ديباجة في مفهوم الحوكمة المفتوحة في الديمقراطية التشاركية ذات البيانات المتاحة
سفيان عبد الكافي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6534
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ما من شك ان الشعب التونسي مل من السياسية والسياسيين، فقد الثقة فيهم فعزف عنهم، بعد ان اختلطت المفاهيم وغابت القيم ولم يعد يعرف الصادق من الكاذب والأمين من الخائن، فأصبحت اللامبالاة السمة العامة التي تطبع المواطنين بمختلف فئاتهم، وحتى المثقفة منهم، وملوا السياسة وتخلوا عن متابعة الشأن العام، وأصبحوا في غربة داخل اوطانهم.
كان لابد من ان تظهر افكار جديدة تعيد الأمور لنصابها والكفة الى توازنها، وتزرع الثقة من جديد، في مراجعة لمنظومة حكم جديدة تراعي التحولات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والتقنية والاتصالية وهذه الثورة المعلوماتية، وتواكب ما يحدث على الصعيد العالمي من رغبة الشعوب في التحرر والكرامة والديمقراطية.
جاءت هذه الحركات الداعية للتشاركية ولفتح البيانات بكل شفافية والحق في المعلومة للجميع دون اقصاء ومشاركة المواطن والمجتمع المدني بمختلف تفرعه واسهامه لتفعل مبدأ المواطنة بعيدا عن الوصاية التقليدية والإئتمان الوهمي والاستحواذ على السلطة والقرار والتفرد بالمعلومة وإقصاء المواطن.
لقد بين لنا التاريخ أن كل نظام حكم انهار من طرف القوى الشعبية كان بسبب تدني مستوى ابداع الحلول السياسية والتنموية لدى الحكّام فلم تجارى برامجهم المطالب الشعبية المتصاعدة، وبسبب احتقار المواطن والنظر اليه بأنه غير كفئ للمساهمة في الحكم، وصلاحيته لا تتعدى ورقة اقتراع يرميها في الصندوق ليعطي شرعية تفويضية بلا حدود للقائد والزعيم والملهم، ثم يرمى في الدرج إلى موعد اقتراع لاحق.
إن هذه المنظومة الجديدة التي تتحسس طريقها بتوءدة في الحضارة الإنسانية الحديثة تحتضن من الذكاء والعلمية والتشاركية ما تؤهلها لتحقيق تعادلية ما بين الحلول والمطالب، وتحترم ذكاء المواطن وأحقية حكمه لنفسه.
بعيدا عن التقليد والنقل الجامد من تجارب الآخرين، وتحت لواء المواطنة تتدارك القوى الفكرية التونسية وضعها وتحاول ان تصنع فكرا جديدا ومنظومة مستحدثة تراعي كل التطورات العلمية والثورة المعلوماتية والأبعاد الثقافية المتحررة في العالم، ولا يعيقها غياب انموذج يحتذى به، بل قد يكون هذا دافعا للابتكار وخلق شكلا جديدا نحتكم إليه ليعيد القوى السياسية الى الواقعية والإيجابية لتكريس حياة تنموية مستدامة وكسب ثقة المواطن.
ان المنهجية التشاركية هي منهجية فطرية، مزروعة في الإنسان منذ الأزل، يمارسها بأشكال متعددة في حياته اليومية، دون ن يشعر ويعيها، اي يمارسها بشكل متقطع عشوائي، لهذا يأتي هذا المشروع كتأطير لهذه الممارسة وتحديد سماتها وابرز قوانينها واستخلاص تعادليتها استنادا للفلسفة الخلدونية " الإنسان مدني بطبعه".
إن البراغماتية الرائعة التي جسدت الثورة التونسية تحتوي على كل القيم المولدة للفعل والتغيير، قوامها المعلومة المتاحة، وتطبيقها التشاركية، وتنفيذها العلمية والمعلوماتية، فالدواعي التي حركت المجموعات الشبابية بمختلف انواعها وطرق نشاطها تمثل تجسيدا لهذه الدعوة الصريحة لهذا المشروع الحضاري المرتجى، والرائد في تطلعاته، حيث لم يكن دافعه إيديولوجي ومحركه حزبي، ولم يقف ورائه قائد ملهم، بل كانت مطالب عفوية تلقائية تطلب حلولا لمشاكل تنموية واجتماعية، والشعار كان بسيطا ولكنه عميقا "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"، و"شغل حرية كرامة وطنية"، ولا يمكن ان تتحقق شعارات الثورة في جو من الاقصاء والضبابية والتستر على المعلومة والاستحواذ على السلطة والقرار عنوة.
انه غباء كبير في هذه المرحلة التأسيسية لو اعيدت نفس التجارب بنفس الآليات وبنفس العناصر وفي نفس الظروف وانتُظر منها ان تأتي بنتائج مختلفة، هذا ما قاله اينشتاين، لهذا لابد ان تتغير العناصر والطرق، حتى تأتي نتائج مختلفة تكون صلب تطلعات الشعب وأحلامه وأماله.
لقد انساقت القوى السياسية المختلفة في الفترة التأسيسية إلى التراشق بالتخوين واعتماد المزايدات في مضارب مختلفة، وارتكزت على البروباقندا في التهيج والتشيع وضرب الخصوم، وتمسكت بسرية العمل السياسي وادارة الشان العام، وأصرت على عدم كشف عن البيانات والمعطيات ومقدرات البلاد والعقود الاقتصادية والاستثمارية، وأُهملت البنية الأساسية للدولة وضاع الهدف التنموي، لدرجة ان مسييري الدولة يصرحون انهم لا يعلمون اين ذهبت أموال الميزانية المرصودة، وهذا من اخطر ما يهدد امن الدولة وهيبتها وسيادتها، ويضعها اليوم على عتبة الإفلاس لنخسر مكسبا عظيما كوناه من دماء المناضلين على مر التاريخ.
لم يعد من حل اليوم إلا استرداد البراغماتية، لتقوم كل القوى الثورية والفكرية والثقافية والسياسية متحدة لتجسد هذا المطمح ويُبعث المنوال التنموي من جديد وتُفعّل التنمية اعتمادا على اموال وسواعد وفكر كل المواطنين، بعيدا عن الوصاية والإنابة ليعلن الشعب: (انا رئيس نفسي، انا احكم نفسي..)، فلم يعد الشعار اليوم الشعب يريد، بل اصبح الشعب يقرر...
ان المواطن، مل الوعود الكاذبة، مل الشعارات الرنانة، وتاه في زحام التظليل، يريد فقط معلومة صحيحة، وفعل صادق، يريد ان يساهم في بناء وطنه، ولا يمكنه هذا في جو من الكذب والممارسة السرية في حكم الدولة، ودون ان يعرف مقدراته وثرواته وموقعه في هذا البناء، المواطن يريد ان يعرف ما له وما عليه، لينخرط في بنية تنمية عادلة في كل الجهات والمجتمعات والأفراد، بعيدا عن الفساد ونهب ثروات البلاد، في مسيرة التحدي لتفعيل العدالة الإجتماعية.
إن الطرح الذي يقدمه هذا المشروع (المنظومة الجديدة) اوسع من ان يكون دعوة إلى خدمات حكومية إلكترونية، او بيانات منحصرة وعامة، انه اعمق من هذا بكثير، انه يدعو إلى فتح كامل للبيانات، يدعو إلى دائرة ضوء واسعة وعامة فقد ملت الشعوب ان تحكم تحت الظلام، اعتبارا ان سرية إدارة الشأن العام هو الباب الواسع الذي يمر منه الفساد والإستبداد.
انها منظومة عامة تدعو لإرساء سيادة المواطن وجعله فاعلا في منظومة الحكم، يؤخذ برأيه بصفة متواصلة، ويتفاعل الحاكم معه ايجابيا.
إن دواعي ظهور مشروع الحوكمة التشاركية المفتوحة على اساس قاعدة بيانات متاحة في هذا الوقت بالذات ليس مصادفة، إذ هو نتاج لثورة ذكاء انسانية حضارية عالمية تفاعل معها الشعب التونسي بحكم تواجد ارضية خصبة تؤهل هذه القيم الجديدة لتنمو وتترعرع على ارضنا وفي عقول شعبنا النير، فلتونس كيان دولة متماسك وضارب في القدم (دستور قرطاج) بقي قائم الذات رغم التحولات الجذرية التي حصلت بقطع النظر عن منظومة الحكم التي تداولت على البلاد، فالإدارة قوية، ولم تنهار حتى في زمن الإنفلات، ولنا ارضية موجودة في البنية التحتية من خلال منظومة الخدمة الإلكترونية، ولنا الزاد البشري الكفء المتعلم، فمشروع اعداد وفتح قاعدة بيانات لا ينحصر فقط في جانب المنظومة الرقمية الإدارية، بل في المنظومة الحُكمية عامة، شعاره مناهضة سرية ادارة خدمة الشأن العام وإنهاء الإنفراد في الحكم وكشف التلاعب بالصفقات التجارية، وكسر هذه الطاولة التي يمر تحتها مختلف انواع ملفات الفساد.
أن مشروع منظومة الحكم التشاركي اصبح مطلبا شعبيا حتى يمارس المواطن مواطنته فيه فرديا من موقعه، وجماعيا تحت ما يسمى تفعيل منظمات المجتمع المدني، وهو تجسيم للمدنية التي نريد ان ندعّم قواعدها في البلاد، إننا نريد ان نغرس البذرة التفكيرية في المواطن، وبالأخص في مثقفينا والمفكرين اللذين يجب ان يلعبوا دورهم الريادي في تقدم البلاد ويخرجوا من السلبية التي هم فيها ولا يبقون واقفين مكتوفي الأيدي، ندفعهم إلى مزيدا من الإبتكار والخلق نشجعهم بالإستماع إليهم وتفعيل وتنفيذ ما يبدعونه، فلا تقمع هذه الإبداعات لأنها فاقدة للسند الشعبي.
نطمح كمواطنين إلى ترسيخ ثقافة الحوكمة والشفافية، نحترم وعي وذكاء المواطن، ونجبر منظومة الحكم ان تجعل الرجل المناسب في المكان المناسب تحت ائتمان حقيقي وفعلى وليس وهمي.
تعيش اليوم المنظومة السياسية التقليدية في شكلها النمطي الدغمائي الحزبي المستندة على الأشخاص والرموز والأصنام من السياسيين ازمة حقيقية مهددة باحتضار هذه المنظومة برمتها إن لم يُتدارك امرها وتُغير من فلسفتها وواقعها ومنهجية عملها، ولعل هذا المنظومة المفتوحة تريد ان تعطي للسياسي أدوات جديدة لكي يبني برنامجه على ارقام حقيقية وليس على تخيلات او استنتاج، وبالتالي يحيد السياسي عن البروبقندا، إذ تحذر هذه المنظومة السياسي من استبلاه المواطن وإعطائه الوعود الواهية، وما اتساع الحراك في مجال منظمات المجتمع المدني الا دليل على هذا الخطر المهدد للبنية الحزبية النمطية التقليدية، بحكم حتمية التطور التي تفرض على الإنسان ابتكار نماذج جديدة في التعاطي مع الشأن العام ومنظومة الحكم امام تقصير او قصور او سوء استخدام المنظومات القديمة المتواجدة.
ربما العمل داخل منظومة الشفافية وفتح البيانات تعطي للسياسي والذي مازال معتقدا في الشكل الحزبي التقليدي فرصة مراجعة حقيقية لأدوات عمله وطرق تعامله مع المواطن ومع الحكم والمعارضة.
داخل البيانات المفتوحة والشفافية تصبح عملية الاقتراع لدى الشعب لها فعل حقيقي وانعكاس ايجابي بعيدا عن تزوير الصوت، فالتزوير الحقيقي ليس في تغيير ورقة الإقتراع داخل الصندوق، بل في قيادة الصوت وتوجيهه وتخديره ومغالطته، لأن الشعب سيقول كلمته بعد تقييم موضوعي بمعاير علمية ملموسة وإحصائيات حقيقية ثابتة غير مكذوبة او مغلوطة، من خلال الحساب والمقارنة والنقد والتوقع المبني الذي يقوم به المواطن، وهذه قمة احترام ذكاء المواطن.
الشعب داخل هذه المنظومة المفتوحة التشاركية يعرف تلقائيا من قاعدة البيانات مقدرة الدولة ومُقدّراتها، ويستطيع ان يحسب ويستقرأ النتيجة حتى قبل بدأ التنفيذ، فلا مجال لاستبلاه المواطن وإعطائه الوعود الواهية، انها لا تحمي المواطن فحسب، بل كذلك تحمي الحاكم من نوازعه وتقيه التورط في منظومة الفساد.
انها منظومة تعلم المواطن فقه المقارنة (إن صح التعبير) تجعله يعرف موقعه في سلم التنمية والتشغيل، يعرف مكاسبه، يعرف حقوقه وواجباته، ما له وما لغيره، إنها التعادلية التنموية.
انها منظومة حوكمة رشيدة، عادلة صادقة، تتصدى لكل حكم فاسد، أو قيادة غير قادرة على الإنجاز، تبقي الدولة قوية، وتبقيها غنية، تحفظ المال والبشر، تجعل في اقتصادنا ثقة لا متناهية، تحرك الإستثمار وتشجع التنافس النزيه.
عندما تنفذ البرامج التنموية المبنية على قاعدة البيانات تحت برمجية وشفافية لا يمكن تجاوزها او التلاعب بها او اختراقها، ولا يمكن ان تضخم قيمة التكلفة لتذهب رشاوى في جيوب الحكام، فالأرشيف الرقمي يجبر حكام الدولة على تقديم البيانات الصحيحة بدون تلاعب ولا يمكن اتلافه او تمزيقه او فسخه وحتى ان حاولوا فسخه فدائرة التدقيق والمحاسبة تستطيع استرجاعه وتتبع الآثار، فلا احد حينها يتجرا على الفساد طالما اثار خطاهم باقية لا تمّحي، لأنهم سيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة.
كل من يريد الوصول لسدة الحكم في هذه المنظومة يبني برنامجه تحت لواء الذكاء والمعرفة، مقدما الكفاءات والقدرات العلمية والمخططات الصلبة والبرامج الواضحة تحت ممارسة نزيهة، جاعلا الشفافية كاميرا مراقبة لا تغفل عنه.
المنظومة التشاركية المفتوحة تفرض على المتنافسين على السلطة مهما كان موقعهم بان يقدموا برامج بعيدة الأمد، بعيدا عن الحلول الظرفية الحينية التي لا تحل المشاكل بقدر ما تعقدها وتزيد من تورطنا في التبعية والمديونية والتفريط في المكاسب والثروات الوطنية.
انه تنافس نزيه ومشروع هدفه خدمة حقيقية للبلاد، وكل من تسول له نفسه التلاعب أو اختراق هذه البرمجية والمنظومة يكشف تلقائيا ويعاقب كفرد، وننئى عن العقاب الجماعي الذي هو متعارض مع كونية حقوق الإنسان، لأن المنظومة التشاركية المفتوحة تحمي نفسها بنفسها.
لابد من ارساء آلية حقيقية ضامنة تعيد الثقة للمواطن في دولته حتى يُقبل على الإسهام في بنائها وتشجعه على تقديم الضرائب بأريحية، ولا يكون هذا إلا عندما يلمس ويرى فعليا ان امواله صرفت في مكانها ولصالحه، فلا احد يدفع اموالا يعرف او يشك انها ستسرق وتنهب ويتلاعب بها فسادا، صحيح ان نظام الضرائب هو طريقة قديمة وتقليدية نأمل ان يجود الفكر الإنساني بطرق اخرى مبتكرة في طرق تحصيلها وهذا ليس بعزيز امام هذه الثورة العلمية الإبتكارية والتفتق المذهل الذي يشهده العقل الإنساني فهو يبهرنا في كل يوم بأشياء ما كانت لتخطر على بالنا، إذ اننا مؤمنون ان العقل البشري كفيل بخلق طرق جديدة لتحقيق العدل والمساوات بين الجميع وينهي التهرب الضريبي والسرقات.
صحيح اننا اليوم نعجز على تتبع كل فرد وكيان في حركته المالية لمحاسبة دقيقة بحكم نقص الإمكانيات التقنية وضعف البنية التحتية وعدم تحيين المنظومة القانونية، ولكن على الأقل نحن قادرون اليوم ان نتتبع ما يقع تحصيله من اموال ونطالب الدولة وكل متصرف في المال العام ان يخبرنا كيف صُرف هذا المال وفي ما أنفق، وهذا من حقنا كشعب ندفع من اموالنا لتسيير دولتنا، وهذا اضعف الإيمان وكخطوة اولى نحو بلوغ الأنموذج الكامل.
اصبح المواطن يطمح لمنظومة حكم تكرس علوية القانون وحقوق الإنسان في هذه البلاد، يطمح لمنظومة حامية للأجيال، منظومة تجعل الجيل الحالي يعيش دون افساد ودون استنزاف لمقدرات البلاد، وتحمي حقوق الأجيال القادمة في العيش بكرامة، انها تكرس الجيل الثالث والرابع من حقوق الإنسان.
تمر البلاد اليوم بمرحلة تأسيس تونس الجديدة، ونحن أهل لأن نبني منهج حكم جديد للأجيال القادمة نصوغه على هذه المبادئ الراقية والمستحدثة لحقوق الإنسان، بيئة سليمة، تشاركية، بيانات مفتوحة، شفافية، كرامة، مواطنة....
إننا اليوم، لا نريد ان نعلق مستقبلنا بأخلاق الحاكم، فان صلحت سلمنا وان فسدت ظُلمنا، لأننا نعلم أنه مهما كان الإنسان ملتزما وثقة فهو يبقى دوما في ذاته البشرية الضعيفة، والتي قد تستسلم لنوازعها، علينا ان نقدر هذا ونحترم إنسانيتنا، فالعمل تحت برمجية هو اسلم للجميع، إذ هو بمثابة ارساء ضمير آلي، لأن الآلة من خلال برمجتها ليست لها احاسيس لتلغي هذا أو تفوض ذاك مجاملة، بل لها مقاييس وقوانين واضحة تعمل عليها فتتحقق العدالة والمساواة، انها فلسفة الضمان قبل الائتمان.
داخل هذا الدرب من المعلومات المتاحة والتشاركية نرسم درب الشفافية والمحاسبة على الفعل وليس النوايا، وبلادنا اليوم تحتوي على تيارات مختلفة، من اقصى اليسار مرورا بالوسط إلى أقصى اليمين، ودوما يدنا على القلب خائفين نتوجس لو حكم هذا التيار او ذاك ماذا سيحدث في البلد، فان جاء حُكم يميني بعد حُكم يساري كرس جهده لهدم ما بناه اليسار ويركز أركان يمينه والعكس كذلك، وإن جاء صنم يهدم ما صنعه الصنم القديم ليركز صنمه الجديد، وهكذا دواليك، نبقى ندور في رحى طاحونة مدمرة لجهد وانجازات الخصم وتبقى دوما الأولويات التنموية ثانوية امام بناء الأحادية السياسية السلطوية.
هذه المنظومة ستقصي كل حاكم يعجز عن تنفيذ المنوال التنموي الذي قدمه وانتخبه الشعب لأجله فيبين كذبه فيخلع، سدة الحكم مفتوحة للجميع، لا تسمح لمن يعتلى سدة الحكم ان يقطع السلم على البقية ليبقى فيها وحيدا مستبدا، منظومة تبقي حركة النزول والصعود متواصلة، للمتحزب والمستقل، ليست هناك فيئة ممنوعة وفيئة مرغوبة، كلهم امام مقياس واحد وتقييم واحد وهو المواطن.
ان الديمقراطية التشاركية عنصر ارقى من الديمقراطية التقليدية لأنها مبنية على مبدأ التنضيد أي تبنى من القاعدة نحو القمة، وإن استسلمت للصندوق فإنها لا تستسلم للعقوق، ولا تسمح للمنتخب ان ينقلب على ناخبه، لأنها تراهن على الفرد في موقعه وفي تنظمه، وتعطي للفرد القيمة الفعلية الذاتية التشاركية، جنبا لجنب مع الدولة، لأن الدولة وحدها لا تصنع التقدم دون الفرد، والفرد دون الدولة لا يصنع حضارة.
انها فلسفة الألفية الثالثة ونطاق صراعها، الثورة في عالمنا اليوم هي ثورة الذكاء، ثورة المعلومات، من يمتلك المعلومة يسبق الآخر في القرار الصائب، العالم يعيش على السبق والإستباق، في كل شيء، في الإبتكار، في الإستثمار، في الإختراع، حتى في الحروب هناك سبق وهناك صراع معلوماتي واستخباراتي، انها نتاج لنجاح العبور الرقمي الذي عشنا مخاطره في آخر ليلة من سنة 1999، كان عبور الذكاء، عبور المنظومة الرقمية، ليلتها برهنت المنظومة الرقمية أنها اهل لأن تستأمن على ارشيفنا وتكون مسلك تواصلنا ورقابتنا وتنفيذنا.
بعد هذه السنوات صارت في متناول الجميع، وخارج سيطرة الحاكم، وإذا اصبحت المعلومة في يد الشعب لا تصمد الأنظمة الفاسدة، فستنهار كمكعبات الديمينو المتراصفة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: