فتحي قاره بيبان - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9879
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يرتبط موقف المرء وردّ فعله تجاه أي موضوع بدرجة ونوعية المعرفة المتاحة له عن ذلك الموضوع؛ وكذلك الشأن مع الإسلام.
وإني أرجع ما عليه حال المسلمين اليوم مع دينهم من حيث معرفته والعمل به، وحال الإسلام في العالم بصفة عامة، إلى سبب رئيسي هو درجة ونوعية المعرفة المتوفرة عن الإسلام. فالمعرفة المتوفرة عن الإسلام هي في حالات كثيرة: منعدمة أو مغلوطة أو مشوّهة أو مشوّشة أو منتقاة. وهذا الوضع هو السبب وراء كثير من ردود الأفعال والمواقف سواء لدى المسلمين أو غير المسلمين كالتطرف أو معاداة الإسلام أو اللامبالاة.
وإني أزعم أن معرفة الإسلام معرفة كاملة وصحيحة كاف وحده لتغيير وضع المسلمين والعالم تغييرا جذريا.
النصُّ الكاملُ للرسالةِ الإلهيّةِ
الإسلام هو رسالة الله إلى عباده كافة التي بلّغها عنه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم. هذه الرسالة هي رسالة نصيّة باللغة العربية تتألف من القرآن الكريم والسنة النبوية.
إن النصّ الكامل للقرآن الكريم والنصّ الكامل للسنة النبوية يمثلان النصّ الكامل لرسالة الله إلى خلقه. قال الله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين" (التغابن، الآية 12). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" (أخرجه الحاكم عن أبي هريرة).
إن معرفة الإسلام معرفة كاملة وصحيحة لا تتم إلا باطلاع المرء على النص الكامل لرسالة الله إلى عباده دون نقص أو انتقاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه" (أخرجه أبو نعيم الأصبهاني عن علي بن أبي طالب).
إن قراءة نصّ الرسالة الإلهية كاملا وفهم معانيها على الوجه الصحيح يمثل الخطوة الأولى والأساسية والتي لابد منها لكل إنسان للإلمام بهذه الرسالة، وتبقى المتشابهات التي يقع الرجوع فيها للعلماء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا بكتاب الله ولا تكذبوا بشيء منه، فما اشتبه منه عليكم فسلوا عنه أهل العلم يخبروكم ..." (أخرجه الطبراني عن معقل بن يسار).
واقعُ المعرفةِ بالإسلاَم
تنحصر مهمة الرسول في إبلاغ رسالة الله إلى عباده، وما تلقاه الرسالة بعد ذلك من تعهّد وإلمام معرفي بها أو إعراض عنها فمرتبط بالمتلقّين لها من البشر. قال الله تعالى: "فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ" (الشورى، الآية 48).
ونلاحظ اليوم لدى أغلبية المسلمين وغير المسلمين نقصا وخللا كبيرين في الإطلاع على النص الكامل لرسالة الله إلى عباده، وفي توفر الأدوات المعرفية المعينة على فهم المعاني الصحيحة لهذا النص.
كما نلاحظ أنه لا توجد أي مؤسسة دينية تتولى على مستوى العالم توفير معرفة صحيحة وكاملة بالإسلام، وتتعهد بحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية حفظا يمنع أي تحريف أو تأويل باطل لهما. كما لا توجد أي مرجعيّة معرفيّة موحدة للإسلام.
والمدارس العمومية في كثير من الدول الإسلامية لا تخصّص لتعلّم الدين سوى ساعات قليلة غير كافية، والمحتوى التعليمي منقوص وانتقائي وموجّه، وهو لا ينتج جيلا مُلِمّا بدينه.
وبينما يتوفر القرآن الكريم في كل بيت مسلم، فإن السنّة النبوية لا تتوفر لدى كل المسلمين؛ وأغلبية المسلمين لم يقرؤوا النص الكامل للسنّة النبوية، ولا يتوفر لدى كثير منهم حتى عنوان واحد من الكتب التي جمعت قليلا أو كثيرا من السنّة أو انتقت بعضها.
يقول الشيخ محمد راتب النابلسي: "إن معرفة سنّة النبي صلى الله عليه وسلم بكل أنواعها؛ أقوال، وأفعال، وإقرار، وصفات فرض عين على كل مسلم... يعاقب تاركه، ويثاب فاعله". ويقول: "كلُ الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام لأمتّه وحيٌ يوحي، ولهذا علماء الأصول قالوا: هناك وحيٌ متلو هو القرآن، ووحيٌ غير متلو هو السُنَّة." (1)
ويمكن تشبيه حال أغلبية المسلمين في معرفتهم بدينهم بحال من وصلته رسالة من صفحتين فقرأ الصفحة الأولى دون الثانية، أو اكتفى بقراءة أجزاء متفرقة من الرسالة، وظنّ أنه قرأ الرسالة كلها واطلع عليها.
خُطّةُ المعرفةِ الكاملةِ بالإسلاَم
إن جهل المسلمين بدينهم هو الذي أضعفهم في فترات من التاريخ، وهو السبب فيما عرفوه في القرون الأخيرة من انحطاط، وما يعرفونه في الوقت الحالي من ضعف وانحراف عن الدين. وهذا ما يستوجب التفكير في خطّة عَمليّة دائمة تضمن معرفة المسلمين دينَهم معرفة كاملة وصحيحة وتُبعدهم عن الانحراف عنه.
ولا يمكن انجاز هذه الخطة بجهود فردية منعزلة، فلا بد من العمل الجماعي المنظّم الذي تتوحد فيه جهود المسلمين وعلمائهم في شكل مؤسسة واحدة أو عدة مؤسسات مترابطة ومتناسقة مع بعضها. والدين الواحد لا بدّ له من مرجعيّة علميّة واحدة أو أساسيّة يقع الرجوع إليها.
وإني أقترح خطّة تتكون من ثلاثة مشروعات وهي:
أولا: إنشاء هيئة عالمية للقرآن الكريم والسنّة النبوية
ثانيا: توفير القرآن الكريم والسنّة النبوية كاملة لدى كل عائلة مسلمة
ثالثا: تدريس القرآن الكريم والسنّة النبوية كاملة لأبناء المسلمين.
هي مؤسسة عالمية مستقلة تتجاوز الأفراد والدول والحكومات والقارات، تتكون من أفضل علماء المسلمين الأكفاء علميا وأخلاقيا في العالم الإسلامي والأقليات المسلمة في الدول غير الإسلامية، تتمثل مهمتها الأساسية في: حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وتوفير الأدوات المعرفية التي تمكن من الفهم الصحيح لهما. ويمكن اعتبارها تطبيقا عمليّا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (أخرجه الطبراني عن أبي هريرة).
وهذا الحفظ للقرآن الكريم والسنّة النبوية ذا مستويين اثنين: مستوى أول: يتعلق بحفظ مادي للنصوص المقدسة من القرآن والسنّة، وحفظ مادي لكل ما يتعلق بتراث عصر النبوة والصحابة والتابعين وأتباع التابعين حفظا يبعد عنه أي تحريف أو ضياع؛ ومستوى ثان: يتعلق بحفظ المعاني التي تضمنتها النصوص المقدسة من قرآن وسنّة، وتوفير الأدوات المعرفية الضرورية لفهمها على الوجه الصحيح في كل زمان ومكان بكل اللغات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ويتمثل الحفظ المادي للنصوص المقدسة في جملة من الأعمال لعل من أهمّها وأولاها: جمع كل السنّة النبوية الصحيحة وإصدارها في مرجع واحد، وهو عمل تخلّف المسلمون عن القيام به قرونا. وتتولى هذه الهيئة على مستوى العالم ضبط طريقة التعامل مع المصحف الكريم، وانجاز تراجم لمعاني القرآن والسنّة النبوية بكل اللغات تكون هي الوحيدة المعتمدة. ولا يمكن لأي كان في العالم أن يطبع أو يروج القرآن الكريم أو السنّة النبوية - بعد جمعها في مرجع واحد - إلا بعد حصوله على موافقة هذه الهيئة. ومن هنا لا يمكن لأي كان أن يحرّف النصوص المقدسة أو يتعامل مع القرآن الكريم والسنّة النبوية تعاملا لا يليق بهما.
ويتمثل حفظ معاني النصوص المقدسة في انجاز مراجع أساسية تعين على بيان وفهم وتنظيم النصوص الإلهيّة طبق المواضيع الفقهية. ويمكن أن يكون عدد هذه المراجع ستة ومحاورها كما يلي:
1)معجم لألفاظ القرآن الكريم والسنّة النبوية
2) تفسير أو بيان لمعاني القرآن الكريم
3) شرح أو بيان لمعاني السنّة النبوية
4) العقيدة الإسلامية (الغيبيات والمفاهيم)
5) الشريعة الإسلامية (المعاملات والأخلاق والعبادات)
6) العلوم الدينيّة والفتاوى
ويقع الرجوع في إعداد هذه المراجع إلى كل التراث الإسلامي الذي أنجزه كبار علماء المسلمين القدامى والمعاصرين في فقه الدين، وهي بذلك تختزن زبدة ما أنجزه هؤلاء، وتقدمه في أفضل صورة وبأحسن طريقة. وتصدر المراجع في ثلاثة مستويات من التوسّع حسب حاجة كل مسلم: المختصر، الوسيط والموسّع. ويمثّل المستوى المختصر الحد الأدنى الواجب معرفته من طرف كل مسلم، ويكون في مستوى فهم العوام وأبسط الناس.
ويمكن توفير محتوى هذه المراجع بكل أشكال تداول المعلومات وبكل الوسائط المتوفرة في هذا العصر. ويجب مراجعتها بصفة دورية مرة كل ثلاثين سنة أي كل جيل تقريبا.
وإني أرى أنّ أفضل من يمكنه الإشراف على إنشاء هذه الهيئة العالمية للقرآن الكريم والسنة النبوية هي منظمة المؤتمر الإسلامي باعتبارها منظمة تجتمع فيها كل الدول الإسلامية.
القرآنُ والسنّةُ في كلِّ بيتٍ
يتمثل المشروع الثاني للخطّة المقترحة في أن يتوفر لدى كل عائلة مسلمة نسخة من القرآن الكريم مع تفسير مختصر، ونسخة من السنّة النبوية كاملة مع شرح مختصر، تهديان لكل عائلة بدون مقابل من بيت مال المسلمين. ويمكن في مرحلة لاحقة أن تضاف إليهما المراجع الستّة التي ذكرت سابقا والتي تصدرها الهيئة العالمية للقرآن الكريم والسنة النبوية في صيغتها المختصرة، وتموّل من المال العام أيضا.
ومن السُنن الحميدة التي يمكن أن تعتمد وتستقر في كل مجتمع مسلم، مهما كان عدد أفراده، أن يُهدى لكل عروسين جديدين نسخة من القرآن الكريم مع تفسير مختصر ونسخة من السنة النبوية كاملة مع شرح مختصر. ويضاف إليهما في مرحلة لاحقة المراجع الستة المذكورة سابقا في صيغتها المختصرة.
ويمكن أن تبدأ الجمعيات الخيريّة وأصحاب المبادرات الخيّرة بالعمل بهذه السنّة منذ الآن إلى أن تصبح معتمدة من طرف الدولة ومموّلة كلّيا من المال العام للمسلمين.
تدريسُ القرآنِ والسنّةِ لأبناءِ المسلمينَ
أما المشروع الثالث في الخطّة فيتمثل في أن يقع تدريس نصّ القرآن الكريم كاملا ونصّ السنّة النبوية كاملا لأبناء المسلمين طيلة مرحلة التعليم العام الذي يسبق التعليم الجامعي؛ وفي مرحلة لاحقة استيفاء محتوى المراجع الستّة التي تصدرها الهيئة العالمية للقرآن الكريم والسنّة النبويّة في صيغتها المختصرة أو الاكتفاء بمرجعي العقيدة والشريعة، ومن المفترض أن تكون ساعات التدريس المخصصة لذلك كافية ولا تقل عن حد أدنى يقع ضبطه.
إن مشروعات خطّة المعرفة الكاملة بالإسلام متوافقة - حسبما أرى - مع نصوص الشريعة الإسلامية. ويتطلب انجاز هذه المشروعات رجالا ومؤسسات يدعون إليها، ويجمعون المناصرين حولها، ويعملون ليلا نهارا حتى تصبح واقعا تستقر عليه حياة المسلمين على صراط الله المستقيم. فالجهل هو عدوّ المسلمين الأكبر، وأخطر جهل هو الجهل بدين الله. قال الله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" (النساء، الآية 174).
______________________
(1) انظر صفحة الانترنت بهذا الرابط:
http://www.nabulsi.com/text/05seera/1nabi/Shamael/shamael-1.php