فتحـي قاره بيبـان - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3927
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من القضايا المطروحة على المسلمين قضية الفهم الصحيح للدين وتحديد المؤهلين لتقديم ذلك الفهم ولتعليم المسلمين دينهم.
إن عدم إعطاء هذه القضية ما تستحق من أهمية ترك المجال مفتوحا أمام أعداء هذا الدين والجهّال للترويج لفهم منحرف وضال للدين استقطبوا له أعدادا كبيرة من شباب هذه الأمة وتسبّبوا من وراءه في إراقة دماء المسلمين والتقاتل بين أبناء الملّة الواحدة باسم الدين ونشر الخراب والفساد في أوطان المسلمين بشكل يكاد المسلمون لم يشهدوا له مثيلا في تاريخهم.
ولذا فإنّنا بحاجة لأن نذكّر أنفسنا بما أمر الله به في خصوص فقه الدين أو فهمه، وفي خصوص تعيين المؤهلين لتعليم المسلمين دينهم. فما هي منهجية الإسلام في فقه الدين و في تعليم المسلمين دينهم؟
تشير هذه الآية إلى أنّه في كل فرقة من المؤمنين (الفرقة: الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن) ليس من المصلحة أن يتوجه كل أفرادها إلى عمل واحد ينفروا إليه جميعا وﻻ يبقى أحد للقيام بالأعمال الأخرى التي تحتاج إليها جماعة المؤمنين.
وتبين هذه الآية أن من بين الأعمال التي يجب أن تتفرغ لها وتتخصص فيها طائفة من كل فرقة من المؤمنين (طائفة: جماعة دون أن تتقيد بعدد فذلك منوط بمقدار الحاجة) عملا يختصّ بالتفقّه في الدين أي حصول الفهم في الدين والذي هو ليس بالأمر الهيّن بل هو: "أمر دقيق المسلك ﻻ يحصل بسهولة". (1)
كما تبين هذه الآية أن هذه الطائفة هي الموكّل لها تعليم المسلمين دينهم ووعظهم وانذارهم بما فقهوه من الدين: «وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». وهذه الطائفة هي التي نسميها: علماء الدين.
إن التفقّه في الدين ﻻ يكون إﻻّ طبق منهج حدّدته النصوص الشرعية ذاتها. وهذا المنهج متضمّن في علم أصول الفقه وقواعده التي تصل إلى خمسمائة قاعدة أصولية قطعية مستمدة من النصوص الشرعية. فمن ذلك مثلا وجوب تمكّن الفقيه تمكّنا تاما من اللغة العربية. قال الله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (يوسف 2). ومن ذلك فهم النصوص الشرعية في علاقتها ببعضها وليس بشكل منفصل. قال الله تعالى: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» (البقرة 84). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ﻻ يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه».(أخرجه أبو نعيم الأصبهاني)
والقواعد الأصولية قسمها العلماء إلى عدة أقسام فمنها قواعد في الحكم الشرعي وقواعد في الأدلة الشرعية وقواعد في تفسير النصوص وقواعد في اﻻجتهاد والتقليد وقواعد في التعارض والترجيح وغيرها.
إن دور العلماء دور أساسي في الإسلام ﻻ يمكن الإستغناء عنه. وتكوين العلماء في الدين هو واجب كفائي على كل فرقة من المسلمين إذا لم تقم به فإن كل أفرادها يتحملون الذنب في ذلك. وإذا فقد العلماء يحلّ محلّهم الجهّال الضالين المضلّلين. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ﻻ يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا ». (أخرجه البخاري)
ومن الشروط التي يجب أن تتوفر في العلماء أن يتصفوا بصفة العدالة وتعني استقامة العالم في سيرته وأقواله وأعماله طبق أخلاق اﻹسلام وملازمة التقوى والمروءة دون اشتراط العصمة. فالعلماء بشر مثلنا وليسوا معصومين من الخطأ ومن ارتكاب الصغائر من الذنوب ولكن دون اﻹصرار عليها. وخطأ العالم وزﻻته يقع الردّ عليها من طرف العلماء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». (أخرجه الطبراني)
إن دور العلماء يجب أن يرتكز على العمل الجماعي والتعاون فيما بينهم كما جاء في الآية 123 من سورة التوبة التي تتحدث عن طائفة يتفقهون في الدين أي يقومون بهذا العمل بشكل جماعي وليس بشكل منفرد: «طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». فأمر فقه النصوص المقدسة وإدراك مراد الله منها ليس بالأمر البسيط حتى يقوم به فرد واحد مهما كان علمه وجهده.
وقد أصبح علماء المسلمين المعاصرون يتجهون نحو العمل الجماعي مثل ما يقع في مجال الفتوى في مجمع الفقه اﻹسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي أو في مجال التأليف الجماعي للكتب والمراجع الفقهية مثل: «الموسوعة الفقهية» أو «معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية» والتي شارك فيهما عشرات العلماء.
يقول الإمام العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: «من مقاصد الإسلام بثّ علومه وآدابه بين الأمة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها». (1)
وإذا كان تعلم العلوم الشرعية فرض كفاية على كل فرقة من المسلمين إذا قام به البعض سقط عن الكلّ، فإنّ تعلّم الضروري من الدين بالقدر الذي يحتاج إليه المسلم في إقامة دينه هو فرض عين على كل مكلّف. فيجب عليه طلب العلم بالأحكام الشرعية في باب من أبواب الفقه إذا كان يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها. قال الله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (النحل 43). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا بكتاب الله وﻻ تكذبوا بشيء منه فما اشتبه منه عليكم فسلوا عنه أهل العلم يخبروكم»." (أخرجه الطبراني)
وبالنظر إلى واقع المسلمين في بلادنا وزماننا هذا يتبين أنه ﻻ يتوفر لعدد كبير منهم سوى معرفة محدودة بأمور دينهم هي في كثير من الأحيان معرفة منتقاة أو ناقصة أو مشوهّة أو مشوّشة أو مغلوطة، والسبب في ذلك ضعف التعليم الديني في المناهج الدراسية وتغييب دور العلماء.
إن من واجبنا جميعا توفير الأسباب والظروف الملائمة كي نوفر لعامة المسلمين المعرفة الضرورية والصحيحة بدينهم من خلال تكوين العلماء تكوينا شاملا على أسس صحيحة وتوجيه خيرة أبنائنا لتعلم العلوم الشرعية، ومن خلال تنظيم تعليم الدين في مختلف مراحل التعليم العام ومضاعفة الساعات المخصصة لذلك وتعديل محتوى البرامج لتكون شاملة وغير مخلّة.
إن توفير المعرفة الصحيحة والشاملة بالدين هي الضمانة الوحيدة للمسلمين من كل انحراف وانحلال، وبها فقط سبيل قوتهم ونهضتهم، والعلم فريضة على كل مسلم، وهو يسبق العمل، قال الله عزّ وجلّ : «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد 12) صدق الله العظيم.
______________
(1) محمد الطاهر ابن عاشور "تفسير التحرير والتنوير" الدار التونسية للنشر، تونس 1984، الجزء الحادي عشر، ص 62 و59.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: