فتحي قاره بيبان - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1610
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ليس الهدف من اﻻنتخابات أو اﻻستفتاءات الشعبية معرفة آراء ومواقف الناخبين كما هو الشأن في استطلاعات الرأي مثلا، ولكن الهدف هو اختيار ما هو أفضل وأصلح من بين الأشخاص أو المشاريع المطروحة، وجعله نافذا قانونيا على أفراد الشعب محددا لمصيرهم. والمرجع في ذلك هو ما استقرت عليه أغلب أصوات الناخبين عملا بمبدأ اﻷغلبية. فهل أن اﻻنتخابات بنظمها المتعددة تنجح دائما في تحقيق هذا الهدف واختيار الأفضل؟
إن تحقيق اﻻنتخابات هدفها في اختيار الأفضل يتطلب توفر عوامل ﻻ بد منها في المترشحين وفي الناخبين وفي إجراءات العملية اﻻنتخابية.
فبالنسبة للمترشحين ﻻ بد أن تتوفر فيهم الشروط الدنيا أو الخلفية المطلوبة للمنصب الذي سينتخبون له، وهذه الخلفية يحددها المختصون الخبراء الموثوق بهم، ويجب عدم قبول ترشح من لم تتوفر فيه. وهذا ما ﻻ نجده مطبقا في كثير من الأنظمة اﻻنتخابية التي ﻻ تشترط في المترشحين ما يكفي من الشروط المتعلقة بالمنصب الذي سينتخبون له، وتكتفي بشروط عامة ﻻ ترتبط بشكل وثيق بوظيفة المنصب ومتطلباته من حيث التحصيل العلمي والقدرات والخبرة.
وعلى سبيل المثال نجد أن الدستور التونسي الصادر سنة 2014 وفي الفصل 53 منه ﻻ يشترط شيئا فيما يتعلق بالمستوى العلمي والخبرة للمترشح لعضوية مجلس نواب الشعب الذي سيمارس السلطة التشريعية، وتقتصر شروط قبول الترشح في: الجنسية التونسية، وبلوغ 23 سنة من العمر، وأن ﻻ يكون المترشح مشموﻻ بأي صورة من صور الحرمان التي يضبطها القانون. وهذه الشروط غير كافية لتولي منصب نائب الشعب وهو الذي سيمارس السلطة التشريعية التي ستشرع القوانين الحاكمة، والذي من المفترض فيه على الأقل أن يكون مختصا في المجال القانوني وما تعلق به وتتوفر فيه الخبرة التي تمكنه من صياغة القوانين وتنزيلها على الواقع.
أما الشروط التي يجب توفرها في الناخبين لكي تحقق اﻻنتخابات هدفها في اختيار اﻷفضل فهي:
أوﻻ: أن يكونوا مخلصين للهدف من اﻻنتخاب باختيارهم اﻷفضل والأصلح، فلا يكون اختيارهم عبثي أو مبني على المجاملة أو المصلحة الذاتية أو على العصبية أو معبرا على اﻻحتجاج أو الرفض وغير ذلك مما يفرغ اﻻنتخاب من مضمونه وهدفه.
ثانيا: أن يكون للناخبين علم كاف بالمترشحين وأن تكون لهم معايير أو طريقة موضوعية محددة على أساسها يحددون اختيارهم. وإذا لم يتوفر للناخبين ذلك فالأمر يشبه وضع من يُطلب منهم القيام بعمل دون أن يمكنوا من اﻷدوات الضرورية لإنجاز ذلك العمل.
وتتطلب اﻻنتخابات لتكون ذات مصداقية عدّة معايير على غرار أن تكون حرة ونزيهة وتتوفر فيها اختيارات فعلية للناخب؛ وليست انتخابات تنعدم فيها حرية الناخب، وتنعدم اﻻختيارات كما يجري في اﻷنظمة الشمولية التي تدعي تبني الديمقراطية ولكنها ﻻ تمارسها واقعا، أو كما يجري في اﻻنتخابات طبق قوائم مرشحين ﻻ تمكّن الناخب من فرز الصالح من الطالح منهم، أو طبق نسب محددة مسبقا للمترشحين على أساس الجنس أو غيره كما هو الحال فيما يسمى بالمناصفة بين الرجال والنساء.
أمّا طريقة احتساب الأصوات فإن اعتبار أن لكل صوت من أصوات الناخبين نفس القيمة ﻻ يعكس الواقع وﻻ يؤدي إلى نتيجة تحقق الهدف في اختيار الأفضل. فالواقع أن الفوارق في العلم والأخلاق والقدرات عديدة وكبيرة بين شخص وآخر في المجتمع الواحد، وليس هناك مجتمع كل أفراده متجانسون ومتشابهون في علمهم وفي قدرتهم على الحكم على الأشياء. وقيمة أصوات المشاركين في التصويت تختلف باختلاف علمهم وأهليتهم للحكم على موضوع التصويت. وقيمة كل اختيار في مسألة ما هي بقيمة العلم المتوفر لصاحبه عنها.
إن الواقع الملموس يثبت أن اﻻنتخابات بالصيغ التي تجري بها ﻻ تحقق دائما الهدف المرجو منها. ويمكن أن يصل عبرها للحكم من هم ليسوا بأهل للحكم من عديمي الكفاءة والأهلية. كما أن اﻻستفتاءات الشعبية يمكن أن تؤدي بالشعوب ﻻتخاذ قرارات ضد مصالحها الحقيقية. وفي التاريخ الحديث والمعاصر أمثلة كثيرة تثبت ذلك.
ومما يلاحظ في الممارسة الفعلية للانتخابات في مختلف دول العالم أن نسب المشاركة فيها هي في تناقص مستمر، ويدلّ ذلك على عدم اقتناع ورضا الناخبين على آلية اﻻنتخابات وما تؤدي إليه.
وفي دراسة أجراها معهد إيفوب Ifop في فرنسا سنة 2018 ونشرت بصحيفة "لوفيغارو" يرى 85 % ممن شملتهم الدراسة أن "المواطنين الناخبين" لا يمتلكون ما يكفي من السلطة. وأعرب 59 % من المشاركين في الدراسة عن موافقتهم على منح قيادة البلاد إلى "خبراء غير منتخبين" لتنفيذ الإصلاحات الضرورية.
إن احتساب أصوات الناخبين والأخذ بما اختارته الأغلبية ﻻ يدّل بالضرورة على أن ما وقع اختياره هو عين الصواب وهو الأفضل. والأغلبية ليست دائما على حق، وذلك لسبب واحد وجوهري هو: أن الصواب أو الحكم السليم على أي شيء إنما هو مترتب على حقيقته. ومعرفة حقيقة أي شيء يكون بالعلم أي بالمنهج العلمي الكاشف عن حقائق اﻷشياء، سواء قبل بها أغلب الناس أو لم يقبلوا. فعلى سبيل المثال: معرفة كفاءة شخص ما لعمل من الأعمال إنما تُعرف باختباره وامتحانه في ذلك العمل طبق مناهج اختبار تُجرى عليه من طرف المختصين؛ ومعرفة درجة حرارة الماء عند تبخّره إنما تعرف بأدوات علمية لقيس الحرارة. ولن يغير رأي أغلب الناس وإن كان مخالفا حقائق هذه الأشياء. فالعلم هو الفيصل وله الكلمة اﻷخيرة في الحكم على الأشياء.
إن العلم الصحيح بالشيء هو الذي يمكننا من الحكم السليم عليه، ومن اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب.
في إشارة إلى اختيار الله تعالى للذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا بموسى عليه السلام على أمم عصرهم ورد في القرآن الكريم أن ذلك كان على علم بأن أمثالهم أهل ﻷن يختارهم الله، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ ٱخۡتَرۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ عِلۡمٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الدخان: 32]. فاﻻختيار مبنى على العلم بأن من اختارهم الله أحقّاء بأن يختاروا وأن يرجحوا على غيرهم لاتّصافهم بمراد الله فيهم. (تفسير التحرير والتنوير، الجزء 25، ص 305)
فما نتعلمه من هذه اﻵية أن اختياراتنا – وكل أعمالنا تنبني على اختيارات – لن تكون مصيبة إلا بالعلم الصحيح بما نختاره ومدى تطابقه مع ما نريد.
وبالنسبة لشعب من الشعوب فإن العلم الصحيح باﻻختيارات المناسبة لأفراده وتطابقها مع أهدافهم ومصلحتهم ﻻ يمكن التوصّل إليه باحتساب أغلبية أصوات الناخبين دون اعتبارات أخرى، بل ﻻ بد من اﻻحتكام إلى منطق الأشياء وحقائقها المدركة بالعلم، واﻻحتجاج بذلك للحكم على اﻷشياء وتبرير اﻻختيارات. وهذا ﻻ يمكن الوصول إليه إلا بإسناد الأمر للعلماء المختصين والمتصفين بالعدالة في كل مسألة يطلب الفصل فيها، وهنا يكون قرار أغلبية العلماء المختصين قرارا محمودا وأقرب ما يكون للصواب خاصة إذا كانوا متكافئين ومتماثلين في علمهم ومنهجيتهم في معالجة الأمور. وقيمة كل رأي وكل اختيار في مسألة ما هي بقيمة العلم المتوفر لصاحبه عنها. قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43، الأنبياء: 7].
وجاء في الحديث: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الأَمْرُ يَنْزِلُ بِنَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ وَلَمْ تَمْضِ فِيهِ مِنْكَ سُنَّةٌ، قَالَ: " اجْمَعُوا لَهُ الْعَالِمِينَ " أَوْ قَالَ: " الْعَابِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاجْعَلُوهُ شُورَى بَيْنَكُمْ وَلا تَقْضُوا فِيهِ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ ". (أخرجه ابن عبد البرّ القرطبي في جامع بيان العلم وفضله).
ويقول نظام الملك الطوسي :«الرأي الصائب هو الذي تجمع عليه العقول المتكافئة بأن هذا هو الذي يجب فعله». (سياسة الملوك، ص 129).
إن نظام اﻻنتخابات بالصيغ التي يطبق بها في كثير من دول العالم ﻻ يُوفّق دائما في تحقيق هدفه في اختيار الأفضل، بل أصبح مصدرا للصراعات، ومنفذا يمكن أن يصل عبره للحكم من هم ليسوا أهلا له؛ وهو ما يحتم مراجعته كليّا وخاصة فيما يتعلق بالشروط التي يجب توفرها في المترشحين والمرتبطة بالمنصب الذي سينتخبون له مع التشدّد في ذلك.
---------------
فتحي قاره بيبان
مؤلف كتاب «سياسة الشعوب»
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: