الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم
أجمع المراقبون على أن الوضعَ الحاليّ في مصر أصبح غايةً في الغموض وأدعى للريبة والشّك منه إلى أي شئٍ آخر. فإنه من الواضح أن هناك اضطرابا وتأرجحا وترددا في الوسط العسكريّ الحَاكم، وهو ما أشرنا اليه من قبل في مقالنا "مأزق العَسكر .. والطريق المسدود!". إلا إننا نزيد هنا أن الأحداث الأخيرة، التي هى في حقيقة الأمر هجمةٌ على السلكة الحاكمة اليوم، لا من واقع الرغبة في إزالتها، بل من واقع الرغبة في دفعها إلى مواجهة سَريعةٍ حاسِمة مع التيّارات الإسلامية، إن كانت هناك بقية فهم أو حياة في هذه التيارات، التي لم تُظهر حتى اليوم إلا قلة فهم وسوء تقدير وفشلٍ في القرارات.
الذي ظهر من الأحداث الأخيرة، هو أن الحاكم الحقيقيّ لمصر هو سامي عنان، بموافقة ومباركة الإدارة الأمريكية. حسين الطنطاوى مجرد رمزٍ اختاروا أن يبقوه في منصبه لحرقه في المواجهات مع الشعب، ومع النصارى، خلال هذه الفترة الحَرجة. ومن ثم، يظل سامي عنان محتفظاً ببعض القيمة والكرامة، وبوجهٍ يمكن تقديمه إن لزم الأمر إلى الشعب.
وهذا الي نقول ليس بجديد، بل قد نشرنا على هذا الموقع في 13 مارس 2011، مقالاً ترجمناه عن النيويورك تايمز، بعنوان "البنتاجون يضع رهانه على جنرال مصريّ"، يُظهر مدى العِلاقة القوية الحميمة بين عنان وبين القيادات العسكرية الأمريكية. كما تحدث المقال عن أنّ الطنطاوى من الرجال التقليديين في الجيش، وأن ولاءه لمبارك هو الذي يَجعله على رأسِ المنظومة العسكرية المصرية.
إذن، لعلنا نستشفُ من هذه الأحداث والتحليلات ما يعين على فهم حقيقة الصراع، أو ما يشبه الصراع، الدائر في أعلى هرم السلطة في مصر، والذي قد يكون سبباً في الكثير من اضطراب والتردد والتأخر في القرارات.
يظهر لنا أنّ هناك فريقين يتنافسان داخل المجلس العسكريّ، تنافساً ودياً محكوما بالمصلحة المشتركة، أولهما يرأسه الطنطاوى، ومعه الحاشية التي تدين بالولاء لمبارك بصفةٍ شخصيةٍ، والآخر يرأسه عنان، ومعه أولئك الذين يسيرون في ركب السياسة الأمريكية دون مساءلةٍ أو مراجعة.
الفريق الأول لم يبنى علاقاتٍ شخصيةٍ قوية مع المؤسسة العسكرية الأمريكية، وإنما كان ذنباً لمبارك، أينما يوجهه يلهث مجيباً، وأحسب أن هؤلاء الأكبر سناً والأكثر إهتماماً بالشؤون المالية والكسب الماديّ. وأحسب كذلك أنّ هؤلاء هم من وراء تأخير محاكمة مبارك وإصدار قانون الغدر. وهم من ثم، في موضوع أسوأ وأخطر من القريق الآخر، سواءاً في مواجهة أية حكومة عادلة، أو في علاقاتهم مع العَسكر الأمريكيّ.
أمّا الفريق الثاني، فهم، وإن كان ولاءهم لمبارك، ولكن ولاءهم لأمريكا أكبر وأعمق. وهم لا يبالون إن حوكم مبارك أم لا، وإن أُعدم إم لا، بل هم يحافظون على الإبقاء على الوجه القوي للعسكر من ناحية، وأن لا يشعر أحدٌ بالشرخ القائم في المجلس، لمصلحة المجلس من ناحية أخرى. وهؤلاء هم من يخطّطون مع الصهاينة في تلّ أبيب، ومع جِنرالات أمريكا في واشنطن.
ما يتفق عليه الفريقان، على كلّ حالٍ، هو عدم السماح للإسلام السُنيّ الصَحيح أن يسود أو أن يكتسب أرضاً في مصر. كما أنهم يتفقان على أن العَسكر يجب أن يؤمنوا لأنفسهم وضعاً خاصاً، في حالة وصول أيّة حكومة مدنيةٍ إلى الحكم، وهو ما لا يعضّداه على الإطلاق، وأن يكون وضعهم الإداريّ متفردا عن المساءلة، وميزانية الجيش خارجة عن ميزانية الدولة، وهو ما اكتسبوه في ايام مبارك، بلا حقّ.
اللعبة العسكرية الحالية، تواجه عدة مشكلاتٍ، لعل أقلها وأبسطها هو التيار الإسلاميّ، الذي استطاعوا أن يعرفوا حجمه ويسبروا غوره. إنما يتركز همهم الأول في مواجهة التطرف القبطيّ الصليبيّ الذي إن رضَخوا له، وهم بالمناسبة يتمنون لو أنهم يَرضَخوا لتزول المشكلة، سوف يثيروا الشارع المصريّ، لا أقول التيار الإسلاميّ، إذ لا شئ يثير هذا التيار، إذ لن يقبل رجل الشارع المُسلم العاديّ أنْ يكون للنصارى هذه القوة، وهذا الانتشار، بهذا الفُجور. كذلك يترَكز هَمَّهم في كيفية تمرير المبادئ "فوق القرآنية"، والتي يتفقون في تمريرها مع القبط والعلمانيين اللادينيين. ولا شك أن بعض هذه المواد تسبب خلافاً محدوداً بين هذه الفئات الثلاثة، العسكر والقبط والعلمانيين، مثل وضع مادة الحَصانة للعَسكر، وهي ما لا يرضاه العلمانيون، ووضع المادة الثانية كما هي بدون تغيير، وهو ما لا يقبله القبط، رغم أنها لا تُسمن ولا تغنى من جوع. إلا أن الفكرة العامة، وغالب مواد هذه الوثيقة هو محلّ رضى من هذه الأطراف الثلاثة.
لا أدرى ما الذي يَفعله التيار الإسلاميّ في هذه المرحلة. ولا أدرى ما هو تصور الفئات المختلفة من هذا التيار. لكن الناظر المتابع يجد أنّ الإخوان لا مانع لديهم من إصدار الوثيقة، إذ وقع على هذا رئيس حزبهم، محمد مرسى، في إجتماع سامي عنان، ولم يتراجع إلا تحت الضغط الشعبيّ والداخليّ. كما أنهم لم يبدوا أي حراكٍ جادٍ تجاه المادة الخاصة بوضع الجيش. والظاهر أنهم لا يُركّزون إلا على إجراء "انتخابات"، يكون لهم فيها مقاعد أكثر من ال88 مقعداً التي حازوها من قبل في برلمان 2005.
أما السلفيون، فهم لا يهتمون بالشكل السياسيّ العام للدولة، قدر ما يتحسّسون من كلمة "تطبيق الشريعة". وهم، لحداثة العهد بالسياسة لا يربطون بين الشكل السياسيّ، والتطبيق الشرعيّ في الحكومة المرتقبة. فالدقة في تحرى ما يوضع في الدستور، مما يضمن الحرية الحقيقية، والعدالة، ومحاسبة الرئاسة والحكومة، ليست من أولوياتهم. وهم، كما يظهر، راضون عن أداء المجلس العسكريّ، من حيث أنه وليّ الأمر الواجب الطاعة، خاصّة وقد سَمَحَ لهم المجلس بتكوين حزبٍ، وإن لم تكن العلاقة بين هذا الحزب وبين مشايخ السّلفية غير واضِحة على الإطلاق.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: