فتحـي قـاره بيبان - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11918
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لئن كانت قرارات التكامل الاقتصادي العربي تحتاج إلى مبادرات عربية أكثر انسجاما وكثافة لتجسيدها على ارض الواقع، فان تحقيق هذا التكامل الاقتصادي نفسه يحتاج إلى إعادة نظر وإلى خطة عملية فعالة كي يبنى على أسس سليمة و صحيحة. وهذا ما سنحاول الإسهام فيه بهذا المقال.
في عصرها هذا الذي يهيمن عليه النظام الرأسمالي، والذي انطلقت فيه القوى الاقتصادية عملا بمبدأي التنافس الحر والإنتاج غير المحدود بكل ما لديها لكسب السوق، كان لأسلوب التحالفات الاقتصادية وللمؤسسات الصناعية الكبرى دور هام في حفظ النظام الرأسمالي وإنقاذه من الانهيار الذي تنبأ له به البعض. فالمؤسسات الكبرى يمكننا أن نعتبرها بحق منقذة للنظام الرأسمالي. فهذه المؤسسات التي من بينها الشركات متعددة الجنسيات بسيطرتها على مصادر الطاقة والمواد الأولية إلى جانب التقنيات المتطورة وتوفير اليد العاملة وبتحالفها مع غيرها من المؤسسات الصناعية وتعاملها مع السوق بطرق مخططة ومدروسة تشكل قوة إنتاج اقتصادي متكامل وقلاعا اقتصادية تكاد لا تقهر.
فالقوة الاقتصادية في عصرنا هذا تتأتى عن طريق التحالفات والتكتلات الاقتصادية. وقد أدركت الدول الرأسمالية أنه لا بقاء لها ما لم تتحد لحماية مصالحها الاقتصادية. فهذا العصر هو عصر المجموعات والقوى المتكاتفة: عصر المؤسسات الاقتصادية الكبرى.
وتعتبر التجزئة في الوطن العربي عنصر الضعف الأساسي في الاقتصاد العربي. وهذه التجزئة العربية تدعم بقاء تبعية الدول العربية للدول الرأسمالية أكثر فأكثر،حيث أن أي دولة عربية بمفرها تبدو عاجزة عن التخلص من التبعية الاقتصادية وبناء اقتصاد مستقل ومتكامل قادر على تلبية حاجياتها.
ولا يعتمد واقع التعاون الاقتصادي العربي في زمننا الراهن على إستراتيجية مدروسة، ويقتصر في معظم الحالات على المبادلات التجارية أو تبادل العمالة أو استثمار الأموال العربية داخل الوطن العربي في مشاريع غير منتجة في غالب الأحيان. وهذا الأسلوب في التعاون يعتبر ضعيف النتائج شكلي المحتوى لا يجعل العرب يتقدمون نحو الوحدة و التكامل الاقتصادي فعليا، فهو يبقي على تشتت القوى الاقتصادية العربية ولا يحقق التكامل الفعلي بينها ولا يقدم لها أي منطلق حقيقي للنمو وتظل فوائده جزئية ومحدودة.
والحل حسب رأيي، يكمن في توحيد القوى الاقتصادية والكفاءات العربية. وهذا التوحيد لا يكون بمجرد القيام بعمليات تبادل اقتصادي أو بناء سوق عربية مشتركة، ولكنه يكون في شكل مؤسسي أي في بناء مؤسسات صناعية كبرى تساهم فيها كل الدول العربية وتشمل نشاطاتها كامل الوطن العربي وتلبي الحاجيات العربية الاقتصادية مع الانسجام والتكامل بينها وبين بقية المؤسسات والقطاعات. وهي التي بإمكانها فعلا أن تحقق المناعة والاستقلالية للاقتصاد العربي وتلبي مطامح الجماهير.
فلا مفر للعرب من بناء المؤسسات الصناعية الكبرى التي تختص كل واحدة منها بقطاع اقتصادي معين، وتساهم الدول العربية في بنائها كل بما عنده سواء من الأموال أو المواد الأولية أو الكفاءات المهنية أو التقنيات. وبإمكان هذه المؤسسات أن تسيطر على القطاع الاقتصادي الذي تنشط فيه بكامل الوطن العربي فتتولى تنظيمه وتشرف على عمليات الإنتاج والتسويق فيه. وهذه المؤسسات التي يبعثها العرب لأنفسهم بإمكانها أن تحقق استقلاليتهم الاقتصادية وتوفر حاجياتهم وتجمع بين العرب وتقودهم نحو تحقيق الوحدة السياسية.
ويمكن أن يتجه العرب في مرحلة أولى نحو بناء المؤسسات التي تمثل الركيزة الأساسية لكل اقتصاد والتي توفر المواد الأولية التي تنهض عليها الصناعات الأخرى الأكثر تعقيدا. ونذكر كمثال على ذلك بناء مؤسسة عربية لاستغلال النفط و الصناعات المرتبطة به، فتكون هذه المؤسسة بمثابة الدماغ المفكر للدول العربية في قطاع النفط و تشرف على استغلاله وتكوين الكفاءات المهنية التي يتطلبها وصناعة قطع الغيار والمواد الأولية اللازمة له وتحقيق سياسة اقتصادية عربية مشتركة في هذا القطاع. وبفضل هذا الشكل من التحالف الاقتصادي يتحقق للعرب استغلال أفضل وأكثر مردودية للنفط العربي بأيد وكفاءات و أموال عربية ولصالح كل العرب. ويمكن بعث مؤسسات اقتصادية أخرى تتعلق باستغلال قطاع الثروة الزراعية والمعادن وبناء معامل عربية مشتركة توفر للعرب ما هم عاجزون فرادى عن توفيره لأنفسهم كالصناعات الحربية مثلا التي هي قطاع حساس و خطير وذا أولوية في نفس الوقت.
وبفضل المؤسسات الصناعية و المعامل العربية الكبرى يمكننا أن نوفر الحاجيات الاقتصادية لكل البلدان العربية والإسلامية حيث تسوق المنتجات العربية في أرض العرب والمسلمين ولصالحهم.
إن هذه المؤسسات الصناعية الكبرى بإمكانها أن تقضي على تشتت قوى الإنتاج العربية وأن تخلص العرب من التبعية الاقتصادية والتدهور الاقتصادي وتحقق انطلاقة جديدة للاقتصاد العربي والإسلامي بفضل التكامل والتحالف الاقتصادي الذي هو حاليا عنصر قوة وهيمنة النظام الرأسمالي والذي يمكّنه من استغلال غيره من الشعوب الضعيفة.
ويمثل هذا الخيار تحديا كبيرا أمام العرب تجاه العالم الرأسمالي الذي ألف استغلالهم مستغلا تفرقهم و تشتتهم. و لكن إذا آمنّا بأنفسنا و بضرورة حماية مستقبلنا أمام الوضع العالمي الذي يهددنا، فلا بد لنا من الشروع منذ الآن في الدراسات التي تأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات وتقرأ كل الحسابات الممكنة ولا بد من وضع إستراتيجية بعيدة المدى تراعي حقائق الواقع وطبيعة قوى الإنتاج الموجودة و الوضع العالمي و الاستراتيجيات المضادة. ولابد للعرب من بناء المؤسسات الصناعية والاقتصادية الكبرى التي هي الطريق الوحيد نحو تحقيق تكامل اقتصادي عربي حقيقي. قال الله تعالى: "وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" (سورة المائدة، الآية 2).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
20-01-2009 / 16:43:03 أبو محمد