د. أحمد يوسف بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5453
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
- " العظماء مائة وأعظمهم محمد " ، ( عنوان الكتاب الشهير للكاتب الأمريكي مايكل هارت )،
- " إن الصفات التي تفردت في هذا الرسول العظيم لجديرة بأن يحصل على نوط الامتياز ويحظى بكل تقدير واحترام. إنه بحق الأعظم، (الشيخ أحمد ديدات : في كتابه الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم )
***********
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى وعظم وشرف وكرم على هذا النبي الأمين وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا، صلاة وسلاما دائمين متلازمين لا يعتريهما انصرام،
أما بعـــد
منذ أن أشرقت الأرض بنور ربها، وأذن الله تبارك وتعالى ببعثة خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، ومحاولات أعداء الإسلام للهجوم على نبي الإسلام، والنيل منه وإيذائه وتشويه صورته لم تتوقف يوما، منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان وإلى يوم الناس هذا، ورغم هذا العداء السافر والهجوم الضاري ظل الإسلام هو الإسلام، عالي الرأس، مرفوع الهامة، وظل محمدا هو محمد يتربع على عرش الكمال البشري، والسمو الإنساني، وأما الأعداء فهيهات هيهات أن يصلوا إلى ما يبغون ويتمنون، أو أن يحققوا ما إليه يهدفون، ولقد حكى القرآن الكريم في آياته العديد من تلك المحاولات قولا كانت أم عملا، وتوعد القرآن الكريم كل من يتجرأ على ذلك باللعنات وسوء المصير، قال تعالى في حق أولئك الذين يجترؤون على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضحا أمرهم، وكاشفا سترهم، ومتوعدا لهم : {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }( التوبة : 61 )، وقال أيضا : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً }( الأحزاب : 57 )، وفي الوقت ذاته حرص القرآن الكريم عن التسرية عن رسول الله وتثبيت فؤاده ووعده بالعصمة ورسم له الطريق الأقوم لمواجهة تلك المحاولات الإجرامية، فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }المائدة67 )، وقال أيضا : {فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }( يس76 )، وقال : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }النحل103 )، وقال : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ{98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{99} }( الحجر : 97 )،
نقول هذا بمناسبة ما تناقلته وكالات الأنباء مما أقدم عليه بعض ممن أعمى الحقد بصائهم قبل أبصارهم، وأوغرت الضغينة صدورهم على تلك النجاحات التي يحققها التيار الإسلامي في بلدان الربيع العربي، إنها مجرد حلقة من سلسلة لا تؤذن بانتهاء من الهجوم على الإسلام وكتابه ونبيه ورموزه، تلك الحلقة التي تولى كبرها، وباء بإثمها بعض من مرضى النفوس والعقول من أقباط المهجر – الذين تنكر لهم وتبرأ منهم أقباط الوطن وأقباط المهجر الشرفاء على السواء – حيث أنتجوا فيلما سينمائيا ظنوا أنه يسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الإساءة ارتدت إليهم وباؤوا بها، وكانوا هم أحق بها وأهلها،
وما أروع ما صدر عن الداعية الألماني المسلم (بيير فوجل ) ، الذي زار مصر مؤخرا، وألقى محاضرة في الإسكندرية أمها مئات الألوف من المسلمين، ونقلت وكالات الأنباء قوله : " إن من يتجرأ على مقام النبوة، ويسب النبي صلى الله عليه وسلم ما هو في حقيقة الأمر إلا كمن يبصق على الشمس، فإنه لن يؤذي الشمس في سموها وعظمتها وعلو مكانتها، وارتفاع قدرها، فالذي يبصق على الشمس سوف ترتد اليه إساءته، وتعود عليه إهانته، وتبقى الشمس كما هي الشمس في علوها الشاهق وسموها الباسق تنشر ضياءها في ربوع العالمين، كذلك سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، سيبقى أبد الدهر شامة الوجود، وسيد البشر على وجه الإطلاق، صلى الله عليه وسلم،
وهنا أذكر حكاية تلك الذبابة التي وقفت يوما على نخلة، ولما أرادت الطيران قالت للنخلة، أيتها النخلي خذي حذرك واثبتي وتماسكي وحافظي على توازنك لأني سأتركك وأطير، فضحكت النخلة وهي تقول : والله ما شعرت بك ساعة وقفت علي، أفأشعر بك وأنت تغادرينني، إن هؤلاء الذين يتطاولون على مقام أشرف الخلق، وحبيب الحق، لا يعدون أن يكونوا مثل تلك الذبابة الخرقاء التي تعتقد أنها ذات شأن وحيثية وهي من أحقر المخلوقات، بالقياس إلى النخلة، وتلك ( البقة) التي جلست على ظهر فيل يوما، فلما أرادت أن تطير قالت له: استمسك فإني أريد الطيران ! فقال لها الفيل ضاحكا من غبائها ورعونتها : والله يا هذه ما أحسست بك لما جلست، فكيف أستمسك إذا أنت طرت ! "
ولله در القائل :
قد تنكر العينُ ضوءَ الشمس من رَمَدٍ **وينكر الفمُ طعمَ الماءِ من سَقَمِ،
وما بالشمس من عيب إذا عشيت عنها الأعين الرمد، وليس بالعذب الزلال من كدر، إذا لم يجد الفم المريض طعمه، لكن ضعيف البصر، وأعشى النظر، ومريض الفم يرى الشمس محاطة بالقتر والغبار، ويجد طعم الزلال مراً، ولا يضرّ ذلك شمس الضحى ولا زلال الماء، فالخلل من الناظر والشارب من داخله هو، وصدق القائل :
ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعة * أن لا يرى ضوءها مَنْ ليس ذا بصر
قال المتنبي الشاعر :
ومن يك ذا فم مرّ مريض **يجد مرّاً به الماء الزلالا
فلا تقل : إن الماء مر، لأن فمك هو المر،
وقال الآخر :
وكم من عائبٍ قولا صحيحاً** وآفته من الفَهم السقيمِ
وقال الشاعر :
فإن عبت قوماً بالذي فيك مثْلُه **فكيف يعيبُ الناسُ من هو أعورُ؟
وإن عبت قوماً بالذي ليس فيهمُ** فذلك عند اللهِ والناس أكبرُ
وقال الشاعر :
فعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة **ولكن عين السخطِ تُبْدي المساويا
وقال آخر :
وكيف ترى في عين صاحبك القذى** ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ
فمهما كره الكارهون، ومهما مكر الماكرون، وحقد الحاقدون، ومهما قال المرجفون في أرجاء الكون الفسيح، ومهما بلغ حسد الحساد، فإن الإسلام قائم وقادم، ورسول الله سيظل متربعا على عرش السيادة لولد آدم (1) إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما كان من لدن آدم عليه السلام، فعذرا يا سيدي يا رسول الله فإنهم لا يعلمون، وإن علموا فإنهم كارهون حاقدون، ولا عجب فلقد فضحهم القرآن الكريم :{....... وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }( آل عمران : 118 )،
ولنا أن نعلم أن الله تعالى جعل إيذاء الرسول موجباً للعن والطرد من رحمة الله عز وجل مهما كان نوع الإيذاء صغيرا أم كبيرا، قولا أم فعلا ما توفر القصد والنية، كما قال تعالى {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً} ( الأحزاب:57) فجمع سبحانه بين نفسه وبين رسوله أيضاً في آية واحدة ليبين أن الأذى الواقع على رسوله يقع على الله أيضاً،
وجعل الله تعالى إساءة الأدب ولو دون قصد بحضرة الرسول محبطة للأعمال، كما قال تعالي: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} (الحجرات:2) فقوله تعالى: {وأنتم لا تشعرون} دليل على أن من لم يقصد هذه الإساءة يحبط عمله، وأما من رفع صوته على النبي وبحضرته يقصد الإساءة إليه فلا شك أنه كافر ملعون كما مر في آية الأحزاب الآنفة، فكيف بعد ذلك الذين يتهمون الرسول بشتى التهم ويعادون سنته ويستهزئون بهديه ومع ذلك يزعمون أنهم من المسلمين؟
على أن إن إيذاء الرسول يشمل كل أذية قولية أو فعلية من سب و شتم أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى، و مما يؤذيه - صلى الله عليه وسلم - سب أصحابه و قد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن إيذاءهم إيذاء له، و من آذاه فقد آذى الله. (2)
ونقول لهؤلاء المتطاولين على مقام أشرف خلق الله محمدا، من أعداء الله والإسلام في كل زمان ومكان، أو ما سمعتم عن الكاتب الأمريكي " مايكل هارت " لابد أنكم سمعتم فالرجل شهرته بلغت الآفاق، أو ما قرأتم كتابه " العظماء مائة أعظمهم محمد " لابد أنكم قرأتم فأنتم – كما نعلم عنكم – قوم تقرأون وتحرصون على متابعة ثمرات المطابع ودور النشر، فما رأيكم فيما كتب،
نعم إنه الكاتب الأمريكي ( غير المسلم ) يشهد – حتى من عنوان كتابه – لسيد الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعظمة والعبقرية وعلو الشأن وسمو المقام المكانة على طول التاريخ وعرضه، بل ويصفه بأنه أعظم رجل عرفه التاريخ، فألف كتابا اختار له عنوان " العظماء مائة أعظمهم محمد بن عبد الله "، هذا الكاتب كان مهموما بالبحث والتنقيب في صفحات التاريخ عن أكثر الناس تأثيرا في الحياة، ووضع لذلك مجموعة من المقاييس والمعايير الموضوعية الصارمة، فراح يقرأ ويبحث في سير الرجال على مدار التاريخ، ويسجل مجموعة من الأسماء التي انطبقت عليها تلك المعايير من أصحاب الأعمال الجليلة التي كان لها أثرها العميق في تاريخ البشرية لينتهي بحثه بعد جهد جهيد امتد لسنوات إلى اختيار مائة شخصية من عباقرة العالم الذين كانت لهم أياديهم البيضاء، وفضلهم الأكبر على البشرية جمعاء، وكان لهم الأثر الأعظم على مسيرة التاريخ الإنساني كله، وراح الرجل يجهد عقله في المقارنة بينهم فيما قدموه للبشرية من عطاء، ويطبق مقاييسه وموازينه ليرتب هؤلاء الرجال من حيث درجة أهميتهم ومبلغ عظمتهم الأهم فالمهم، فلم يجد " مايكل هارت " غير المسلم بدا من أن يضع محمدا صلى الله عليه وسلم على رأس هؤلاء المائة لفرط عظمته، وجلال قدره، وعظيم تأثيره، وتفرد شخصيته بين جميع الأفذاذ والعباقرة والأئمة من بناة الحضارة، وهداة الإنسانية، وما كاد الكتاب يصدر حتى ثارت ثائرة القوم في الغرب من المسيحيين واليهود، إذ كيف يتسنى له أن يضع محمداً في المرتبة الأولى من بين عظماء العالم، وبعده يأتي كل من نبي الله موسى والمسيح عيسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، كيف يقدم محمدا على موسى وعيسى، وهما له سابقان، فكان جوابه على ذلك الهجوم الضاري الذي تعرض له لموضوعيته ودقته، كان جوابه إنها مقتضيات العقل والتفكير العلمي، فلقد وضعت معاييرا للكمالات الإنسانية والكفاءة الشخصية فكان محمد أحق بها وأهلها، ومعايير للبذل والعطاء والجهاد والصبر وقوة الإحتمال وسرعة الوصول إلى النصر فكان محمدا، ومعايير لمن كان له قصب السبق في تقديم الخدمات الجليلة للبشرية، ووضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم قبله فكان محمدا، ومعايير لمن قدم أنجع الحلول، وأرقى المناهج، وأقوم السبل والوسائل لإصلاح الحياة الإنسانية فكان محمدا، ووضعت معايير للقدوة الطيبة، والأسوة الحسنة، والقيادة الحكيمة الرشيدة، والتجربة الثرية الرائدة فكان محمدا، كان محمدا في كل ذلك وفي غير ذلك هو الأول، وهو الأولى والأحرى أن يحتل المرتبة الأولى بين عظماء العالم وعباقرته فداك أبي وأمي يا رسول الله،
هكذا كانت هذه الشهادة للحبيب محمد ممن هو ليس على دين محمد، وهكذا فقد شهد شاهد من أهلها، وتلك هي حقيقة عظمة درة الخلق، وشامة الزمان، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولله در " الرفاء " الشاعر العربي حين قال :
وشمائل شهد العدو بفضلها **والفضل ما شهدت به الأعداءُ
كما قيل أيضا :
شهد الأنام بفضلهم حتى العدى * والفضل ما شهدت به الأعداء وقيل بنظم آخر :
ومليحة شهدت لها ضراتها * والفضل ما شهدت به الأعداء
إنها بحق شهادة رجل أراد ألا يتبع هواه ويجاري الموجه، نبعت من نقاء نفسي، وتجرد موضوعي بعيداً عن روح التعصب حتى لدينه وعقيدته التي ينتمي اليها،
ويقول الإمام الشعراوي معلقا – بعد أن ذكر الكاتب والكتاب – وما انتهى إليه من أن أعظم العظماء في التاريخ هو محمد، يقول معلقا : " ومع ذلك لم يتربَّ محمد في مدرسة، ولم يتخرج في جامعة، ولم يجلس إلى مُعلم، ألم تسأل نفسك أيها المؤلف: من أين أتى محمد بهذه الأوليّة ؟ ولماذا استحق أن يكون في المقدمة؟ لقد ذكرتَ حيثيات النبوغ في جميع شخصياتك، من تربية ودراسة في جامعات، وعلى أساتذة، وإطلاع وأبحاث، فلماذا لم تذكر حيثيات النبوغ في رسول الله ؟ ألم تعلم أنه أُميّ في أمة أُميّة؟ مما يدل على أن هذا الباحث تناول هذه القضية بعقله لا بقلبه "، ومع ذلك كان منصفا، وكان نزيها في رأيه، أمينا في إعلان ما توصل إليه بحثه من نتائج، والعجيب أن هذا الرجل ولد في الغرب ونشأ وتربى في الغرب، ورضع لبنان ثقافة الغرب، ولم يؤمن بمحمد، ولم يكن من أتباعه، وما عرف إلا اليسير من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال اليسير الذي ترجم إلى اللغة الإنجليزية، وما أقل ما ينقل إليها من الحق، وما أكثر ما ينقل إليها من الباطل حول الإسلام ورسول الإسلام، ولنا أن نتساءل في عجب كيف اهتدى الرجل في وسط هذه الظلمات والمتشابهات إلى هذه النتيجة التي صادفت الحق والصواب ولم تتجاوزهما قيد أنملة، لولا أن نور محمد صلى الله عليه وسلم كالشمس في ضحاها، والنهار إذا جلاها، لا يحجبه مكر ماكر، ولا كيد ساحر، ولا حقد حاقد، ولا عداوة مأفون، وصدق الله تعالى إذ يقول مخاطبا له : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً }( الأحزاب : 45- 46 )
وشهادة أخرى نسوقها لهؤلاء علهم يرتدعون، وعن غيهم يرجعون، وعن مهاتراتهم يترفعون، وعن بذاءاتهم يتورعون، أو ما قرأتم ما قاله ملك الروم هرقل عن سيد الخلق محمد ؟ إليكم ما قال : " لَمَّا سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومَن معه فيما سأله من صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبِي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان – وهو لم يدخل الإسلام بعد - : فقلت: لا، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق، ونطق بالحق وهو أعدى أعداء محمد، فقال له هرقل : فقد أعرف أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله (3)،
تماما كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولاً، نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة" (4)،
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عرفه أصحابه حق المعرفة، وعايشوا سيرته، وسبروا غوره، حتى قبل بعثته صلى الله عليه وسلم مذ كان فيهم صغيرا، فما عرفوا منه إلا كل ما يشهد بدلائل العظمة والسمو والرقي والكمال الإنساني، فأحبوه حبا جما، وعظموه كما لم بعظم بشرا بشر، ووقروه وعزروه ونصروه وقدموه على أعز عزيز لديهم من أموالهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم وعشيرتهم، وأحلوه في قلوبهم منزلة عالية رفيعة متفردة، لم تعرف لإنسان في الوجود قبله، ولا بعده صلى الله عليه، بعدما كان من عداوتهم الشديدة له، في أول أمره، وكفرهم به، وصدهم عنه، بل وإيذائهم له، ومما يروى في قصة الحديبية أن ( عروة بن مسعود ) لما رجع إلى قومه قال لهم : أي قوم ! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشى، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم اصحاب محمد محمدا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ( بفتح الواو )، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له " (5)،
وصدق عروة ولم يجاف الحقيقة فيما قال وقرر، ومرة أخرى " والحق ما شهدت به الأعداء " لقد بلغ من محبة أصحاب محمد لمحمد ما رواه ( ابن إسحاق ) : " عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، قَالَ مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأُحُدِ فَلَمّا نُعُوا لَهَا ( أي بلغت أنهم نالوا الشهادة في أحد )، قَالَتْ فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالُوا : خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ، قَالَتْ أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ، قَالَ فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ حَتّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ يارسول الله،.....تُرِيدُ صَغِيرَةً " قَالَ ( ابْنُ هِشَامٍ ) : الْجَلَلُ يَكُونُ مِنْ الْقَلِيلِ وَمِنْ الْكَثِيرِ وَهُوَ هَاهُنَا مِنْ الْقَلِيلِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي الْجَلَلِ الْقَلِيلِ :
لَقَتْلُ بَنِي أَسَدٍ رَبّهُمْ... أَلَا كُلّ شَيْءٍ سِوَاهُ جَلَلْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُ الشّاعِرِ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الْجَرْمِيّ :
وَلَئِنْ عَفَوْت لَأَعْفُوَنْ جَلَلًا... وَلَئِنْ سَطَوْت لَأُوهِنَنّ عَظْمِي
( فَهُوَ مِنْ الْكَثِيرِ )، وهذا يعني أن الجلل كما يقال للشيء الصغير، ال للشيء الكبير فهو من الأضداد، وفي رواية : أنها مرت بأخيها وأبيها وزوجها وابنها صرعى وصارت كلما سألت عن واحد وقالت من هذا قيل لها هذا أخوك وابنك وزوجك وأبوك فلم تكترث بذلك بل صارت تقول ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون أمامك حتى جاءته أخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول بأبي أنت وامي يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب (6)،
وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين. إنه يفعل العجب العجاب، ويجعل المستحيل ممكنا، والملح الأجاج عذبا فراتا سلسبيلا،
وختاما أردد من أعماق القلب، مع أولئك الذين عمرت قلوبهم بالمحبة لسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا :
يا سيدي يا رسول الله معذرة ** إذا كبا فيك تبياني وتعبيري
ماذا أوفيك من حق وتكرمة ** وقد علوت على ظني وتقديري،
فعذرا رسول الله ثم عذرا،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
============
الحواشي :
(1) – كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و أول من ينشق عنه القبر و أول شافع و أول مشفع "، قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1467 في صحيح الجامع
(2) – كما في الحديث ( وإن ضعفه الألباني )، عن عبدالله بن مغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن أذاهم فقد أذاني ومن أذاني فقد أذى الله ومن أذى الله يوشك أن يأخذه "، أنظر :
محمد ناصر الدين الألباني : " ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم "، المكتب الإسلامي – بيروت، ط3، 1993م، ج2، ص : 201
(3 ) - صحيح البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي،
(4) - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 700 -774 هـ ) : " تفسير القرآن العظيم "، تحقيق : سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1420هـ / 2000م، ج2، ص : 411،
(5) - محمد ناصر الدين الألباني : " إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل "، المكتب الإسلامي – بيروت، ط2، 1985م، ج1، ص : 56
(6) - أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي : " الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء "، تحقيق : د. محمد كمال الدين عز الدين علي، عالم الكتب - بيروت - 1417هـ، ج2 – ص 74
--------- د/أحمد يوسف بشير، جامعة حلوان
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: