فتحي قاره بيبان - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2876
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يضبط الأمر الحكومي عدد 1050 لسنة 2017 خطط الإطارات المسجدية وكيفية تعيين القائمين بها وما يسند لهم من منح. وفي مقدمة هذه الخطط نجد: خطة الإمام الخطيب الذي يؤم المصلين في صلوات الجمعة والأعياد ويلقي الدروس، ويتقاضى منحة شهرية تتراوح من 80 إلى 90 دينارا حسب المستوى العلمي، ونجد خطة إمام الصلوات الخمس الذي يؤم المصلين في الصلوات الخمس، ويتقاضى منحة شهرية قدرها 80 دينارا، ونجد خطة المؤذن الذي يؤذن لكل الصلوات مع إقامتها، ويتقاضى منحة شهرية قدرها 72 دينارا.
وينصّ هذا الأمر على أن اﻹطارات المسجدية الذين ليس لهم دخل يعتمدون عليه فإنهم يتحصلون عوض المنح المذكورة سابقا على منحة تساوي الأجر الأدنى المضمون في نظام أربعين ساعة عمل في الأسبوع؛ أي أن مقدار المنحة المسندة لإطارين مسجديين مكلفين بنفس الخطة يمكن أن يختلف اختلافا كبيرا تبعا لاختلاف الدخل والوضعية المهنية لكل واحد منهما رغم أنهما مطالبان بنفس العمل. فقاعدة نفس الأجر لنفس العمل غير معتبرة هنا.
إنّ مقاربة ما يتطلبه عمل إطار مسجدي بما يسند له من مقابل مادي بمسمّى "منحة" تبين لنا أنه ليس هناك أي علاقة تناسب أو معقولية يمكن أن نجدها بينهما. وعلى سبيل المثال إذا نظرنا فيما يتطلبه عمل المؤذن للقيام بما هو مطلوب منه نجد أنه لا يقل عن ساعة واحدة لكل صلاة أي خمس ساعات للصلوات الخمس، وإذا أضفنا إلى ذلك الوقت الذي قد يستغرقه في التنقل خمس مرات في اليوم من محله إلى الجامع ذهابا وإيابا فإن عمل المؤذن اليومي يأخذ من وقته ما لا يقل عن ثمان ساعات يوميا يبذل خلالها جهده وطاقته وماله، ويكون متحملا لمسؤولية إقامة الصلاة التي لا قيام للدين إلا بها. وكل هذا البذل والعطاء من طرف المؤذن يقابل بما قدره 2400 مليما في اليوم الواحد (قسمة المنحة الشهرية على 30 يوم). فهل يمكن أن نجد أجرا أبخس من هذا؟
إنّ لنا أن نسأل ونتساءل عن الخلفية الفكرية والمقاصدية التي يُعامِل بها النص القانوني الإطارات المسجدية والذين لم تزد منحهم المذكورة آنفا مليما واحد منذ ثماني سنوات؟ هل يوجد خطأ أو خلل ما في الاعتبارات والأسباب التي تُُُعامَل بها الإطارات المسجدية يستوجب التصحيح والإصلاح؟
إنّ من يستقرئُ الأمر المتعلق بالإطارات المسجدية والصادر قبل الثورة تحت عدد 1690 في 8 نوفمبر 1989 والأمر عدد 1050 لسنة 2017 الصادر بعد الثورة والجاري به العمل حاليا يتبين له أنهما يصدران من نفس الفكر والتوجه. وهذا التوجه يفهم منه:
أولا: نظرة متوجسة للدين والقائمين عليه تؤدي إلى عدم إعطاء الدين أهمية تذكر، والسعي لتهميش إطاراته. ويتضح ذلك من خلال عدم اعتبار ما تقوم به الإطارات المسجدية لإقامة شعائر الدين وتعليم المسلمين عملا ذا مصلحة عامة يثمن ويستحق أجرا. بل كل ما تمنحه الدولة مقابله هو "منحة”، والمنحة هي العطيّة التي تمنح دون عوض أو مقابل لها، كالمنحة المدرسية مثلا التي تعطى للطَّالب مساعدة له على الدِّراسة.
ثانيا: بخس المهام الدينية التي تقوم بها الإطارات المسجدية من خلال عدم إنصافهم فيما يستحقون واعتماد سياسة أدنى الأجور، وإن أمكن بدون أي أجر أو عوض مالي. فالأجر الأدنى المضمون والذي لا يمكن النزول تحته - ويدفع حسب مجلة الشغل للعامل المكلف بأعمال لا تتطلب اختصاصا مهنيا - هو أقصى ما يُدفع للإطارات المسجدية مهما كانت الخطة التي كلفت بها ومهما علت كفاءتها وتخصصها.
ثالثا: اعتماد سياسة التفقير والتجويع للإطارات المسجدية حتى يكونوا في وضع الاحتياج وقلة ذات اليد بشكل دائم، مما يسهل تطويعهم وتدجينهم مع عدم تمتعهم بأي تغطية اجتماعية أوعطل قانونية، ويبدو ذلك من خلال سياسة أدنى الأجور المعتمدة ومن خلال أن كل ما يمنح للإطارات المسجدية هو في شكل إعانات ومنح هزيلة، وتبقى قيمتها مجمدة لسنوات لا تعترف بالتضخم ولا بزيادة الأسعار.
وإنه لمن المؤسف حقا أن تواصل حكومات ما بعد الثورة عن وعي أو عدم وعي منها سياسة العهد البائد لتهميش الإطارات المسجدية وتجفيف منابع التدين وإفراغ المساجد من الأكفاء وجعلهم يبتعدون عن العمل المسجدي. هذه السياسة التي كان من أبرز نتائجها انتشار الفكر الديني المتشدد وما تولد عنه من أعمال إرهابية.
إن تنظيم إقامة الشعائر الدينية بالمساجد يندرج ضمن الأمور العامة التي تتولي السلطة الحاكمة القيام عليها. والقيام على أمور الناس سواء تعلق بشؤون الدين أو الدنيا يُعرف في الإسلام بالولايات العامة، وهي من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها.
وقد نصّ جمهور الفقهاء على أن لمتقلّد الولاية العامة حق في الأجر من المال العام بما يتناسب مع عمله وحاجته، وذلك قياسا على العاملين على الزكاة الذي نصّ القرآن الكريم على استحقاقهم الأجر مقابل عملهم دون أن يربط ذلك بحالتهم سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فعملهم وحده هو سبب استحقاقهم الأجرة. ولو لم تفرض لهم هذه الأجرة لتعطلت المصالح وضاعت الحقوق، وربّما أدّى ذلك لأخذهم الرشوة أو غيرها من المال الحرام. (انظر: الموسوعة الفقهية، الجزء 45، مصطلح: ولاية).
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابنِ السَّاعدي المالكيِّ، أنه قال: ((استعمَلَني عمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه على الصَّدَقة، فلمَّا فَرَغْتُ منها وأدَّيتُها إليه، أمَرَ لي بعُمالةٍ (أي أجرة)، فقلتُ: إنَّما عَمِلْتُ لله، وأجري على اللهِ، فقال: خُذ ما أُعطِيتَ؛ فإنِّي عَمِلتُ على عهدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعَمَّلني (أي أعطاني أجرتي)، فقُلتُ مثلَ قَولِك، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: إذا أُعطِيتَ شَيئًا مِن غَيرِ أن تسألَ، فكُلْ وتَصَدَّقْ)) .
إن إسناد أجرة للإطارات المسجدية هو حق شرعي لهم، وواجب على المجموعة الوطنية أداؤه لكل من اشتغل بمصلحة عامة، وهذه الأجرة يجب أن تكون متناسبة مع عملهم وما يتطلبه من مؤهلات وجهد ووقت وتكلفة مادية ، ومتناسبة مع الأوضاع المعيشية مسايرة لتقلباتها، مع ضمان الحقوق المكفولة لكل عامل في التغطية الاجتماعية والراحة.
إن الوضع الهشّ الذي تعرفه الإطارات المسجدية حاليا في تونس لا يليق بحضارة الإسلام وبتونس بعد الثورة، ونكاد لا نعرف له مثيلا في بلد مسلم آخر، فعلى سبيل المقارنة نجد أن الإمام في الجزائر الشقيقة يتقاضى شهريا 34000 دينار جزائري مع وجود مطالب في الزيادة (انظر جريدة المشوار السياسي بتاريخ22 - 11 – 2018) وهذا المبلغ يوازي مقداره بالدينار التونسي وبسعر الصرف الحالي عشرة أضعاف مقدار منحة الإمام في تونس التي لا تتجاوز 90 دينارا.
أفلا يحق للإطارات المسجدية في تونس أن تنتفض على أوضاعها المهينة التي هي عار على تونس والتي لا ينبغي السكوت عليها. فالمؤمن عزيز لا يقبل المهانة في نفسه ودينه، قال الله تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ». فاللهم اهد من وليتهم أمور هذه البلاد إلى ما فيه خير الدين والعباد.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: