الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم
أذكر حين كنا صِغاراً، في أوائل الخمسينيات، وقت أن فَرِح الناس، وفرحنا لفرَحِهم آنذاك، بإنقلاب 1952، ولمّا اختفى عَسكر الإنجليز من المباني الحكومية، والذين تعودنا رؤيتهم في نهاية الأربعينيات. لكن كان والدى، رحمه الله، ممن لم يفرح مع الفَرحين، إذ كان يردّد منذ عام 1953، أن لا ضَمان للعَسكر، وأنهم أصحاب مكر وخدعة، وأنهم لا يطيقون أن يقوم حكمٌ مدني حرّ، يدير البلاد مهما كانت صبغته، وفدىّ علمانيّ، أو إسلاميّ إخوانيّ. وكان ما تنبأ به الوالد رحمه الله، فقد أزاح عبد الناصر الوفد، صاحب الأغلبية آنذاك، من السياسة المصرية، وتحالف مع الإخوان، موهماً إياهم أنه معهم فيما يأملونه من تولى حقائب وزارية سيادية، ثم، بعد وطّد أركان نظامه العسكريّ ومكنَ لنفسه في الحكم، بطش بهم بطشة خسيسة، أودعتهم السجون عقوداً، وأعدم منهم علماء أكابر مثل عبد القادر عودة، الذي قاد مظاهرة 54، والتي كان فيها النداء "إسلامية إسلامية، لا شرقية ولا غربية"، ثم في 1966، حيث أعدم سيد قطب ويوسف هواش رحمهما الله.
سبحان الله، ما أشبه اليوم بالبارحة، إذا نظرنا إلى الوضع القائم حالياَ على أرض مصر. الفحوى والموضوع يتشابه مع ما كان من قبل، بلا خلاف. وإن كانت بعض التفاصيل لا تتطابق فهو لأن كلّ فترة تتمايز بخصوصياتها، لكن الجوهر لا يزال مطابقا، أن العسكر لا أمان لهم ولاذمة، وأنّ الإسلاميين أصحابُ سَذاجة في الرؤية وسَطحِية في النظر السياسيّ.
كان حسنى مبارك فاروق اليوم، وإن كان أشدّ فسادا وطغياناً، وأبناؤه وزوجته كانوا العائلة المالكة الحديثة. المسرح السياسيّ في 52 كان مسرحاً فيه الكثير من الديموقراطية العلمانية، بقيادة الوفد، الذي كان يحظى بتأييد الغالبية الشعبية. والمسرح السياسيّ في مصر قبل 25 يناير، كان أشبه بالسيرك الذي رُوِّضت حيواناته على يد مُدربها مبارك، وحِزبُه الوَطني كان مالكاً لأغلبية مزورة لا كأغلبية الوفد قبل 52.
إنقلاب 52 قام به عدد من ضباط الجيش، ممن ينتمون إلى إتجاهاتٍ عدة، شيوعية وليبرالية وإسلامية، جَمَعها عبد الناصر ليحشد بها قوى تساند إنقلابه، ثم باركه الشعب، إلى حين. بينما حركة 25 يناير، قام بها شعبٌ مقهورٌ مظلوم، لم يكن لأي من الإتجاهات أو ما يسمونها "بالقوى السياسية" دور في تحريكها، سواء العلمانية أو الإسلامية، ولم يكن الجيش طرفاً فيها، بل قاومها الجيش ما استطاع، وترك البلطجية وغيرهم يضربون الثوار، إلى أن أدرك أنه لا مجال للإستمرار في هذاالنهج، وأنه آن أوان تغيير الوجوه.
في عهد ما قبل 1952، كان هناك إحتلالٌ بريطانيّ، استبدله عبد الناصر بتبعية أمريكية، ثم سوفيتية، وفي عهد ما قبل 2011، كان، ولا يزال، ولاء الجيش وتبعيته لأمريكا، ولإسرائيل.
الوضع اليوم إذن، مثله مثل الأمس، إن لم يكن اسوأ وأخبث، ذلك أنّ الفساد اليوم أعمق وأنفذ.
الصراع الدائر اليوم هو ذات الصراع الذي دار بالأمس، قوى الجيش الغاصب المُعتدى، الذي تنكّر لشعبه بعد أن أعانه ورحب به، آملاً في التغيير، سواءاً في يولية 52 أو يناير 25. وما هذا إلا لأنّ طبيعة العسكر، كما اسلفنا من قبل مراراَ ـ تأبي الحكم المدنيّ، وتعتمد القوة الغاشمة، وتأبي أن تترك أمر الناس للناس.
الطريق الوحيد للخلاص من عبودية العسكر هي في مواجهتهم، لا مجاملتهم، هي في الوقوف ضدهم، لا في الوقوف قي صفهم، تحت أي شعارٍ كان. وأولئك الذين يعتقدون أنهم خادعوا العسكر إلى فرض الديموقراطية، بله الإسلام، ما يخدعون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون.
السذاجة التي طالما رسمت معالم سياسة الحركات الإسلامية، منذ أن ظنّ عبد الرحمن السندى أنّ عبد الناصر سيتركه يصفي حساباته مع الهضيبيّ، ثم يمكّن الإخوان من الحكم، هي نفسها التي نراها اليوم ترسم معالم سياسة الإخوان والسلفيين، الذين يعتقدون أن هناك أدنى إحتمال لأن يسمح العسكر بقيام دولة ديموقراطية، ولا أقول إسلامية، فهذا خبلٌ من الخبل.
وقد وعى العلمانيون الدرس من قبل، وعرفوا أنّ الحرية، حتى ولو بالعلمانية اللادينية، لن يكون لها نصيبٌ في الوجود تحت حُكم العَسكر، فكانت تحليلاتهم ومواقفهم أقرب للصواب من الإسلاميين، مع الأسف، إلا من هم من أمثال الشيخ الفاضل حازم أبو اسماعيل، الذي هو فلتة من فلتات العمل السياسيّ الإسلاميّ.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: