الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الغضبُ أمرٌ من الأمور التي تنفِرُ منها، أو تنفِرُ لها، النفوس عادة. وذلك ليس لعيبٍ أو ميّزة في إنفعالِ الغضب ذاته، بل لأنه يعكس أمرين هامين، أولهما أن أمراً يراه الغَاضبُ خَطأً أو ذنباً او مُخالفةً، مهما كانت طبيعتها، قد وقع. والثاني، أن حجم هذه المخالفة، بذاتها أو بمن وقعت في حقه، بمكانٍ يحمل الغاضبُ على هذا الشعور. فإن وافق غضبُ الغاضبِ ما عليه الناس من تقدير المخالفة، نفرت له الناس، وغضبت لغضبه، وإن خالف الغضب، ولم تقع المخالفة في تقدير الناس ما وقعت في تقدير الغاضب، نفرت منه الناس.
والأمر الذي نود أن نشير اليه هنا هو أن سنوات متطاولات، بل عقود متتابعات، من الظلم والقهر، ومن الفساد والعُهر، قد حفرت خنادقها في عقول الناس وقلوبهم ، على إختلافِ مشاربهم وإتجاهاتهم، حتى أصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، فمن نهى عن منكر رُمى بالتخلف والتحَجّر، ومن أمر به وُصف بالتقدّم والتحَضّر! وفي صحيح مسلم، كتاب الإيمان، من حديث عمر رضى الله عنه " حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو خالد يعني سليمان بن حيان عن سعد بن طارق عن ربعي عن حذيفة قال كنا عند عمر فقال أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن فقال قوم نحن سمعناه فقال لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره قالوا أجل قال تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر قال حذيفة فأسكت القوم فقلت أنا قال أنت لله أبوك قال حذيفة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه".
وأحسب أن هذا هو أصلُ الداء الذي ابتلينا به في العقود الأخيرة، وهو سَبب ما شاع في أوساط الناس من إقدام على الباطل وأحجامٍ عن الحقّ، وهو ما أفسح الطريق لأهل الباطل والفساد من أن يستمروا في غِيهٍم يعمَهون سنيناً وعقوداً.
هذا ما آلت اليه حالُ الناس من إعتياد المنكرات من الأقوال والأفعال، لا ينكرونها لفعل العَادة في نفوسهم، وما أمْكرُ العادة حين تتمكن من النفوس، فتطغى وتتحكّم، ولا تبالى بحق أو بعدل. فأصبحنا نرى الناس يمرّون، مُصبحين ومُمسين، على صورٍ ومشاهد لو رآها آباءهم لندت جباههم بالعرق خجلاً، لا يعيرونها التفاتاً ولا ينكرون وجودها ولو بكلمة. كما رأينا، من نفس المنطلق، من يقرأ أراءاً لكل نغلٍ رويبضة، أو يسمع أحاديث تنسب للعلم والفقه، تخالف سُّنة أو تعارض كتاباً أو تهدِم أصلاً، خطأ أو تأويلاً، فلا يتحرك سَاكناً لسامع أو لقارئ، إما جهلاً بما يقرأ أو يسمع، إن كان من العامة، أو تعوداً على الباطل، أو مداهنة للكاتب أو المتحدث.
والأمر أنّ التغيير الذي ننشده من الثورة، والذي يجب أن يتعدى حدود المُطالبة بتحسين مستوى المعيشة، هو أن يرتفع سقف الوعي بالحق والمعروف، وبإدراك الباطل والمنكر، ولن يتأتي هذا إلا إن رفعنا عن أنفسنا حُكم العادة التي بات المعروف لديها لا يختلف عن المنكر، في أحسن تقدير. ثم أن نعرف حُسن المعروف وفضله وأثره، فنسعى له ونطلبه حثيثاً، وأن نعرف قبح الباطل فنجتنبه، ونعوذ من كونه منكراً خبيثاً.
ولن يتحقق هذا التغيير إلا حين نبدأ في الشُعور بالغضب حين نرى هذه المنكرات، أو نقرأها أو نسمعها. حين نرى صورة عارية، أو نسمع خنا جاريةٍ، أو حديث مزيفٍ متقوّلٍ على الله، فيجب أن يهتز فينا الغضب لصاحب الشرع الذي حرّم هذا، إذ المخالفة لم تقع في حقنا، بل في حق الله سبحانه، والغضب لله هو دليل الإيمان، ووالله الذي لا إله إلا هو ما غضب لله عند رؤية منكرٍ إلا مؤمن، وما استوت عنده رؤية المنكر من عدمه إلا مختل الإيمان.
فالغضب لله هو طريق الأنبياء. ألم تسمع قول الله تعالى في موسى عليه السلام "وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوْمِهِۦ غَضْبَـٰنَ أَسِفًۭا" الأعراف 150، وقوله تعالى في يونس "وذا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبًۭا" الأنبياء 87، وقد ورد عن أبي مسعود بن عقبة البدرى رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يكيل بنا، فما رايت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة أشد مما غضب يومئذ" البخارى، وهو من باب تعظيم حرمات الله، قال تعالى "ومن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِِ" ، الحج 30، ولو ذهبنا نتقصى أدلة هذا المعنى ما انتهينا من مقالنا هذا الليلة.
قم إذا بنا نرى ما وقع فيه الناس اليوم، فتجد من يوسم بالعلم يرمى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة بمنافاة العقل، وإذا بحديثه هذا يُسمع له دون إنكار، بل يُعتذر له، ولا تأخذ بمن يسمع هذا غضبة لله ورسوله!، ثم نسمع من يشوّه حقائق الدين، ويزيّف مفاهيمها، فيُعرض عن هذا الحديث، ويتخذ أصحابه مقدّمين، ويوسِع لهم في مجلسه وقلبه ومكتبته وصحيفته، ولا يرى غضاضة في عدم التعليق على هُراءاتهم بكلمة، تحت دعاوى لا تدل إلا على موت هذا الفضيلة الغائبة، فضيلة الغضب لله، في قلبه، ونقص من درجات إيمانه. فتسمع أعذاراً مثل "يسعنا الخلاف"، "الرجل له أفضال أخرى"، ليس هذا وقت التشتت"، وهكذا. دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي مما لا محل لها في موقع الكلام. فإن الإنكار على المُخالف، لا يعنى إسقاطه بالمرة، بل تتوقف درجة الغضب وقدر الإنكار بقدر خلافه وإصراره عليه، وبقدر بشاعته وبعده عن السنة، وبقدر أثره على العامة، هذه شروط ثلاثة. ثم، متى كانت قولة حق تشفع في التغاضى عن باطلٍ؟ خاصة والباطل معروضاً للناس على الملأ؟ فلو أن هذا الباطل يتحدث به في غرف مغلقة، لما جاز رمى احدٍ بباطل، كما لو زنى الزاني دون شهود. لكننا نتحدث فيما هو منشورٌ مُعلنٌ لا يستحى قائله، ولا يُنكِرُ سامعه.
وقد رأينا في مثال محددٍ، كيف أن الغضب للنفس أقوى عند الكثير، حتى من علماءالأمة، من الغضبِ لله ورسوله، وهو ما جرى في حادثة تعدى الرافضة الصفوية على الشيخ القرضاوى وأهله. والشيخ القرضاوى، أكرمه الله، كان من المنافِحين عن علاقة أهل السُّنة بهؤلاء الصفوية الروافض، بل وصرف عمراً وجهداً في هذه المُحاولة للتقريب، التي هي، كما نرى، عبث لا ينتهى إلى جِدِّ. ثم حين انتقص هؤلاء الخبثاء من مقام الشيخ، غضب الشيخ، وغضب معه محبّوه، وغضِبنا لهذا العدوان القبيح. والسؤال الذي أثرته في مقالٍ لي حينها هو: كيف نرضى بالتعامل والتقارب مع شاتمى زوجات وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل مكفريهم ولم نغضب لله؟ بل وتعامَلنا معهم وملؤنا التسَامح والإغضاء والمَودة، فإذا مسّنا الأمر بشكل شخصيّ لم نحتمله. هذا ما يحزن ويوئس من الواقع الأليم، ومن غياب هذه الفضيلة الشريفة، الغضب لله تعالى.
آن الأوان أن يعود الغَضب لله سبحانه فقهاً يُتداول، وموقفاً يؤثر، وواقعاً يعاش، فإن النفس لا يتجزأ إحساسها، ومن أحبَّ لم يقبل مخالفة محبوبه والتهجم عليه، لا بعذر ولا من غير عذر.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: