سفيان عبد الكافي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7266
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ايمانا مني بان الشعب التونسي بلغ من دجة التعلم ما يؤهله لأن يؤسس دولته الجديدة داخل المسلك التاسيسي المزمع سلوكه على اسس العلم والتقنية لينشأ دولة تكنوقراطية مدنية هي الأولى في الوطن العربي هويتها العربية وتستمد روح التشريع من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية التي تمثل العرف في البلاد، ولأن البلاد اليوم في حاجة إلى فعل ومنهج واضح وبرنامج أكثر من حاجتها إلى اديولوجيا والتكنوقراطية تستوعب جميع الإديولجيات ولكن الاديولوجيات يعسر عليها استعاب التكنوقراطية. وهذا ما دعاني إلى ان اكتب هذه المباحث في قالب مقالات متتالية أحاول أن أرسم المنهج التكنوقراطي فيها بفكر تونسي باعتماد طريقة ابداع الحلول السياسية المبتكرة، وهذه الأفكار أعرضها لتستأنس بها الأحزاب او قد يتبناها مستقلون او قد يقوم على اساسها حزبا تكنوقراطيا مستقل بذاته هو الأول من نوعه في تونس فرغم تعد الأحزاب وتفرعها لم يقم اي حزب بتقديم هذا التوجه....
المسار التكنوقراطي من أجل التنمية
المادة (1)
ديباجة
الفكر التكنوقراطي هو ليس بالفكر المستحدث ولا هو بالتوجه الإيديولوجي إنما هو توجه وتصور واقعي علمي يعتني بحتمية الوصول إلى نتيجة حقيقية ذات فائدة ملموسة بأساليب علمية تستثمر الطاقة المعرفية البشرية ولا تغطى بالشعارات.
لقد عاشت تونس عدة مراحل تاريخية في العصر الحديث بدءا من بناء مكونات الدولة مرورا بتركيزها ثم تفعيلها. وكانت مرحلة تأسيس الدولة هي أولى المراحل التي قادتها الحركات التحررية حيث تم إرساء السيادة عبر وضع الدستور وتشكيل الحكومة، وقام رجال من أصحاب المعرفة والخبرات بهذه العملية التأسيسية دون استشارات فكرية شعبية ولا حلقات حوار جماهيرية، بل كانت اعتمادا على الثقة في معارف هذه الكوادر بحكم الجهل لدى الشعب و الأمية والتخلف الذي أرساه الاستعمار.
ولما تأسست الدولة اهتمّ النظام البورقيبي بالتعليم وراهن عليه وخصص له جل ميزانية الدولة فكان هذا الكسب الهام الذي تحقق لتونس بخفض نسبة الأمية و محوها اليوم بالكامل لدى الشباب المولود في الفترة ما بعد بناء الدولة والاستقلال إذ تكاد تصل هذه النسبة إلى 100% لولا مجموعة من كبار السن الذين بقوا من زمن التخلف ولم يحصلوا على حقهم في التعليم.
و اليوم تتبوأ تونس مراتب متقدمة في مصاف الدول النامية بحكم التطور المعرفي لدى سكانها حيث تعتبر ان ثروتها الحقيقية هي الثروة البشرية التي تعمل على تطوير البلاد في كل المجالات.
وفي سياق التنمية المتواصل والمكاسب المحققة على مر السنين تبدأ دائرة الإقناع تضيق لدى كل الحكومات والأنظمة ولا تنفع حينها الشعارات التي تصبح مكشوفة عندما تواجه شعبا مثقفا وعلى درجة محترمة من الوعي السياسي، و تظهر بالتالي الصعوبات وتنكشف الأخطاء ويطالب الشعب بما كان متغاضًى عنه.
في نهاية العهد البورقيبي عندما تقلصت الحلول السياسية لدى الحكومة والقيادة الحزبية بحكم اكتمال البناء، تحول التحدي التنموي والسياسي إلى سلوك طريق الخلق والابتكار للمحافظة على نسق تنموي يغطي ويلبي التطور العمراني والمعرفي ويغلّبه..
لذلك بدأت تظهر المشاكل والصعوبات الاجتماعية والسياسية، لأن هذه الحكومات المتتالية عجزت عن الخلق والابداع والابتكار وهذه أصعب مرحلة يمر بها السياسي عندما ينهي برنامجه السياسي والتنموي ولا يريد أن يتخلى عن موقعه لقوة سياسية أخرى لها برنامج آخر، وعليه بالتالي ان يواجه تحدي الخلق والإبداع والابتكار ليحافظ على بقائه في القيادة.
لقد دخلت الرفاهية حياة الفرد التونسي واصبحت الكماليات ضروريات، والمسكوت عنه مفضوحا، ولهذا بدات الحركات الانسلاخية عن الحزب الواحد وبدأت تظهر اطروحات جديدة واديولوجيات تسعى لحل هذه الإشكاليات القائمة في الدولة والحكومة التي انسلخت عن تنفيذ ارادة الشعب ومصالحه.
ولم يكن التغير الحاصل في سدة الحكم أوما سمي بالتحول إلا تسكينا لوجع ألم بالدولة وحقنةً مخدرة، ولم يكن هذا النظام بمنأى عن هذه التحديات التي تعترضه، ولكنه جابه هذا التحدي بانجازات وهمية على فضاء وهمي وافتراضي واحاطه بهالة اعلامية تبرز انجازات غير موجودة ودعّم هذا التمشي بخطاب سياسي راق لم يعرف له مثيل في المنهجية والرقي والعلمية من خلال ما يسمى بالبرنامج الإنتخابي الرئاسي، ولكن هذا الخطاب كان حبرا على ورق ولم يلامس الواقع ولا تظهر ثمراته إلا في وسائل الإعلام.
ومع ازدياد الفساد وتعطل الإدارة وتجاوز القوانين، صار الفرد التونسي يسمع جعجعة ولا يرى طحينا، فلا تشغيل ولا تنمية، والفقير يزداد فقرا، والغني يزداد غنى، وتقلصت الطبقة الوسطى بنسبة كبيرة، ولم يعد لشهائد التعليم والمعرفة العلمية والكفاءة شيء يميز حاملها، فلا اعتراف إلا بالوساطة والرشوة والمحسوبية.
وأمام تفشّي البطالة في أوساط حاملي الشهائد العليا، بدأت الأمور تتأزم، وبدا البحث عن الحلول السياسية أصعب، ولاح التنظير في إطار الإديولوجيات المختلفة معقّدا.
رغم كل السنوات العجاف التي عشناها لم تستطع الأحزاب ولا الإديولوجيات ولا التنظيمات المختلفة التغلب على النظام الفاسد بكل مكوناته ولم تستطع تغيير أي شيء فيه ولا التصدي لزحفه المقيت الذي أتى على الأخضر واليابس. إلى أن انتفضت الجماهير.. و قامت الثورة الشعبية التي قلبت كل الموازين وأطاحت بالحكم البائد، وسط ذهول العالم ودهشة الساسة والمحللين والخبراء والأحزاب والتيارات والمنظرين.. فقد كشفت الثورة حقائق عدّة.. ولكن نجاحها أظهر حقيقة واحدة : أن النظريات والإيديولوجيات والخطابات والرؤى السياسية لا تصنع الثورة.. الثورة تولد من الوعي بمهانة الواقع الذي تردّت فيه الشعوب التوّاقة للعيش الكريم.. الثورة قرار عملي حاسم لشعب متعلّم بلغ لديه السيل الزبى.. الثورة نتيجة حتمية للرغبة الشديدة في الإحساس بقيمة الذات مهما ضاقت بها السبل..
إن الأمر لا يحتاج إلى التنظير والتحليل والبحث النظري مرّة أخرى، وإنما يتعيّن فهم الأمر بمنطق علميّ بحت، بعيد عن كل تحاليل سياسية أو اجتماعية لما حدث، فالفرد لا يمكن أن ينظر لوضعه المتردي إلا بنظرة واقعية (باعتباره يصارع واقعا مريرا) ولا حاجة له إلى النظريات السياسية كي يفهم هذا الواقع المهين باعتباره يحسّه في كل لحظة ، لذلك بادر الى خوض معركته الحاسمة.. لكم كان الشعب عمليّا في البحث عن حل لمأساته،، فهو لم ينظّر، ولم يسع إلى تكوين أحزاب معارضة جديدة وفقا لأفكار وإيديولوجيات أكثر تشدّدا و رفضا للنظام،، و لم يعبأ حتى بالأحزاب الكائنة على الساحة.. بلّ مرّ مباشرة إلى الحلّ الفعلى الملموس إيمانا منه بأنه الأنسب لواقع معيش.. إنها البراغماتية في أبهى صورها..
فلا غرابة إذن إذا و جدنا أن الثورة قام بها أناس متعلمون ومتخرجون من الجامعات قادوها دون سابق تنظيم أو قيادة ما دامت تتخذ منهجا واقعيا بعيدا كل البعد عن السياسة والأحزاب والتنظير والمكاتب والبيروقراطية، وقريبا كل القرب من المناهج العلمية التطبيقية والفنية التي تفترض الحلول المباشرة للأمور المستعصية.
إنها طريقة جديدة في التفكير، ولا يستقيم القول بأنه "فكر" جديد، لأن مفهوم الفكر يفترض و ضع مجموعة من الأفكار والنظريات، و لكن المنهج العلمي في التفكير منفتح على كل النظريات والأفكار، و لا يأبه بها كثيرا لأن هدفه هو طرح حل تطبيقي للمسائل بصفة مباشرة بغض النظر عن طبيعة الأفكار والإيديولوجيات المستخدمة والتي لا تمثل هدفا في حدّ ذاتها بالنسبة لهذا المنهج بقدر ما قد تمثّل قناعات ذاتية للفرد له مطلق الحرية في تبنيها، على أن لا يقف عندها ويتقيّد بها بشكل يعيقه أو يحول دونه والتوصّل إلى طرح الحل الجذري والعملي المباشر للمشكل المطروح أمامه.
إن الأسلوب العملي التطبيقي العلمي في تناول القضايا وطرح الحلول الناجعة لها أصبح تلقائيا هو الأسلوب المعتمد من قبل كل شباب تونس المثقّف، و هذه هي النتيجة الطبيعية للوعي الذي اكتسبه من خلال تفاعل ما تلقاه من معارف وعلوم في الجامعات و ما تشبّع به من ثقافة في المجتمع، لذلك كان الحلّ الذي طرحه لتحسين أوضاعه و استرداد كرامته حلا قويا جدا ومزلزلا لأنه واجه أمامه نظاما سياسيا يتناقض تماما مع أسلوبه العلمي العملي في التفكير، واجه نظاما بيروقراطيا عقيما يعتمد التنظير ويستخدم الخطاب السياسي و لا يرتبط بالواقع ولا يطرح أي حلول عملية لقضاياه.. فكان لابد من القضاء على هذا النّظام واجتثاثه من الجذور لعدم جدواه في معالجة القضايا معالجة تطبيقية ملموسة.
والملاحظ أن الأسلوب الذي لجأ إليه شباب تونس للبحث عن حلّ لمشاكله، و الذي توّج في 14 جانفي 2011 بإسقاط النظام السياسي برمّته في البلاد، هو حلّ مبتكر، فيه قطع كامل مع البيروقراطية و التخطيط المكتبي العقيم، ، فهو قد اقتنع طوال السنوات الماضية أن البيروقراطية هي سلاح الأنظمة الفاشلة التي لا تمتلك الحلول لقضاياها لأنها تعتمد في الحقيقة على اجهاض المبادرة وتعسير الفعل حتى لا يكون هناك فعل غير فعلها، وهي طريقة إقصائية لكل الحركات العلمية المنبثقة من قدر المعرفة المكتسبة عند الشعوب.
أما المنهج التطبيقي التكنوقراطي الذي جنح إليه رجال البلاد و شبّانها بصفة تلقائية لتغيير الوضع السّائد، فهو يقوم على النظرة الواقعية في تحليل الأمور، وعلى النظرة العلمية في البحث عن الحلول.. وأهمية الوصول لحلّ ناجع ولنتيجة ملموسة، تمثّل ركيزة ودعامة هذا التنظيم.
إن المسار التكنوقراطي هو نظام تسيير حقيقي فعلي ومباشر للأمور بعيدا عمّا يسمى بحكومة الظل أو حكومة ماوراء الستار التي توجد في العديد من الأنظمة حتى الديمقراطية منها، و التي تظلّ ماسكة بزمام الأمور حتى عندما تتعرض الحكومة الظاهرة إلى المشاكل أو يتم تغييرها بالكامل، فتظل الخيارات والسياسة المعتمدة هي نفسها، ويظل التوجه العام هو نفسه والمشاكل تبقى حتى بتغير الوزير او المسئؤول، وخير دليل على كرتونية حكومة المواجهة التي تشرف على تطبيق سياسة البلاد هو ما نراه من اشخاص يتولون مناصب مختلفة في قطاعات ووزارت مختلفة بغض النظر عن تخصصهم أو خبراتهم في تلك الميادين أو القطاعات التي يكلفون بتسييرها، فنفس الوزير يمر من وزارة إلى اخرى رغم ان الميادين مختلفة ومتشعبة ومشاكل كل قطاع مختلفة عن الآخر، ولا يؤثر هذا التغيير في شيء وتبقى الأنظمة والحكومات قائمة بنفس التوجه، لهذا لا يعني التغيير شيئا، لآن الحاكم دوما هي حكومة الظل والحكومة المتخفية وراء الحكومة الظاهرة، وهذا هو سبب الفساد وأساس الاستبداد.
في الحكم التكنوقراطي يكون المسؤول ملمّا بميدانه، مستحقا لمنصبه، فعالا في قرارته، وأي تغيير ينتج حتمية التعديل، لأنها حكومة حقيقية، حيث لا يتولى أحد قطاعا لا يعلمه، ولا يتولى أحد مسؤولية دون أن يكون لديه برنامج عملي واضح ناجع وفعّال، لأن حتمية المحاسبة بالنتيجة تجعل المسؤول لا يتلاعب ولا يزيغ، فهناك آخرون يراقبون ويفرّقون بين الصالح والفاسد، وهذا يجعلنا نأمن على ادارتنا العلمية التكنوقراطية التي تلفظ كل دخيل لا يفيد أو مفسد يتربّح من موقعه.
ففي نظام الحكم التكنوقراطي، تكون الدولة واداراتها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، ولا يبقى اي قطاع في غنى عن القطاع الآخر، فالعمل متكامل في هياكل الدولة، كل عليه ان يحافظ على نسق تنموي ونجاح متواز مع النجاحات الأخرى.
إن اعتماد منهج تكنوقراطي تنموي لإدارة دواليب الدولة و تسيير الحكم هو الحلّ الذي تنادي به الشعوب وينادي به الفرقاء السياسيون في الدولة لحظة الأزمات.. هو الحلّ الذي يتوافق عليه الجميع و الذي يجمع عليه المختلفون للمرور بسلام والوصول بالدولة إلى برّ الأمان في أوقات الشّدة والحرج.. فإذا كانت الثقة في هذا التوجّه بهذا الحجم وفي هذه الأوقات الًصعبة ومن هؤلاء الأطراف (الشعب والأحزاب السياسية)، فكيف لا تكون الثقة والائتمان على الدولة في أيدي هذا النوع من الحكومات في الظروف العادية؟؟، إن التكنوقراطيّين هم عادة أشخاص يستثاق بهم، و يأمنهم الناس ويؤمّنونهم على مستقبلهم، وهذا دليل على ان التكنوقراطية هي سبيل نجاة آمن وإلا لما اختارها الشعب وحتى الأحزاب المتناحرة في ما بينها في أوقات الشّدة.
وكما أسلفنا، إذا استثقنا التمشي التكنوقراطي في اصعب المراحل الحساسة والحرجة التي تعصف بالبلاد، أفلا نستثيق نظاما تكنوقراطيا يبني البلد ويحقيق النمو؟!.
و القول بان التكنوقراط ليس لهم انتماءات واديولوجيات هو كلام خاطئ وغير صحيح فليس هناك أحد ليس له انتماء او توجه او تعاطف مع تيار ما خاصة إذا كان الشخص متعلما ومثقفا، فهل ان كوادر علمية كبيرة مثل هذه لا توجد لها ميولات وتوجهات وإديولوجيات مختلفة؟ طبعا لها، ولكن السؤال لم لا تظهر عليهم؟، والجواب هنا ان التكنوقراطية تستوعب كل الإديولوجيات، أما الإديولوجيات فلا تستوعب التكنوقراطية وقوانينها، التكنوقراطية تبحث في الفعل وطريقة العمل بمقاييس علمية وليس بمقاييس اديولوجية او شعاراتية او تنظيرية، فهي فعل عملي تحقيقي وليست فعلا دعائيّا اشهاريّا.
التكنوقراطية تبني على الموجود، ومتحولة إذا ما كانت الدواعي تستوجب التحول، ومتراجعة إذا ما كانت الدواعي التنفيذية تستوجب التراجع للحصول على ثمرة العمل والإنتاج، ولأن مطلب الشعب في هذه الظروف هو الفعل وليس التأدلج، يستثاق التكنوقراط على هذا الأمر لأن المحاسبة هي محاسبة تحقيقية وليست محاسبة مرجعية او ايديولوجية.
والملاحظ إذا سلمنا ان الحكومة التي سيّرت الأعمال ما بعد الثورة هي تكنوقراطية فقد حققت العديد من الإنجازات لم تتحقق في تونس طيلة نصف قرن، وهي انجازات عملية.
فالتكنوقراطية تمثل اذا مسلكا سليما للبناء التنموي والتصدي لحكومة الظل، وقد لا حظنا ان هناك تغيّرا نوعيّا في الوزارات بتغير الوزراء وبقطع النظرعمّا إذا كان نحو الأسوإ أو الأفضل فهذا يعني ان حكومات التكنوقراط ليست من حكومات الظل.
وأما الإعتقاد بأن الحكومة التكنوقراطية هي حكومة آنية باعتبار ان التكنوقراطية ليست منهجا ، فهذا مردود، فالتكنوقراطية منهج قائم فينا ولكن لم يقع تقنينه واستغلاله وبلورته، ولهذا كان هذا البحث ليعلن عن ان المسار التكنوقراطي هو منهج من مناهج السياسية يمكن بلورته واعتماده منهجا ومسارا من الأحزاب والمستقلين في ادارة الدولة وتسييرها وصنع البرامج الانتخابية ووضع تصميم تنموي شامل داخل الفلسفة العلمية والتقنية.
ان وجود نظام تكنوقراطي يحكم يعني بالضرورة القطع مع المركزية، فالتكنوقراطية تقف في موقع مضاد للمركزية التي تكرسها الحكومات الحزبية المعتمدة على الإيديولوجية البحتة، بمعنى ان كل مسئؤول له اهلية كاملة في اتخاذ القرار المناسب دون العودة إلى المركز، لأن القرار يكون معروفا وحتميا اعتمادا على القوانيين والاجراءات الموضوعة سلفا، وهو بأهليته العلمية واع وعارف بمجرى قراره وما سيترتب عنه.
والنظام التكنوقراطي يفترض قيام المسؤول بالتحيين الدائم لملكاته ومعارفه العلمية وتدعيم خبراته وعليه ان يخضع لقاعدة التعلم مدى الحياة، وهذا ما يجعل التداول امرا حتميا في السلطة والمسؤولية، فقد يصل القائد إلى مرحلة من عدم القدرة على الابتكار والتجديد لأنه استنفد مخزونه الكامل من التجربة والخبرة، وهنا لابد له ان يسلم العصى إلى زميله في سباق عدو التناوب هذا وإلا سيفوته نسق التنمية البشري ويصبح اكبر من النسق التنموي فيعصف بمركزه ويخرجه المطلب العام والشارع كقائد عجز عن تقديم الإضافة.
هذا التواصل والتحول يفرض نقل الخبرات وتدريب الكفاءات الشابة من خلال تربصهم وتعلمهم لإكتساب الخبرات داخل مؤسسة الحكومة وعلينا ان نرى وزيرا متربصا وواليا متربصا يُحصّل الخبرات في تكوين تحضيري لتسلم المشعل .. فان تسلموا المسؤولية والقرار تكون لهم مرجعية من الخبرة تؤهلهم للقيام بفعل ابداع الحلول السياسية الجدية، فالصغير والشاب عموما يعتبر محينا علميا اكثر من الكبير والمسن والشيخ، لأنه من المفترض ان يكون قد تلقى آخر ما صدر من التقنيات والعلوم التي تتطور باستمرار.
وعموما ففي الحكومات التكنوقراطية والأنظمة العلمية التي تقوم على الكفاءة، يكتشف المقصر فيها ويفتضح ولا يبقى بالتالي في السلطة، وإجمالا لا تبقي اي سلطة مدة طويلة وتقطع مع النظم الطويلة التي تؤسس للإستبداد فبقاؤها ببقاء فعلها الإبداعي وبنتيجة عملها لا بتاريخها وتوجهاتها.
ان الشباب المتعلم هو من قاد الثورة و اثبت بكل جدارة ان علميته ومعرفته اهلته إلى اقتلاع نظام عجزت التنظيمات الأخرى عن زعزعته، وتصرف كأنه كان مبرمجا كالحاسوب، لم يخطئ في قرارته وعرف كيف يصعد طلباته، والأكيد ان البرمجة كانت نتاجا لهذه العلمية التعليمية، فهو تكنوقراطي بالبناء العلمي والتعليمي، وهو اهل لأن يحكم البلاد ويسير مستقبلها.
ان الوقت قد حان لنستثمر عوائد اموالنا الكثيرة التي دفعناها في تعليم الفرد التونسي ونحصد ثمر ما زرعناه وراهنا عليه في مجال التعليم.
إننا نسعى من خلال هذا البحث إلى محاولة تأطير هذا المنهج العلمي التكنوقراطي الموجود فينا ووسمه بالحداثة ليكون لنا آلية تنمية فعالة في نطاق تنظيم هذا الفكر ورسم حدوده وآلياته ليكون تيارا جديدا مستحدثا يرتقي إلى تطلعات الشعب المتعطش إلى منهجية ترضي طموحاته وتستجيب لتطلعاته.
هذا هو المسار التكنوقراطي من أجل التنمية مختزلا في كلمات.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: