإنذار :" وأنذر عشيرتك الأقربين "، أي حذر وأنذر -أيها الرسول - بهذه الدعوة التي حملتها أقاربك وعشيرتك والأقرب فالأقرب مِن قومك، حذرهم مِن عذابنا أن ينزل بهم يوم القيامة، أليس هو البشير النذير الذي خاطبه ربه قائلا : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} ( الأحزاب : 45 )،
- الثاني : خفض الجناح لأهل الإيمان والطاعة :" واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين "، أي وأَلِنْ جانبك وكلامك ودعوتك تواضعًا ورحمة لمن ظهر لك منه إجابة دعوتك، ولقد جاء الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم بخفض الجناح للمؤمنين مرتين في القرآن الكريم، هذه، وأخرى في سورة الحجر في قوله تعالى : {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }( الحجر : 88 )،
- الثالث : البراءة من أعمال العصاة والمعرضين : "فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون "، أي فإن وجدت منهم صدودا وإعراضا، وخالفوا أمرك ولم يتبعوك فيما دعوتهم إليه من رسالة ربك، فتبرَّأ من أعمالهم، وما هم عليه من الشرك والضلال، وعبادة غير الله جل جلاله ،
- الرابع : التوكل على العزيز الرحيم : " وتوكل على العزيز الرحيم "، أي وفَوِّضْ جميع أمرك إلى الله العزيز الذي لا يغالَب ولا يُقْهَر بل هو الغالب على أمره , وهو الرحيم الذي لا يخذل أولياءه،
تلك إذن كانت أوامر الله تعالى لرسوله المصطفى وحبيبه المجتبى، في تلك الآيات التي نزلت في بدايات مراحل الدعوة : إنذار وتحذير للعشيرة والأقربين، وخفض الجناح لمن أجاب الدعوة وصدق بما جاء به، وتبرؤ من ضلال وأعمال من أعرض وتمرد وعصى، وتوكل على الله الذي لايغلبه غالب، ولا يخذل ولي له،
وأما الأخبار :
- فالأول : الإخبار والإعلام بإسمين من أسماء الله الحسنى جل جلاله وهما " العزيز الرحيم " : حيث أخبرالقرآن بأن الله المأمور بالتوكل عليه هو " العزيز الرحيم "، العزيز الذي لا يغلب، والرحيم الذي لا يخذل أولياءه والمؤمنين به،
- والثاني : الإخبار بعلم الله بكل شأن رسوله، ورؤيته له عند قيامه للصلاة : " الذي يراك حين تقوم "، أي وهو الذي يعلم كل أحوالك وشأنك ظاهرا وباطنا، سرا وعلانية، يراك حين تقوم للصلاة وحدك في جوف الليل تقف بين يدي علام الغيوب وغفار الذنوب مبتهلا متضرعا،
- والثالث : الإخبار بأن الله يعلم حاله ويرى تقلبه في الساجدين " وتقلبك في الساجدين "، أي ويرى تقلُّبك مع الساجدين في صلاتهم معك قائمًا وراكعًا وساجدًا وجالسًا , على أحد الأقوال في تفسير الآية،
- والرابع : الإخبار والإعلام بإسمين آخرين من أسماء الله الحسنى وهما " إنه هو السميع العليم "، إنه - سبحانه - هو السميع لتلاوتك وذكرك , العليم بنيتك وعملك، وجاءت تالك العبارة القرآنية الكريمة في القرآن خمس مرات : الأولى : آية الشعراء التي نحن بصددها، والثانية في قوله تعالى : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }( الأنفال : 61 )، والثالثة في قوله تعالى : {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }( يوسف : 34 )، والرابعة في قوله تعالى : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }( فصلت : 36 )، وأما الخامسة ففي قوله تعالى : {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }( الدخان : 6 )،
* المعنى الإجمالي العام للآيات :
قال الإمام الطبري في تأويل تلك الآيات : " يقول تعالـى ذكره : فإن عصتك يا مـحمد عشيرتك الأقربون الذين أمرتك بإنذارهم , وأبوا إلا الإقامة علـى عبـادة الأوثان , والإشراك بـالرحمن , فقل لهم : إنّـي بَرِيءٌ مِـمّا تَعْمَلُونَ من عبـادة الأصنام ، ومعصية بـاريء الأنام، وَتَوَكّلْ عَلـى العَزِيزِ فـي نقمته من أعدائه، الرّحِيـمِ بـمن أناب إلـيه وتاب من معاصيه , الّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ يقول : الذي يراك حين تقوم إلـى صلاتك " (1)، وعن مـجاهد , قوله : الّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ قال : أينـما كنت،
هذا عن المعنى الإجمالي للآيات، وهدفنا هنا أن نقف مع قوله تبارك وتعالى : " وتقلبك في الساجدين "،
فالمخاطب ( بالكسر ) هوا لله تبارك وتعالى، والمخاطب ( بالفتح ) هو سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم، والخطاب خبر للرسول بأن الله تعالى يراه حين يقوم، ويعلم تقلبه في الساجدين، ولقد قال عكرمة في قوله عز وجل " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين " المعنى أن الله تعالى يرى قيامه وركوعه وسجوده وجلوسه (2)
واختلف أهل التأويل والتفسير في معنى الآية إلى عدة أقوال نوجزها فيما يلي :
1- أي ويراك في صلاتك في حال ركوعك وسجودك وقعودك فيها، وخص الصلاة بالذكر لفضلها وشرفها
2- ويرى تقلبك فـي الـمصلـين, وإبصارك منهم من هو خـلفك, كما تبصر من هو بـين يديك منهم.
3- يراك وأنت مع الساجدين تَقَلّب وتقوم وتقعد معهم.
4- وتصرّفك فـي أحوالك كما كانت الأنبـياء من قبلك تفعله , والساجدون فـي قول قائل هذا القول: الأنبـياء.
القول الأول:
قال بعضهم : أن معنى ذلك : ويرى تقلبك فـي صلاتك حين تقوم , ثم تركع , وحين تسجد، وعلى هذا يكون المراد بالتقلب : الركوع والسجود والقيام والقعود، فهو معك يسمع ويرى جل شأنه، وجاء في تفسير ( السعدي ) قوله : " وتقلبك في الساجدين " أي ويراك في صلاتك في حال ركوعك وسجودك وقعودك فيها، وخص الصلاة بالذكر لفضلها وشرفها، ولأن من استحضر فيها قرب ربه خشع وذل وأكملها، وبتكميلها يكمل سائر عمله ويستعين بها على جميع أموره (3)،
وعلى هذا القول يكون المعنى : أن الله تعالى يرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك، وهو معك يسمع ويرى، فتوكل عليه، ولا تخف غيره، وامض في دعوتك ومفاصلتك للمشركين ومباينتك لهم ولآعمالهم،
قال عكرمة وعطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : في الساجدين أي : في المصلين، وقال مقاتل والكلبي : أي مع المصلين في الجماعة، يقول : يراك حين تقوم وحدك للصلاة، ويراك إذا صليت مع المصلين في الجماعة، وقال مجاهد : يرى تقلب بصرك في المصلين، فإنه كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "هل ترون قبلتي ها هنا، فوالله ما يخفي علي خشوعكم ولا ركوعكم، إني لأراكم من وراء ظهري "، وقال الحسن : "وتقلبك في الساجدين" أي : تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين، وقال سعيد بن جبير: يعني وتصرفك في أحوالك، كما كانت الأنبياء من قبلك، والساجدون : هم الأنبياء، (4)،
ووفقا لهذا القول تعددت الأقوال في المراد " بالساجدين " في الآيات : قيل هم : أهل الصلاة من المؤمنين، وقيل : صلاة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وقيل : هم جميع المؤمنين، وقيل هم : جميع الناس، وقيل هم الأنبياء .
القول الثاني :
وقال آخرون : بل معنى الآية : ويرى تقلبك فـي الـمصلـين , وإبصارك منهم من هو خـلفك , كما تبصر من هو بـين يديك منهم، وتفسير مجاهد ( ت104هـ ) لهذه الآية نحو قول الجمهور، حيث قال رحمه الله : " يعني في المصلين، وكان يقال : يرى مَن خلفه في الصلاة "(5)،
ورؤيته صلى الله عليه وسلم لمن خلفه من أصحابه في الصلاة جاءت في عدة أحاديث نبوية كما في الحديث عن وابصة بن معبد : " أن رجلاً صلى خلف الصف وحده , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما يرى من بين يديه (6) , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألا دخلت في الصف , أو جذبت رجلاً صلى معك ؟ ! أعد الصلاة "، قال الشيخ الألباني قلت: وهذا إسناد واهٍ أيضاً , قيس هو ابن الربيع , قال الحافظ: " صدوق , تغير لما كبر , وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به ! "، وبه أعله الحافظ فى " التلخيص "،
ولكن يشهد لهذا الحديث ما جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " أقيموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري " (7)،
وما قاله مجاهد رحمه الله أن معنى التقلب " في قوله وتقلبك في الساجدين " هو إبصار الساجدين من خلفه، وليس هو هيئات الصلاة من قيام وركوع وسجود، ولهذا اعتبره ابن عطية ( ت541هـ ) معنى أجنبيا هنا (8)، تبعا للطبري – رحمه الله - ( ت310هـ ) حيث قال : " وكذلك أيضا في قول من قال : معناه تتقلب في إبصار الساجدين، وإن كان له وجه فليس ذلك الظاهر من معانيه " (9) ،
يتبـــــــع
===========
الهوامش والتعليقات :
===========
(1) - محمد بن جرير الطبري ( 224 – 310هـ ) : " جامع البيان في تأويل القرآن "، تحقيق : أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ - 2000م،
(2) - الإمام أبي حامد الغزالي : " إحياء علوم الدين "، دار الشعب، القاهرة، كتاب الشعب، ( د.ت )، ج1، ص : 329،
(3) - عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي : " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان "، تحقيق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، 1420هـ - 2000م،
(4) - الإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي : " تفسير البغوي معالم التنزيل " تحقيق محمد عبد الله النمر وآخرون، ؛،4/358، حقَّقَه وخرَّج أحاديثه :محمد عبدالله النِّمْر، وعثمان جمعة ضميرية،وسليمان مسلم الحرش،دار طيبة للنَّشر والتوزيع،الرياض ـ المملكة العربية السعودية،الطبعة الثانية 1414هـ = 1993م .
(5) - الإمام مجاهد بن جبر : " تفسير الإمام مجاهد "، مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع، ط1، ج2، ص : 467،
(6) - محمد ناصر الدين الألباني ( ت 1420هـ ) : " إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل "، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405 هـ - 1985م، ج2، 326،
(7) - الحافظ أبي عبد الله بن محمد بن إسماعيل البخاري : " صحيح البخاري "، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، ط3، 2010م، ج1، ص : 176،
(8) - أبو محمد ابن عطية الأندلسي : " تفسير ابن عطية - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز- "، دار الكتب العلمية، 2007م،
ج11، ص : 159،
(9) - محمد بن جرير الطبري ( 224 – 310هـ ) : " جامع البيان في تأويل القرآن "، تحقيق : أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ - 2000م، ج 19، ص : 125،
*************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: