إن خلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الأخلاق الأساسية لدى أمّة المسلمين، ارتبطت به خيريتهم، وﻻ يمكن تصور أمّة المسلمين ﻻ تنهى عن منكرات يُعمل بها، كما ﻻ يمكن تصور أمة المسلمين ﻻ تأمر بمعروف ﻻ يُعمل به خاصة فيما كان مجمعا على وجوبه أو تحريمه. قال الله تعالى : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾[آل عمران: 110].
والمقصد من هذا الخلق أن يزول المنكر أو يقلّ وإن لم يُزل بجملته وأن يحلّ المعروف محلّه مما ينتج مجتمعا صالحا منظّما سعيدا نتيجة انتشار الخير بين أفراده. فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصلح المجتمعات وبدونه تنعدم الأخلاق ويتمكّن العصاة ويسود الفساد.
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وسائل العمل بهذا الخلق ودرجاته في قوله: « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ » (أخرجه مسلم). فالتغيير باليد يختص به وﻻة الأمور وكل من كانت له سلطة شرعية تجيز له ذلك، أما التغيير باللسان فيخصّ العلماء وعامة المسلمين.
وبيّن العلماء ضوابط وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهمها بالنسبة للمنكَر: أن يكون ظاهرا دون تجسّس وواقعا في الحال؛ وبالنسبة للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر: أن يكون قادرا على ذلك بلا ضرر يلحقه أو مفسدة أعظم يتسبب فيها إنكاره، وأن يكون عالمًا بالأمر المأمور به أو المنهي عنه، عالما بحال المأمور، عالما بمآﻻت ما يقوم به، مراعيا للأولويات؛ ويكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق وحسن الخلق مع المتابعة واﻻستمرار ما دام المنكر قائما.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين، وإذا تركه القادرون على القيام به أثم جميعهم. وقد يكون في بعض المواضع فرض عين على المكلّف كأن يكون في موضع ﻻ يعلم به إلا هو أو ﻻ يتمكن من إزالته إلا هو.
إن اكتساب العلم في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس غاية في حد ذاته، فليس التدين مجرد العلم بالدين، فالعلم وسيلة للعمل وليس مقصودا لنفسه، وﻻ عبرة بما يتلقاه المسلم من معارف في دينه إلا بقدر ما كان لها من أثر في عمله. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… إنَّ أفضَلَ النَّاسِ أفضَلُهم عمَلًا إذا فقُهوا في دِينِهم » (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط).
وفي هذا المجال نريد أن نسأل ونحاسب أنفسنا عن عملنا بخلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وﻻ شك أن المنكرات الظاهرة في مختلف دول المسلمين عديدة، ولكننا سنتوقف عند منكر واحد عدّه النبي صلى الله عليه وسلم ثاني أكبر الكبائر بعد اﻹشراك بالله وهو قتل النفس البشرية. قال عليه الصلاة والسلام: «أكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ باللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وقَوْلُ الزُّورِ، - أوْ قالَ: وشَهَادَةُ الزُّورِ -» (أخرجه البخاري).
فمنذ عدّة سنوات تعيش أوطان المسلمين مشاهد مأساوية يستعر فيها التقاتل بين دول مسلمة، وداخل أكثر من دولة مسلمة في حروب أهلية تتساقط فيها أرواح آﻻف المسلمين بيد إخوانهم في الدين وفي الوطن، وتُخرّب الأوطان ويُدمّر المعمار والعمران، وتُشرّد العائلات والأطفال، ويصيب البلاد من الدمار والهلاك ما لم يصبها من أعدى أعدائها.
هذا التقاتل والتدمير لأوطان المسلمين بأيدي أبنائه يقع من أجل نزاعات سياسية. وقد تعلمت اﻹنسانية من خلال تاريخها الطويل أنّ النزاعات ﻻ تحلّ بالحروب، بل إنّ الحروب تؤجّج النزاعات والعداوات فضلا عما تتسبب فيه من تخريب للأوطان وإزهاق للأرواح. إن حلّ النزاعات بالتقاتل هو عمل يغيب فيه العقل وﻻ ينحدر إليه سوى الأغبياء، وبالنسبة للمسلمين فإنه عمل يغيب فيه العقل والدين معا.
من المفترض أمام هذا المنكر وثاني أكبر الكبائر أن يقوم من كان قادرا على ذلك من المسلمين بالنهي عنه بالضوابط والآداب المقررة، وفي مقدمة هؤلاء وﻻة الأمور والعلماء. ويتطلب ذلك إجرائيا اللقاء المباشر مع من وجب نهيهم، وإذا تعذر اللقاء المباشر فبكلّ الوسائل المتاحة للتواصل معهم، كما يتطلب ذلك تكرار النهي واستمراه دون توقف ولو بشكل يومي ما دام القتال متواصلا والمنكر قائما، وأن يصل النهي لكلّ من تعلّق به المنكر سواء كان رئيسا أو مرؤوسا. فإذا ما وقع أمر أو نهي ولم يحصل التغيير والامتثال فإنه يجب العود واﻻستمرار طالما أنّ المنكر ﻻ يزال قائما حتى يزول، وﻻ تبرأ الذمة إلا بزواله. ولكن هذا ما افتقدناه في واقع الحال وافتقدنا استمراره وإن كانت هناك بعض المحاوﻻت المتقطعة.
إن تقاتل المسلمين مستمر منذ مدّة زمنية طويلة تكاد تتجاوز المدّة التي عرفتها الحربان العالميتان معا في القرن الماضي، ويتسبب هذا التقاتل في فوضى وخراب كبير على المستويين الداخلي والعالمي، وينذر بعودة اﻻحتلال الأجنبي وبآثار كارثية على مستقبل العالم اﻹسلامي، ولو كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجودا بالقدر والكيفية الضرورية لكان الحال أفضل بكثير مما هو عليه الآن. ففي الواقع هنالك نقص كبير وخطير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممن يلزمهم هذا الواجب من القادرين عليه. هذا النقص أدّى إلى اﻻستهانة بأكبر الكبائر بعد اﻹشراك بالله وهي قتل النفس البشرية بغير حق. يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَن قاتَلَ تَحْتَ رايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أوْ يَدْعُو إلى عَصَبَةٍ، أوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فقِتْلَةٌ جاهِلِيَّةٌ، ومَن خَرَجَ علَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يَتَحاشَى مِن مُؤْمِنِها، ولا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فليسَ مِنِّي ولَسْتُ منه» (أخرجه مسلم).
وهذا النقص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه إعانة للعصاة على المعصية، واندراس لمعالم الدين، وإلف للمنكرات، واستهانة بالدماء والأموال، مما يؤدي إلى منع نزول البركات والخيرات واستجابة الدعاء وعقاب الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الناسَ إذا رأَوا المنكرَ فلم يغيروهُ أوشكَ أن يعمهُم اللهُ بعقابهِ» (أخرجه أحمد في مسنده).
إنّ الواجب على المسلمين أن يشعروا بخطورة ما يقع في أوطانهم وهم في شبه غفلة أو غيبوبة عنه، وأن يتآمروا بالمعروف، وأن يتناهوا عن المنكر قبل أن يبعث الله عليهم عقابا من عنده. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «والَّذي نَفسي بيدِهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثمَّ تَدعونَهُ فلا يَستجيبُ لَكُم» (أخرجه الترمذي).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: