د.الضاوي خوالدية - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3735
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لقد صادف أن دخلت المدرسة الابتدائية بُعيْدَ خروج المستعمر المباشر وتولي بورقيبة الحُكم وإعلانه الإصلاح التربويّ 1958 إصلاحا علمانيّا ذا توجّه غربيّ ثقافيّ إيديولوجيّ مناقض لهوية تونس حتى أنّ واضعيه خبراء فرنسيون،اعتقادا منه أنّه سيُنشِئُ جيلا فرنسيّ العقل بورقيبي الهوى.
لكن ما كادت الستينات تنتهي(1968) حتى اكتشفت خلايا سياسية (آفاق- عامل تونسي) وبعض القوميين معارضين للمجاهد الأكبر، مطالبين بالحريات، فصُدم بورقيبة صدمةً عنيفةً آمرا بإعادة النظر في الإصلاح التربويّ. ومنذ ذلك الحين إلى نهاية الثمانينات والنظام التربوي يصدق فيه مثل سروال عبد الرحمان! ثمّ جاء إصلاح محمد الشرفي بأمر من بن علي، لكن تصور الإصلاح وأهدافه منبثقان من تفكير هذا الوزير اليساريّ (مجلة آفاق) مدعومًا ومؤيدا من رفاقه في باريس والجامعة التونسية. ولعلّ أقلّ ما يمكن ملاحظته في هذا الإصلاح مسخُهُ الهوية وتجديفه بالثقافة الأم وقيمها. ومما أتذكره أنّ منشورا من وزارة التربية وُجّه إلى المعاهد يطلب من الأساتذة إبداءَ رأيهم، لكن الغريب في الأمر أنّى زرت بعد يوم من وصول منشور الاستشارة مديرا صديقا لي فوجدته يلخّص الاستشارات، فقلت له لقد وصلت إلى المعاهد أمس فقط، إذن فماذا تلخّصُ؟ فقال لي ليس ذلك مهمّا،لأنّ السيد الوزير ورفاقه على وشك إتمام الإصلاح.والتقيت بعد يومين بأحد رفاق الوزير فقلت له: أين وصل الإصلاح؟ فقال لي:كدنا نفرغ منه، وهذه عناصره الأساسية:
- المعاهد النموذجية خاصة بأبناء الطبقة المتوسطة، ووظيفتها إعداد إطار تدريس وإدارة.
- المعاهد الفرنسية وبعثتها في تونس يؤمها أبناء الطبقة العليا الذين سيكونون وزراء أو رؤساء لتونس.
- الطبقة الشعبية الداخلية يتوجه أبناؤها إلى المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية كي يصبحوا عمّالا مختصين في معامل المستثمرين الأوروبيين الموعودة.
إنّ هذا الحيف والتمييز مع ما سبق ذكره من مَسْخٍ حضاريّ وتجديف بالدين ولائكية جعلت تونس أكبر مصنع للتطرف الإسلاميّ والسلفية الجهادية وأخواتها القراوسطية. وأخذت البلاد تنهار بسبب الفساد والتهريب والمافيا حتى أوشكت على السقوط النهائي،فثار الجياع البائسون، لكن المافيات والفَسَدَةَ تحيّلوا عليهم مُعلنين أنّ بن علي هرب، فظنّ البؤساء أنّ أبواب الجنة قد فتحت، وهم لا يعلمون أنّ جماعة بن علي رجعوا بقوة أكبر.
إنّ هذا الانهيار عهد الزين وأيام الثورة المخدوعة قد دمّر الطبقة المتوسطة، فأصبحت هي والشعبية صِنوين، وساد الفسادُ، فكانت سياسة تدمير كلّ قطاع عام في تونس وخصخصته، من ذلك جعلوا مدارس التعليم العام والثانوي والجامعيّ غير قابلة لأداء وظيفتها. فكان البديل المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة التي لا يقدر على وُلوجها إلا أبناء الفَسَدَةِ المهربين، لكن الناظر في برامج هذه المؤسسات الخاصة يجدها مضرّة حتى بأبناء هذه المافيات السائدة في هذا البلد المسكين.
تمّ ذلك في سياق تذمّر من كفاءة المدرسة العمومية وتراجع مستواها، تذمرا أفضى إلى البحث عن بدائل "مرضية" تضمن تعليما "متوازنا" للأبناء ولو كان مُكْلِفًا مُختلا. وقد تنبّه رأس المال لهذه الرغبة الملحّة، وسارع إلى الاستثمار فيها، ممّا ضاعف عدد المؤسسات التعليمية الخاصة، من ذلك أنّها بلغت سنة 2010-2011 109 مؤسسة، وتضاعف عددها سنة 2015-2016 ليبلغ 324 مؤسسة.
ولعلّ أبرز ما يمكن ملاحظته في منظومة التعليم الخاص ما يلي:
- ارتفاع التكلفة: التعليم الخاص تعليمٌ مُكلفٌ للأولياء، فهو يناهز 2000 دينار سنويا للتلميذ الواحد.
- إنّه مؤشر على الانتماء الطبقيّ والاجتماعيّ.
- إنّه يضرب مبدأ المساواة من أساسه، إذ يُعيد إنتاج النخب على أساس طبقيّ.
- جودتُهُ نسبيةٌ، وهي مُتفاوتةٌ بحسب المؤسسات: موقعُها وخدماتُها ونسبةُ مواردها وبرامجُها البيداغوجية.
- يضمن مرونة في الارتقاء وحظوظا أوفر في مواطن الشغل.
- فقّر التعليم الخاصّ المدارس العمومية من التلاميذ النجباء ممّا جعل مستوى المنافسة يتدنّى.
- قلّل التعليم الخاصّ من مكانة المعلّم وهيبته إذ صار مجرّد موظف في مؤسسة تجارية عليه تحمّل سلطة مُسيريها وتدلّل تلاميذها.
- صارت المعرفة وشهاداتها سلعةً مُعَيَّرَةً طُلاّبها كثرٌ.
- تنامى عند تلاميذ التعليم الخاص شعورٌ بالتفضّلِ على المدرسة والمدرّس باعتبارهم عِمادُها ومصدر تمويلها، فتنامى تبعا لذلك تنمّرهم وتطاولهم عليها.
- كثيرا ما عِيبَ على المدارس الخاصّة حرصها على كمّ التلقين لا كيفيته واعتمادهم على كتب فرنسية في الغالب لا تتناسب والبرامج الوطنية.
وإلى ذلك كلّه بدت وتيرة تطور المدرسة العمومية بطيئة جدا، فتنامى التنبّهُ إلى نقائصها معرفيا وبيداغوجيا وتسييريا ناهيك عن معمارها وشروط السلامة فيها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: