الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعل التساؤل الذى يحمِله عُنوان المَقال قد خَطر ببال الكثيرين، حتى من قبل إعلان استشهاد الشيخ أسامة بن لادن، وهو أنّه، مع هذا الزلزال العارم من الثورات الشعبية التى ضربت الأنظمة العَربية الطَاغية والخارجة عن الشَرعية الإسلامية، ومع التغيير اللائح في الأفق، الذي يستأصل كافة صُور الفساد، ويزيل الغشاوة التي ضربتها هذه الأنظمة على أعين الناس وفِطَرهم، ممّا يدع الفرصة أكثر من سانحةٍ للعودة إلى الإسلام الذي يكمُن في قلوبهم لا يزال، هل لا يزال الفكر الذي بَنَت عليه القاعدة وسائلها ومناهجها، ضرورىّ للوصول إلى أهدافها؟ وهل أهدافها – أي القاعدة – هي نفس أهداف هذه الثورات، بحيث أنّه مع تغير الوسائل، يمكن أن نصل إلى ذات النتائج؟
اسئلة تطرح نفسها على مائدة الحوار الإسلاميّ، ليس فقط بين المنتمين لجماعات إسلامية، بل بين كافة من يحملُ حباً لله ورسوله، وينتمى لهذا الدين ويعتز به. وإجابة هذه الإسئلة تكمن في تحديد فكر القاعدة وتصوراتها، ثم أهدافها وغاياتها، ثم وسائلها واساليبها، ومثل ذلك للثورة العربية المصرية، لنرى أين يلتقيان، وأين يفترقان، وهل يغنى أحدهما عن الآخر؟ وإلى اي مدى يصلُ هذا الغَناء؟ وهذا ما سنحاوله، بشكلٍ مختصر قدر جهدنا، ثم نترك الفرصة مفتوحة لمن أراد الحديث عن هذا الأمر، دون تقيّدٍ بما قيّدنا، إذ هو من باب البحث والتحقيق القابل للمحاورة والتعديل. وهو موضوعٌ أحسب أنه جدّ خطير لا يغنى فيه مثل هذا المَقال المُقتضَب، إلا كما يعنى العطشانُ قطرة غيثٍ واردة.
بين فِكرِ القاعدة والفِكرِ الثورى:
•الفكر الذى قام عليه تنظيم القاعدة، كما هو متفقٌ عليه، فكر إسلاميّ أصوليّ سَلفيّ، يرجع في مكوّناته للكتاب والسّنة الصحيحة، وما أجمع عليه علماء السلف الصالح. وعلى هذا الأساس، فإن الأبعاد الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي يمكن ان يقوم عليها المجتمع، في فكر القاعدة، بما في ذلك ما استُحدث من مصطلحاتٍ تعبّر عن مَعانٍ ومبادئ موجودة في الإسلام بمسميات أخر، كحقوق الإنسان وكرامة المواطن وحق المواطنة وما الى ذلك، كلها تابعةً لما يقدمه الإسلام من تصورات لهذه المبادئ، بلا خلط أو تشريك. وهذا الفكر يؤدى، في غاياته إلى رفع الظلم عن العَالَم المُسلم بإعادته إلى حَظيرة الإسلام. ويجدر بالذكر هنا أن فكر القاعدة قد بُنِىَ اساساً على فقدان الأمل في الإصلاح الجماعيّ، بمعنى أن نقطة الثورة على الوضع القائم قد بلغت غايتها بالفعل منذ أول يومٍ إنطلقت فيه فعالياتها للعمل.
•أمّا الحِراك الثورى الذي قامت عليه ثورة 25 يناير في مصر، فلا نرى أنّ له أصْلاً فكرياً مُحدّد المَعالم، بقدر ما هو ردّة فعل لكلّ ما هو ضِدٌّ للإسلام سَواءاً الظلم أو القهر أو الفساد، أو غير ذلك مما هو أصلاً مُعارضٌ أصيلٌ للدين وإن لم يأخذ طور التنظير والتأطير. لكنّ هذا لا يمنع من أن نرى أساساً فكرياً لهذه الثورة، وهو مَبنىّ على الحِسّ العَام بالظلم، الذي يولد فِكراً جَماعياً يسعى للتخلص من هذا الظلم دون إرجاعه إلى إطارٍ محددٍ، عدا المَرجعية العَامة للغالبية وهي الإسلام، كما رأينا هذه المرجعية العامة في الصَلاة والتكبير في ميدان التحرير. كما أن اليقظة الثورية تنبئ عن أنّ الشعب، بجموعه الحاشدة، لم يصل إلى نقطة الصدام والخروج إلا عشية 25 يناير لا قبلها.
•كذلك يجب التنويه إلى أنّ فكر الثورة محدودٌ إقليمياً وقومياً، بينما فكر القاعدة أشمل في إتساعه ليضم مفهوم الحضارة، فيتجاوز بذلك حدود القطر والدولة ومفهوم القومية والوطن، ويعيد مفهوم "الأمة" إلى العقول والقلوب.
•إذن، فإن مقاصد الفِكر القاعِديّ والفِكر الثورى، الذى هو وليد الجَمع المسلم، يلتقيان في بعض نقاطٍ، ويفترقان في البعض الآخر. وهما وإن لم يتطابقا في التفاصيل، فإن المرجعية العامة لهما قد تهيؤ، في رأينا، بداية تلاقٍ للفكرين، وهو كذلك ما يمكن أن يوفر مَصادر ذات غزارة تثرى كلا النظرين في صَالح المجتمع المُسلم.
بين أهداف القاعدة وأهداف الثورة
•أهداف القاعدة أهداف واضحة ومشروعة، وهي القضاء على السيطرة الغربية على مقدرات الأمة الإسلامية، والقضاء على الأنظمة الحاكمة التي تساند هذه السيطرة وتدعمها لصالحها الشخصيّ، والعودة بالعالم الإسلاميّ كله موحداً تحت صورة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، لا أقل من ذلك. وهي، مرة أخرى أهدافٌ مشروعة – بغض النظر عن واقعيتها.
•أما أهداف الثورة فهى بين أهداف مُعلنة صَريحة قريبة، وأهدافٌ مُضمرةٌ بعيدة، فالمُعلنة القريبة هي إسقاط النُظم الفاسِدة والحُكام المُتسلطين، والقضاء على بؤر الفساد وتجفيف منابعه، لضمان حقّ الشعب في الحياة الحرّة الشريفة. بما وراء ذلك من رَغبة في التحرر من ربقة التبعية للصهيونية والصليبية الغربية. أما عن الأهدافٌ المُضْمرةٌ البعيدة فتختص بالدولة وشكلِها، فهو مضمرٌ في حقيقة انّ الغالبية السَاحقة من الشعب هي غالبية مُسلمة، وإن لم تُفرق بين الكثير من المفاهيم الشرعية، ولم تتخلص من بقايا الغَزو الإعلاميّ الذي شوّه في أذهانها الشَرعية الإسلامية، وزعزع الثقة في إمكانية التطبيق الإسلاميّ من خلال من ينادون به على حدٍ سواء.
•من هنا نرى أن الهدفين قريبان، وإن ظهر أنهما متباعدان، وسبب ذلك، بل وضمانته، أن الشعب المصرى مسلم متدينٌ فطرةً، إذ هو الشعب الذي أنتج زعماء السلفية الجهادية التي تحولت إلى القاعدة في نهاية الثمانينيات. ولا تجد أحداً فرح بخبر استشهاد الشيخ بن لادن، حتى أن العلمانيين تجنبوا إظهار ذلك لعلمهم أن الشعب لن يقبل هذا منهم. والفارق الرئيس في الهدفين إنما يكمن في صورة الدولة لا في حقيقتها. فدولة الخلافة الراشدة هي أمل كلّ مسلم محبٍ لله ورسوله، لكن ما نحب وما يمكننا تحقيقه قد يتباعدا تباعد ما بين الحلم والحقيقة.
بين وسائل القاعدة ووسائل الثورة
•هنا يتجسد الفارق بين تنظيم القاعدة، وبين التنظيم الثورى، إن صحّ التعبير. فالقاعدة قد إختارت طريقاً مُحدداً، لا يقدر عليه إلا القليل من الناس، وهو طريق الجهاد المسلح. ومذهب القاعدة يتناسق مع فكرها، إذ إن القاعدة قد وصلت إلى حدّ الثورة، لدى النخبة التي إعتنقت مذهبها منذ ربع قرن، حين كانت القاعدة الثورية الشعبية لا تزال في غيبوبة من أمرها. والظاهر أنّ هذه النخبة قد فقدت إيمانها بالقاعدة الشعبية وقررت أن تقود عملية التغيير عبر الجهاد العسكريّ ولو كان ميزان القوة الظاهرة ليس في صالحها، إيماناً بوعد الله بالنصر، رغم أن هذا التوازن هو الذى إرتضاه الله سبحانه لتعادل القوى لمّا علم أن في الصحابة ضعفاً، هو الضعف البشرى العادى. من هنا كذلك نجد أن القاعدة قد إعتمدت على الأقلية القوية، المدرّبة عقدياً وعملياً، وعلى وضوح الهدف، ونقاء الجماعة من الشوائب الفكرية، لتصل إلى تحقيق عدد من أهدافها كما حدث في الصراع مع السوفييت، وما تحقق مَرحلياً في الشيشان وغيرها.
•والثورة في هذا الصَدد، إعتمدت على القوة القاهرة للأغلبية، قوة المجموع، لا قوة أفراد مهما كثروا. وقد اثبتت أنها قد تُحقق بعض الغايات التي يَسعى اليها تنظيم القاعدة، دون خُسارة كبيرة وبطريقة أكثر فاعلية وشمولاً، وميزة هذه الطريقة هي التفاعل بين ابناء الشعب، من القاعدة العريضة، لتحقيق الهدف الرئيس، وهو إسقاط النظام، ثم متابعة الأهداف التي تتفرع من هذا الهدف. فالثورة هي عمل القاعدة الشعبية لا القاعدة التنظيمية. وعيب هذه الطريقة هو الجهد المضنى الذي يحتاجه الدعاة من النخبة لنشر وتأكيد الصورة النهائية المطلوبة وترسيخ الفكرة الثورية الإسلامية لدى أعداداً هائلة من البشر. ومن هنا كانت تكلفة المنهج القاعديّ في الدعوة اقل جهداً منه في المنهج الثورى الشعبيّ.
•ولا ننسى أنّ نحذر هنا أنّ مقصودنا بالوسائل هو ما يتعلق بالوسائل الإستراتيجية العامة، لا التكتيكية، بمعنى أنّ من الوسائل التكتيكية التي اتخذتها القاعدة، ما هو محلّ خلافٍ فقهى (1)، وما هو غير متوافق مع الشريعة في رأي البعض. وحين يتعلق الأمر بقتل النفس غير المحاربة، فلابد أن يخرج الناس من الخلاف بعدم الفعل بناءاً على ما تقرر في الأصول.
•والحق، أن تفكير القاعدة لم يكن، وحده، يصلح لتغيير الأنظمة في عالمنا العربي. فالجهاد العسكرىّ لا يمكن أن يُعلن داخل حدود دولة ضد حكامها من قِبَلِ نخبة قليلة، مهما بلغت في إيمانها، دون إشراك القاعدة الشعبية. ولا أدرى كيف كان مُخطّط القاعدة لتغيير النظم، في الشرق الوسط، إلا أن تكون عاملاً منشطاً للثورة وليس بديلا لها. ولعلنا نظلم منظّرى القاعدة إن ظننا أن هذه النقطة لم تكن في حساباتهم، لا الأغلب أنها كانت على رأس هذه الحسابات، نظراً لأن تسمية التنظيم "القاعدة" يمكن أن يكون مؤشراً بذاته على هذا المنحى.
وخلاصة القول، في هذه التحليل العاجل يمكن تلخيصه في:
1. أنّ الثورة ليست بديلاً لفكر القاعدة، ولا تعنى أن فكر القاعدة قد زال بزوال سببه. بل الحق أن فكر القاعدة الذي يعلى قدر الجهاد، والإستعلاء بالإسلام، والعزة بدين الله، والتصدى للظلم والعدوان، سيظل مطلوباً قائماً واجباً ما دامت الأرض. وهذا الفكر هو ما يجب أن نعمل على إدماجه في فعاليات الثورة ومقاصدها، بشكلٍ أوضح مما هو عليه كما بيّنا.
2. أن الهدف الثورى، وإن بدأ قومياً، محدوداً بحدود مصر، يجب ان يحمل بذرة التعاون والتكامل مع بقية الشعوب المسلمة، سواءً كان ذلك بشكل دولة الخلافة، وهو الشكل الأمثل، لكن الأبعد تحققاً، أو من خلال تعاونٍ إتحاديّ كما في الإتحاد الأوروبي مثلا، أو فيدراليّ كما في الولايات المتحدة. المهم أن يسود القانون الإسلاميّ والنظر الشرعيّ للمسائل الداخلية والخارجية، في كافة مناحى الحياة، سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً، يكون هو القاعدة الأيديولوجية لمثل هذا الإتحاد، فتكون له عملة واحدة، دون تأشيرات، أو موانع للإقامة أو العمل أو الزواج.
3. أن وسائل القاعدة لا تزال فاعِلة مَرغوبة في مقاومة الإحتلال الصليبيّ والصهيونيّ بالخارج المحتلّ، وهو ما لم ولن يتبدل أو يتحول، طالما أن هناك قوى محتلة تقبع على أرضٍ مسلمة.
4. أن هذه الوسائل هي وسائل شرعية وأحكامٌ قرآنية لا تحيل ولا تبلى، فهى قائمةٌ لازمةٌ إلى يوم الساعة، إنما الأمر أمر مناط تطبيقها، بتوفر شروطها وإنتفاء موانعها.
5. أنّ هذه الوسائل لازمة لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وتذكيرهم بعزة الإسلام وتهالك أهله على الموت كما يتهالكون هم على الحياة، وهذه الرهبة هي سلاحٌ رادعٌ فتّاك، أختصّ الله به هذه الأمة، كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "نصرت بالرعب مسيرة شهر" البخارى.
فإستشهاد زعيم القاعدة ومؤسّسها، لا يعنى إذن نهاية دور القاعدة بحالٍ، كما قال بعض المُحللين، منهم من استضافتهم قناة أون لاين التليفزيونية، بل يغيّر مَجالها، ويزيد تركيز جَهدها في الخارج المُحتل، بدلاً من الداخل المقهور، كما يتركها مُلهمة لمعاني العِزة والإستعلاء بالإسلام.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: