المقومات المهنية للخدمة الاجتماعية – الحلقة الثالثة
أ.د/ أحمد يوسف بشير – مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5109
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كان آخر ما طرحناه في الحلقة السابقة الحديث عن ظهور المهن والأعمال المهنية بالمعنى العلمي للمهن كاختراع مجتمعي في العالم المعاصر، وأن هناك مجموعة من الشروط والمقومات المهنية التي ينبغي أن تتوافر في العمل المهني Professional work، وعرضنا لبعض الرؤى حول معايير العمل المهني، وفيما يلي نستكمل ما بدأناه في هذا الصدد،
وهكذا تشير المحاولة السابقة ( المشار إليها في الحلقة الأولى ) إلى أن معيار التفرقة بين النشاط المهنى، وغير المهنى إنما تقوم على ركنين اساسيين:
1- الأسس العلمية والتطبيقية لمجال التخصص،
2- تفويض المجتمع العام ( الجمعيات المهنية – مؤسسات تعليم المهنة )
3- التصديق ( التقدير ) المجتمعي،
4- روح التضامن والتكامل بين أفراد المهنة الواحدة،
ولمزيد من الإيضاح حول المقومات الأساسية للعمل المهنى، أياً كان مجاله وطبيعته وتخصصه نورد فيما يلى محاولة أكثر دقة وثراء وشمولاً لتحديد تلك المقومات : (1)
1- الأهداف: بمعنى وجود هدف اجتماعى للمهنة تسعى إلى تحقيقه - أى هدف مشروع من جانب المجتمع - ويحس المجتمع بأهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه، وكلما كان هذا الهدف ذوأهمية أكبر لدى المجتمع، كلما ارتفعت تلك المهنة اجتماعياً وزاد تقدير المجتمع لها .
2- القاعدة العلمية المعرفية : theoretical Scientific base حيث ينبغي أن تكون للمهنة قاعدة علمية نظرية تستند إليها وتنطلق منها في ممارساتها العملية، بمعنى آخر توفر قدر كاف من المعلومات والحقائق والنظريات العلمية التى يمكن الاعتماد عليها لتحقيق هذا الهدف، بما يتيح إمكانية تفسير ما يتعلق به من ظواهر ووقائع، وتفهم كيفية التعامل معها .
3- تكنولوجيا خاصة بالمهنة : Special technology profession بمعنى أن تكون للمهنة مجموعة من المهارات المهنية الخاصة التى تمكن من استخدام وتطبيق القاعدة العلمية لتحقيق الهدف من وجود المهنة فى المجتمع .
4- التدريب الميدانى لممارس المهنة : Field training for the professional practitioner والذى يتم عادة على المستوى الجامعى لإعداد الممارسين المهنيين، على أن يستند هذا التدريب على تعليم وإعداد نظري كاف سابق كشرط أساسى لقبول المتدرب .
5- أن يتم هذا التدريب فى مؤسسات علمية خاصة ( مؤسسات الإعداد المهنى لممارس المهنة ) Vocational preparation institutions وهي مؤسسات خاصة بهذه المهنة بالذات ومعترف بها علمياً من جانب المجتمع، وتجدر الإشارة إلى أنه كلما تعاظمت القاعدة العلمية المعرفية للمهنة كلما تمكنت من تنمية تكنولوجيتها، وكلما طالت سنوات التدريب اللازمة لممارسة المهنة، ويتبع ذلك أن يشدد المجتمع في الاعتراف بالمؤسسات التعليمية لتلك المهنة، وبأهمية التصريح بممارستها .
6- تمارس المهنة فى منظمات اجتماعية Social organizations تخضع عادة لرقابة المجتمع وتقويمه .
7- المعايير الاخلاقية : Moral standards حيث ينبغى أن يكون للمهنة معايير أخلاقية خاصة تحدد السلوك المهنى، وتختص أساساً بالقواعد الأخلاقية التى تحكم كيفية استخدامه لتكنولوجية المهنة لصالح العملاء المستفيدين من خدمات وأنشطة المهنة .
8- معيار الربحية : Standard profitability حيث تقسم المهنة وفقاً لهذا المعيار إلى :
- مجموعة تسعى إلى تحقيق الربح بل وأفضل ربحية لصالح المنظمات التى تعمل بها ولصالح ممارسيها،
- ومجموعة أخرى لا تسعى إلى الربح بقدر ما تسعى إلى توفير خدمات لعملائها .
9- المكانة الاجتماعية للمهنة : Social status حيث أن لكل مهنة مكانة اجتماعية في المجتمع الذي أنشأها وأقرها ومنحها الشرعية اللازمة لوجودها، وتزداد تلك المكانة وترتفع كلما :
- كان هدف المهنة يهم أكبر عدد من المواطنين .
- كان هدف المهنة يشكل أهمية ضاغطة على المجتمع .
- كانت فترة التدريب اللازم لممارسة المهنة أطول وأصعب .
- ازداد الانضباط الأخلاقي لممارستها .
- حققت لممارسيها أفضل دخل ممكن .
- تمكنت من تحقيق الهدف من وجودها بفاعلية متزايدة .
وبعد فتلك كانت بعض المحاولات التى استهدفت تحديد الشروط المهنية التي ينبغي أن تتوافر في أى عمل أو جهد إنساني حتى يوصف بأنه عمل مهني ولا شك أن الحكم على عمل ما "بالمهنية " إنما يتوقف على مدى قربه أو بعده عن تلك الشروط والمعايير (2).
وتجدر الاشارة – فى ضوء تلك المعايير – الى ان من الطبيعى والمنطقى القول بان القيمة الحقيقية لاى مهنة انما تقاس بمدى ما عليها من الوفاء بالحاجات التى كانت وراء وجودها ومواجهة المشكلات التى فوضها المجتمع صلاحية العمل على حلها ومواجهتها، تلك الفاعلية التى تتوقف ضمن ما تتوقف على وضوح رؤية المهنة لتلك الاحتياجات والمشكلات من جهة وعلى بلورة الادوات الفنية المناسبة للتفاعل مع تلك المشكلات والاحتياجات من جهة ثانية، كما تتوقف تلك الفاعلية على مدى ترشيد الاستفادة من ابناء المهنة ( المتخصصين والممارسين ) بحيث يتحقق اكبر عائد ممكن لجهودهم باستخدام تلك الادوات لمواجهة تلك الحاجات والمشكلات المحلية والقومية من جهة ثالثة .
* وضعية الخدمة الاجتماعية فى ضوء المعايير المهنية :
فى ضوء هذا العرض الموجز لشروط العمل المهني، وللمقومات والخصائص التي تميز المهن في المجتمع الحديث، وتضفى على أنشطتها الصبغة المهنية يبرز التساؤل المنطقي والمبرر عن الوضع المهني للخدمة الاجتماعية، وإلى أى مدى تحقق الخدمة الاجتماعية شروط العمل المهني، وبالتالي يصبح الأخصائيون الاجتماعيون أعضاء مهنة، ويصبح عملهم ممارسة مهنية ؟
وبعبارة أخرى مدى مقابلة الخدمة الاجتماعية للمعايير المهنية ومطابقتها لها ؟
وقبل الشروع في محاولة الإجابة على هذا التساؤل نود الشارة الى أمرين نرى أهمية التنبه لهما في هذا الصدد هما :
الأمر الأول : ويختص بأنه لا توجد إجابة واحدة ومحددة لهذا التساؤل نظراً للحداثة النسبية لمهنة الخدمة الاجتماعية، حيث ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين (3)، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لاختلاف مراحل النمو التي تسير فيها الخدمة الاجتماعية من الناحية التطبيقية، وتأثرها بالاختلافات الإقليمية ( المجتمعات النامية، والمجتمعات المتقدمة صناعياً ) وبالاختلافات الأيدولوجية والمذهبية .
غير أن ذلك ينبغي أن لا يمنعنا من محاولة الاقتراب من إجابة أكثر تحديداً على هذا التساؤل، ولا يمنع من الكشف عما حققته الخدمة الاجتماعية بالفعل من مواصفات الممارسة المهنية آخذين فى الاعتبار تلك الاختلافات الإقليمية، والتنوعات الأيديولوجية والمذهبية،
أما الأمر الآخر : فيختص بأن التساؤل عن الوضع المهني للخدمة الاجتماعية ليس بالأمر الجديد، فقد أثير هذا التساؤل من قبل وفى مرحلة مبكرة من نشأة الخدمة الاجتماعية وتطورها في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أتيح لها قدر كبير من أسباب النمو والتطور، ومازال هذا التساؤل مطروحاً بدرجات متفاوتة إلى اليوم، حتى أن بعض الكتابات مازالت تصف الخدمة الاجتماعية بأنها "مهنة غير كاملة" Incomplete Profession أو "مهنة شبيهة " Semi-profession إذا ما قورنت بالمهن العريقة الأخرى كـ " الطب " و" المحاماة " .....وغيرها،
وتجدر الإشارة إلى أن الاعتراف بمهنة الخدمة الاجتماعية على المستوى الرسمي كان قد واجه صعوبات وعراقيل من داخل المهنة نفسها حيناً ومن خارجها حيناً آخر .(4)
- فمن الداخل كانت المعارك التي دارت بين المتخصصين في " خدمة الفرد " Case Work من جهة، والمتخصصين في غيرها من الطرق المهنية من جهة أخرى، كما دارت أيضا معارك حامية بين المتخصصين في المجالات العلاجية من جهة، والمتخصصين في المجالات التنموية من جهة ثانية .
- و مما أضعف - أيضاً - من الإعتراف بمهنية الخدمة الاجتماعية في وقت مبكر عدم الاتفاق على تحديد مكانها من مؤسسات التعليم العالي، فالبعض كان يرى أن يتم تعليمها خارج الجامعات العلمية، بينما يرى آخرون أنها يجب أن تكون جزءً من التعليم الجامعي، وثمة من يركزون على الجوانب النظرية والأكاديمية، ولذلك كانت الخدمة الاجتماعية في نشأتها الأولى كمؤسسة تعليمية إما مستقلة وإما ملحقة ببعض الجامعات إلحاقاً غير رسمي، ولذلك كانت مشكلة الاعتراف الأكاديمي هي الأخرى مثار خلافات مع التخصصات والعلوم والمهن الأخرى .
وللحصول على الاعتراف الأكاديمي والمهني الكامل بدأً من الأخصائيون الاجتماعيون سواء في البلدان الصناعية أو البلدان النامية في الإقرار تدريجياً بضرورة أن تحافظ الخدمة الاجتماعية على مكانتها داخل الجامعات وخاصة في الولايات المتحدة .
يتبـــــــع ..........
الهوامش :
======
(1)- عبد الحليم رضا عبد العال : " مرجع سبق ذكره "، ص : 116-117 .
(2)- ابراهيم عبد الرحمن رجب واخرون : "تنظيم المجتمع – اسس نظرية وتطبيقات عملية "، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، القاهرة، 1986، ص هـ .
(3) – هذا بالطبع لا ينفي أن هناك العديد من الأعمال والأنشطة التي تنضوي تحت الخدمة الاجتماعية بمفهومها العام قد مورست فى المجتمع الإنساني منذ أجيال عديدة وقرون مديدة تكاد تكون موغلة في القدم، حيث كانت تلك الجهود تتخذ عناوين متباينة كالإحسان أو البر، عمل الخير، مكافحة الفقر، المساعدات الحكومية، برامج الإصلاح الإجتماعي التي تتوخى التعامل مع ومواجهة المشاكل العامة للمجتمع ككل، إلا آن الخدمة الاجتماعية كمهنة متخصصة ظهرت في الفترة المشار إليها، وتم الإعتراف رسميا كنتيجة حتمية لاعتراف المجتمع الإنساني بفشل الجهود التطوعية التلقائية والمساعدات الارتجالية في مواجهة مشكلات المجتمع الحديث التي تزايدت وتعقدت وتنوعت خصوصا بعد ظهور الثورة الصناعية، وما تلاها من تقدم علمي وتكنولوجي تأثرت به كافة مجالات الحياة الإنسانية،
(4) - مختار عجوبة : " الرعاية الاجتماعية وأثرها على مداخل الخدمة الاجتماعية المعاصرة "، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1990م، ص ص : 87- 88،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: