الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم
لمستُ في المقال السابق(*) نقطةً أحببت أن أعلق عليها بما يُستفاد منها، وهي موضوع تصنيفِ المتحدثين بالعلم إلى ثلاثة أصناف، صنفٌ يحمل العلم ليدلى به إلى من هو أفقه منه، وصِنفٌ أفقه بالعلم من حامله، يشرحه ويوضحه للناس، والصنف الثالث هو حامل العلم الفقيه، وهو الذي يبيّنه للناس، وينزّله على الواقع تنزيلاً صَحيحاً، فيكون للناسِ هادياً ونذيراً، في واقِعهم المُتقلب.
المشكلة التي تعاني منها مصر اليوم، هي أن كثيرا من شبابها، خاصة، وياللأسف، الإسلاميين منهم، قد فقدوا بوصلة الحركة، ووقعوا فريسة التردّد والتخبّط، وأصابهم الوهن ومَسّتهم روح التخلف. والمُشلكة التي يعاني منها هؤلاء الشباب هي، في المقام الأول، قادتهم ومشايخهم الذين يسمعون لهم ويطيعون. فالأمر إذن، راجعٌ إلى القادة والمشايخ، وهو ما كان عليه الحال في كلِّ عصور الأمة، أن تنظر أفرادها إلى قادتها ومشايخها، تأخذ منهم النصيحة، وتستلهمهم الوجهة.
إذا نظرنا إلى ما يسمى بالتيارات الإسلامية، في ضوءِ هذا التقديم، وجدنا أنّ تجمعين منهما قد ضلاّ الطريق وانحرفا عن السِّوية، هما جماعةُ الإخوان، وتلك الفئة من أدعياء السلفية من أتباع الحويني علمياً وعماد عبد الغفور سياسياً.
أما الإخوان، فقد ذكرنا من قبل إنهم ليسوا جماعة إسلامية بالمفهوم التقليدي، ومن ثم، لا تجد لهم مشايخاً أو علماءً فقهاء من الطراز الذي وصفنا. فالإخوان "جماعة وطنية" ذات مرجعيةٍ دينية. ومن ثم، فإن مرجعيتها الجماعية ليست لها دليل ولا مُوجّه. ومرجعيتها الفردية تنتمي لأي ممن يرى أفرادها إتبّاعه، صوفيّ أو شيعيّ أو ليبراليّ أو سنيّ. ووصف الإخوان بأنهم جماعة وطنية فيه افتئاتٌ على الوطنية إلى حدٍ ما، إذ من أخص خصائص هذه الجماعة أنّ ولاءها للجماعة، قبل وفوق أيّ شئ آخر، سواء كان الإسلام ذاته أو الوطن. فما يراه قادتها مضراً للجماعة، على حسب محدودية رؤيتهم التي أثبتتها الأيام السابقة، اعتبروه مرفوض ولو كان مما دلت عليه الشريعة، أو مما أجمعت على وطنيته الأمة. وحسبك ما تراه من استعدادهم للتعاون مع السيد البدوى الوفديّ، رأس من رؤوس العلمانية في مصر، بينما سحقوا عبد المنعم عبد الفتاح، أخاهم في الجماعة لعقود متطاولة، لخروجه على ما يمليه عليهم ملأهم، ليس على سوء إتجاهه وعلمانية أفكاره، ثم لم يراعوا في خلاف الرجل إلاً ولا ذِمّة،. فهي إذن جماعةٌ مُغلقةٌ على نفسها، يحكمها ملأٌ لا علماء ولا فقهاء، فلا تمثل مسلماً سوياً. ومن هنا لا أعرف لماذا ينتمى إلى هذه الجماعة أي مسلمٍ يقصد وجه الله ورسوله؟ قادتها ليسوا من طلبة العلم، ولا من حامليه، ولا من شارحيه، ولا ممن يُبيّنه للناس، بل العكس، هم ممن يُغبّشه ويُموّهه على الناس. الإخوان، على أفضل تقديرٍ، جمعيةٌ خاصةٌ، تسعى لسيطرة رؤوسها على عدد كافٍ من المقاعد البرلمانية، يمكنهم من تنفيذ برامج خاصة بهم، لا نعرف ما علاقتها بالإسلام، أو بالمسلمين. هم أقرب، إن شئت، إلى وصف ماسونيّة المسلمين، منهم إلى أي توصيفٍ آخر.
أما عن الفئة الثانية، فئة أدعياء السّلفية، فأمرها أشد صعوبة وأكثرُ تعقيداً، إذ إن لها مشايخ من ذوى الطواقي والجلابيب، ليسوا قادة كالإخوان. فوهمُ إتباع الدين عند شبابها أشدّ إيهاماً منه عند أبناء الإخوان. لكنّ الأمر هو أنّ مَشَايخَهم يقعون بين أحد الصّنفين، حَاملي الفقه، أو شَارحيه، على أحسن تقديرٍ، ليس فيهم، يعلمُ الله، من العلماءِ الفقهاء، ممّن يبينون للناسِ العلم ولا يكتمونه. وقد مَحّصَ الله هؤلاء المَشايخ مؤخراً، كما محّصَ قادة الإخوان، فظهرَ ما قلنا واضِحاً جَلياً إلا لصاحب هوى أو جاهلٍ. فهولاء إذن مجموعة من المشايخ، من الدرجة الثانية والثالثة، يتحكّمون في هذا الجمّ الغفير من الشباب، الذي لا يفرّق بين درجات العلم، ويحسب أن حفظَ عددٍ من الأسانيد والمَسانيد هو ما يجعل صاحبه عالماً فقيهاً! وهي إذن مجموعة من الشباب الذي ليس له وجهة هو موليها، يأتي منها بخير للإسلام عامة، ويعيده إلى يدّ من ارادوا أن يَحكموا به، ومن ثم، هم لم يتعاونوا على البرّ والتقوى، في مفهومه الكليّ، التعاون الأكبر، ألا وهو إزالة الطُغيان، ومحاربة الاستبداد، واقتصروا على التعاون على جزئيات الشريعة ومفرداتها، كأحكام اللباس والهيئة الظاهرة.
والله لا أجد ما أوجّهه لهذا الشباب، الذي أراد أن ينتمى للإسلام علماً وعملاً، فضلّ الطريق إلى أحد هاتين الفرقتين، ناصحاً مخلصاً، إلا إنه قد آن الأوان وحان الوقت لإعادة النظر في هذا الإنتماء. فإن الله سبحانه لم يتعبدنا بجماعة، ولكن بدينٍ، ولم يلزمنا ببيعة لأفراد، ولكن ألزمنا ببيعة لله ورسوله على منهاج النبوة. فلا تغرنّكم هذه البيعات، وهذه التسبيحات، التي يهيؤون لكم إنها قطعّيّةٌ مُلزمة، فهي، في شرع الله، لا قيمة لها إلا إن كانت على إتباع شرع الله وهَدي رسوله، حقّ الإتباع والاهتداء، وما بُعد ما بين هاتين الفئتين وبين هذا المَطلب العزيز.
لئن كانت مصر تحتاج إلى ثورةٍ على الاستبداد وخروجٍ على جماعة العسكر، فإنّ الخطوة الأولى هي أن يقوم شبابُ هذه الجماعات بتصحيح الوجهة، والاستيقاظ من سُباتٍ عميق، والوقوف في وجه هؤلاء القَادة وأولئك المَشايخ، قبل أن يتحرّك قطارُ الثورة مرة أخرى، وهم، كالمرة الأولى، في غفلةٍ مُعرضون.