فتحي قاره بيبان - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1435
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إنّ الولايات العامة بمختلف اختصاصاتها ومناصبها كالوالي أو الوزير أو الشرطي هي مهن ككلّ المهن الأخرى التي يساهم بها الفرد في تلبية حاجات مجتمعه، وتتطلّب ككلّ مهنة تعلّما وتكوينا معيّنا وتخصّصا وتفرّغا حتى تؤدى على أحسن وجه.
إنّ المسار الطبيعي والعادي لكلّ إنسان - بعد أن يأخذ نصيبه من التعليم العام الذي يؤهله للحياة وتحمّل المسؤولية - يتمثل في أن يتعلّم مهنة واحدة أو أن يتخصّص في مجال مهني واحد يعمل فيه ويساهم به في توفير حاجات مجتمعه وكسب رزقه. وهذا التخصّص في العمل الذي يجعل المرء يداوم على عمل واحد ويتفرّغ له يؤدى بصاحبه إلى المهارة والإبداع ويضمن الجودة في منتوج عمله.
لقد خُلق الإنسان ليستقرّ في مهنة واحدة أو مجال مهني واحد. وإذا تطبّع الإنسان بالعمل الذي تعلّمه وتخصّص فيه ومارسه لفترة من الزمن فإنه يندر أن يجيد بعده عملا آخر. وقد خصّص عبد الرحمان ابن خلدون لهذا الموضوع فصلا كاملا في مقدّمته وممّا جاء فيه قوله: «قلّ أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثمّ يحكم من بعدها أخرى ويكون فيهما معا على رتبة واحدة من الإجادة».
وأثبتت الدراسات العلمية أن المهنة تصوغ المرء وتشكّله. وممارسة أي مهنة لا تطبع فقط بعض السمات الجسديّة أو السلوكيّة للمرء بل تطبع عقله، حيث يوجد في طيّات القشرة الدماغية اختلاف فسيولوجي مُثبت علميا بين صاحب مهنة وأخرى. وهذا الاختلاف ليس فطريا ولكنه مُكتسب. فمن خلال التكوين وتراكم الخبرة المهنية تتغير بنية الشبكة العصبية لدرجة أن يصبح عقل صاحب المهنة متشكلا بحسب مهنته. (انظر المقال المنشور بمجلة Science & Vie عدد 1155، ديسمبر 2013 وعنوانه:
Découverte en neurologie : à Chaque métier son cerveau
أحوال في إسناد الوﻻيات العامة
إذا استعرضنا التاريخ البشري فيما يتعلق بكيفية تعيين ولاة الأمور بمختلف اختصاصات ومناصب الولاية العامة نجد أنها كانت تقع بالتغلب أو بالوراثة أو بالتعيين من طرف من يملك السلطة وبإرادة مطلقة غير مقيدة أو بإرادة مقيدة.
وفي العصر الحديث والمعاصر نجد أنّ من كان لهم دور في بناء دول جديدة، أو في استقلال دولهم من اﻻحتلال اﻷجنبي، أو في مقاومة أنظمة الحكم اﻻستبدادي وتغييرها تسند لهم الوﻻية العامة وفي أعلى مناصبها وكأنها حقّ مكتسب من خلال ما قاموا به.
ومن وسائل اختيار وﻻة الأمور ما يتم عبر آلية اﻻنتخاب. وهي آلية تكتنف ممارستها في عديد من الدول نقائص وإخلاﻻت. وأثبتت التجارب أنّ اﻻنتخابات بالصيغ والشروط التي تتم بها ﻻ تحقّق دائما الهدف المرجوّ منها في اختيار الأكفإ والأفضل، ويمكن أن يصل عبرها للحكم من هم ليسوا بأهل للحكم، وفي التاريخ الحديث والمعاصر أمثلة كثيرة تثبت ذلك.
ويتبين لنا من خلال هذا اﻻستعراض أنّ الوﻻية العامة وخاصة في أعلى مناصبها كالوزارات ورئاسة الدولة تسند في كثير من الدول بطرق تكتنفها النقائص، وﻻ تؤدي إلى ما يجب أن تكون عليه الأمور أي إسناد الوﻻيات العامة إلى مستحقيها وهم المؤهلون واﻷكفأ والأقدر لكل منصب بحسبه.
إن إسناد كثير من الوﻻيات العامة وفي المناصب العليا في عدد من دول العالم يكون لأشخاص لم يؤهلوا لها ولم يتكونوا فيها وليست لهم خبرة عملية بها، بل هم وافدون من اختصاصات مهنية أخرى كالمحاماة أو الطب أو المعلوماتية أو الأعمال التجارية. وهو ما دعا بعضهم إلى وصفهم بالهواة وتأليف الكتب في ذلك كالدكتور فتحي ليسير الذي ألّف كتابا عنوانه: «دولة الهواة» تتبّع فيه تجربة الحكم في تونس في السنوات اﻷولى التي تلت تغيير النظام السياسي الذي وقع في البلاد بعد سنة 2011، واعتبر فيه أن الهواية في السياسة تقود حتما إلى الهاوية. وكذلك محمد توفيق في كتابه: «الغباء السياسي» والذي حاول فيه أن يجيب عن السؤال: كيف يصل الغبيّ إلى كرسي الحكم؟
وبينما يعيّن وﻻة الأمور في المناصب العليا باﻻنتخابات نجد أن وﻻيات أخرى تتصف بدرجة عليا من اﻻنضباط ﻻ يعيّن فيها الأفراد إلا بعد إتمام التكوين التخصصي والنجاح في اﻻمتحانات والتربصات وهي وﻻيات الجيش والشرطة والقضاء.
التكوين في مناصب الوﻻيات العامة
إنّ أصحاب الكفاءات الذين تعتمد عليهم الدولة في تسيير شؤون البلاد ومواطنيها في مختلف مناصب السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية يجب أن يكونوا أولا وقبل كل شيء مؤهلين لتلك المناصب مهما كانت طريقة تعيينهم؛ فسواء تعلق الأمر بأعضاء مجلس الشعب أو رئيس الدولة أو الوزراء أو الولاة أو القضاة فإن أهليتهم وكفاءتهم لشغل تلك المناصب يجب أن تكون الشرط الأول والأساسي الذي لا يمكن تجاوزه.
إن المنهج الصحيح والسليم في تقلد الوﻻية العامة بمختلف مناصبها هو المنهج الذي ﻻ يجعل من الوﻻية العامة عملا تشريفيا أو وقتيا أو كنتيجة وحيدة للانتخابات بل هو عمل يتطلب ككل مهنة التكوين والتفرغ له والنجاح فيه.
إنّ السؤال المطروح حول: كيفية إيجاد وﻻة أمور في المناصب العليا يتصفون باﻹخلاص واﻻقتدار ليس له من جواب سوى: أن ذلك يكون بأن تعمل الشعوب على إعدادهم وتكوينهم من بين أبنائها المتميزين كما تكوّن أفراد الجيش والشرطة والقضاء؛ وﻻ تترك ذلك للحظّ أو الأوهام في أن يجود عليها الزمان بهؤﻻء القادة الأفذاذ.
لقد أصبحت الدول تقوم بأدوار أساسية ومتعددة في حياة المجتمعات البشرية، ويتطلب قيامها بهذه الأدوار عبر مؤسساتها توظيف عدد كبير من العاملين. ويصل عدد المشتغلين في الوظائف الحكومية في بعض الدول إلى ما يقارب ثلث عدد العاملين في تلك الدولة. وهذا الواقع الذي تعرفه أغلب المجتمعات المعاصرة يتطلب مزيدا من العناية والتنظيم للوﻻيات العامة بمختلف مناصبها.
وتحتم هذه العناية إحداث مؤسسات تكوين في مختلف اختصاصات ومناصب الوﻻيات العامة، وتشرف على هذه المؤسسات وزارة تنظم هيكلة التكوين واختصاصاته ودرجاته وبرامجه وشروط القبول والتخرج، بحيث أن مختلف مناصب الوﻻيات العامة تسند لمن تلقوا تكوينا مناسبا فيها ونجحوا فيه وكانوا مؤهلين للقيام بوظائفهم على أحسن وجه. وهذا أقلّ ما يمكن قبوله لتولي منصب من مناصب الوﻻية العامة.
وﻻ بد من وضع شروط للقبول في التكوين في الوﻻيات العامة كما توضع شروط للتكوين في أي مهنة أخرى. وهذه الشروط يجب أن تكون مرتبطة بنوعية المنصب الذي يقع التكوين فيه وشاملة لكل العناصر المكونة لشخصية اﻹنسان الجسدية والنفسية واﻻجتماعية بما في ذلك بيئة النشأة والتي هي عنصر هام وأساسي في تكوين الشخصية، فيقع التأكيد خاصة على النشأة في وسط عائلي مستقرّ وتلقي تربية أصيلة في التمسك بالقيم الخيّرة والعمل بها دون أي تخاذل أو ضعف.
وبالنسبة للتكوين في المناصب العليا من الوﻻيات العامة فإن الشروط تكون مشدّدة وأكثر من غيرها من المناصب عملا بالقاعدة الفقهية: «الشيء إذا عظُم قدره شُدّد فيه وكثرت شروطه»، فيمكن أن يُشترط النضج النفسي بمؤشراته التي يحددها علماء النفس، وتوفّر الصفات القيادية.
اﻻنتداب في مناصب الوﻻيات العامة
إنّ اﻻنتداب في مناصب الوﻻيات العامة يجب أن يكون على أساس الكفاءة والأمانة بمؤشراتها التي تدلّ عليها. ويُعتمد التدرج واﻻرتقاء في المناصب حسب سلّم وظيفي مرتبط بتوفر الشروط والقدرات واعتبار الخبرة والنتائج والمهارات المكتسبة للترقية إلى المنصب الجديد.
إنّ تحديد المؤهلات أو ما يسميه المختصون في الموارد البشرية بالخلفية أمر أساسي وضروري في تحديد هويّة كل عمل والشروط التي يجب أن تتوفر في من يسند إليه ذلك العمل حتى يقوم به على أحسن وجه.
جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بيْنَما النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أعْرَابِيٌّ فَقالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ ما قالَ فَكَرِهَ ما قالَ. وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حتَّى إذَا قَضَى حَدِيثَهُ قالَ: أيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ قالَ: هَا أنَا يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قالَ: كيفَ إضَاعَتُهَا؟ قالَ: إذَا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» (أخرجه البخاري).
يثبت هذا الحديث بأن لكلّ عمل أهله، وذلك في كل شأن من شؤون الحياة وخاصة فيما يتعلق بإدارة شؤون المجتمع. فإذا قام بالعمل من ليس له بأهل أي من لا تتوفر فيه المؤهلات والقدرات اللازمة فإن ذلك من أكبر المفاسد ومن علامات اقتراب الساعة.
إن القاعدة التي تنصّ على إسناد كلّ عمل إلى أهله أي للمختصين فيه وهم العالمون به القادرون عليه والمشهود لهم بذلك ممن سبقهم فيه من الصالحين من أهل الخبرة هي من المسلمات العقلية والحسية التي يشهد بها الواقع والتي ﻻ يمكن أن ينكرها عقل سليم، وهي محلّ إجماع كل المجتمعات والشرائع. فالعمل لا يستقيم إنجازه إلا إذا أسند إلى أهله. ومن الأمور التي تسبق قيام الساعة أن يسند الأمر إلى غير أهله فلا يستطيعون القيام به لقلة علمهم وافتقادهم التجربة والخبرة التي تكتسب من الممارسة، فإذا صار الأمر إلى أولئك في إدارة الشؤون العامة فإنهم سيسيئون إلى الأمة وسيجلبون الخراب لها.
وإذ يقـرّ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف بأن لكلّ أمر أهله، فإنه يقـرّ أيضا بأن المؤهلات المكتسبة هي التي تحدّد من هم أهل كلّ أمر وكلّ عمل من الأعمال على اختلافها وتنوّعها.
وقد حدّد النبي صلى الله عليه وسلم المؤهلات التي يجب أن تتوفر في من يؤم الناس في الصلاة والتي بحسبها يكون التعيين للمنصب وإذا وقع التساوي فيقدّم من كانت له مؤهلات أكثر من الخلفية المطلوبة لذلك المنصب، وهو بذلك ينبه المسلمين على وجوب إتباع هذا المسلك في كل الولايات المتعلقة بالشأن العام. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سِلْمًا، ولا يَؤُمَّـنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يَقْعُدْ في بيته على تَكْرِمَتِهِ إلا بإذنه» (أخرجه مسلم). فالمرجع الأساسي في إمامة الناس هو توفرّ المؤهلات المحدّدة للإمامة وهي أن يكون اﻹمام قارئا لكتاب الله، بل أقرؤهم لكتاب الله، وفي حال التساوي يقدّم من كانت له مؤهلات أكثر للمنصب.
إن مناصب الولاية العامة بمختلف اختصاصاتها لا يمكن أن تسند إلى أهلها إلا إذا حددت مسبقا مؤهلات كل منصب، وكان التعيين مرتبطا بتوفر تلك المؤهلات.
-------------
فتحي قاره بيبان
مؤلف كتاب «سياسة الشعوب»
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: