رسالة إلى السيد وزير الثقافة : الثقافة الثقافةَ
"إن سر تخلف تونس يعود إلى قتل الأفكار و إفساد الأخلاق و موت الكتاب و مسخ الهوية"
د.الضاوي خوالدية - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4363 Dr_khoualdia@yahoo.fr
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إن اقتراب يأسي من أن يطبق علي و اقتراب صبري من أن ينفد دفعاني دفعا إلى مخاطبتك باعتبارك المسؤول الأول عن إدارة شأن الثقافة ومخاطبة القلة القليلة التي ما تزال تحافظ على ركن ثقافي صغير نير يصد، و هو منهك، هجمة الجهل الوحشية و الغرائزية لعلكما تهبان لإعلان النفير الثقافي العام بغية إنقاذ تونس من التداعي و التفكك، و إليكما الخطوط العريضة لمقترحاتي القائمة على التشخيص و العلاج...
كانت سياسة نظام الحكم في تونس منذ 1956 قائمة على الاستبداد و الفساد و الظلم و التمييز السلبي بين الجهات تنمويا و تجفيف ينابيع ثقافة الشعب و فلكرتها لفائدة ثقافة المحتل الفرنسي مما أدى إلى وضع اجتماعي و اقتصادي و سياسي مأساوي، رسم جوانب منه أحمد التليلي في رسالته إلى بورقيبة 25/01/1966: " إن نظاما يفرض نفسه على شعب بالقوة ... محكوم عليه حتما بالفشل" " تكونت طبقة ثرية مترفة على حساب الشعب الذي يغرق في الفقر و البؤس، إنها طبقة تجمع الثروات و تبني القصور و تمتلك الضيعات و تهرب الأموال إلى الخارج..." و اختزله أنا الآن في نقاط أصبحت معروفة لدى الجميع منها :إفلاس اقتصادي رهيب – ديون يصعب تقديرها و يستحيل سدادها – بلايين من الدولارات هربت إلى بنوك أروبا – ظهور عصابات ذات علاقة بالنظام تنهب و تسمسر –استفحال الصراع بين أجنحة السلطة من أجل الحكم- اعتراء " المجتمع" تفكك و انهيار قيم و يأس من الحاضر و المستقبل و إحباط- إغراق السوق بصحف الفضائح و الدعارة و الجنس- إعلان الحرب الاستئصالية على كل ما هو عربي إسلامي تنظيمات و أفرادا و قيما و ثقافة و عبادة.
إن كانت أسباب حالنا المأساوية معروفة فان تكرارها الاستفهامي قد يكون مفيدا لأنها جميعها متضامنة في تدمير الشعب و "الدولة" : أيعود انهيارنا على جميع الأصعدة إلى نظام الحكم المستبد الفاسد أم تخلف الشعب أم الاستعمار بنوعه القديم و الجديد؟إن الأسباب الثلاثة مقدور على تحديها لأن النظام الفاسد لا يستفحل أمره و لا يستشرس إلا في بيئة اجتماعية موبوءة بالتخلف، و تخلف الشعب ليس قدرا لأن شعوبا كثيرة أكثر منا تخلفا استطاعت أن تنهض سياسة و علما و اقتصادا، و الاستعمار قد يكون حافزا على النهوض و التقدم لأن الشعوب الحية تتحدى العراقيل و الصعاب و الأعداء...
إذن أين يكمن السبب الحاسم الرئيس ؟إن المجمع عليه أن للمثقف الحق الملتزم بقضايا أمته دورا حاسما في النهوض بالأمم و الشعوب ( العلماء / المثقفون ورثة الأنبياء)لكن قد نبادر بسؤال : ألنا نحن التونسيين مثقفون؟إن المثقف هو الذي فهم المجتمع الذي يعيش فيه فهما عميقا و قدر على صياغة رؤية كلية تعي التناقض و تطرح البديل المتماسك لحسمه و تجاوزه، أو هو كما رسمه طه حسين عانيا نفسه : " أنا قلق دائما مقلق دائما، ساخط دائما، مثير للسخط من حولي"فما هي السمة الغالبة على مثقفي تونس ؟
ان أغلبهم سلة "مهملات" أو قفة حشيت مواد قد تصلح لإعداد أكلة محتواها "مثقفون" منتمون إلى حزب السلطة الاستبدادية ومنخرطون بالتالي في أجهزة التنفيذ وتناقل الأوامر، يكتبون ما توحي به السلطة ويبررون بقاءها ويمدحون سياستها ويهجون معارضيها ويثيرون قضايا هامشية لا أخلاقية قد تلهي الرأي العام عن الانشغال بمآسيه اليومية كطرح قضايا الشذوذ الجنسي ومراهقة الشيوخ والعجائز والدفاع المستميت عن مؤلفي كتاب جنس أو كتاب تجديف بالإسلام وكتناول أعراض كتّاب غير مرضي عنهم علهم يردون فينتقم منهم أو كتلميع وجوه بعض زملائهم بتوصية أو بدونها إعدادا لهم لاحتلال مناصب في "الدولة" ومثقفون منتمون أيضا إلى حزب السلطة لكن وظيفتهم الأصلية التعليم الجامعي أو التعليم الثانوي (ولو لا انتماؤهم لما انتدبوا) هؤلاء لا يجمعهم جامع إلا حزب السلطة، فهم وخاصة أساتذة الجامعات، في صراعات دائمة ومؤامرات نتنة، إنتاجهم الضحل لا يتعدى تنفيذ أوامر السلطة بتبرير قراراتها وتلميع وجهها والرد على ناقديها وكاشفي أوضاع شعبها... "ومثقفون" (مجازا) أو أرباع متعلمين بعضهم شاخ في كواليس وزارات الثقافة التي انتدبتهم أيام "الاستقلال" على عدم تجاوز بعضهم التعليم الابتدائي والبعض الآخر السنوات الأولى من التعليم الثانوي والبعض (الثاني) مجموعة أفلست في تعليمها العالي فتعاقدت معها وزارات الثقافة على تمكينها من مرتب قار مقابل امتهان "بوليس ثقافي" يجمع لها أخبار المثقفين ويثير الشغب "البناء" لها في الملتقيات الثقافية واليوميات الحزبية ويقذف المعارضين والمستقلين ويكتب في جرائد السلطة وما أكثرها ويتلقى دعما سخيا لمؤلفاته المدحية العكاظية ! هؤلاء وربما آخرون مذكورون أعلاه يسميهم طه حسين: "الخطافين مالئي الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي ضجيجا آخذين بسطر من هنا وصفحة من هناك هم مادة فعلية قائمة في أجهزة الدولة "الوطنية"
إن هذا الرهط " من المثقفين" يتصدر الآن شاشات الفضائيات و صفحات الجرائد و يتلقى الدعم السخي على ما يقول و يكتب رغم تفاهة المقول و ضحالة المكتوب ( هناك كتب تافهة تدعم بعشرات الآلاف من الدنانير ثم ترمى في المزابل ) و تروج وسائل الإعلام لكتبه السائلة جرائم في حق الفكر و الثقافة و اهانة للغة الضاد و أهلها و حضارتها، و تستدعيه وزارة الثقافة في المناسبات المهمة كي يتحفها " بجليل" الأفكار التي لا تكون غير مدح بارد و تسول مقزز و تزلف مقرف.
إن ما أصاب التربية و التعليم و الثقافة منذ سنة 1956 من ضحالة و تغريب و مسخ و خدمة مصالح حزبية ضيقة و فئوية قد صحر و جرف العقل التونسي و على ذلك مازال الشعب يعض بالنواجذ على بعض أبنائه المثقفين القليلين المؤهلين وحدهم، رغم هول الدمار،أن ينقذوا هذا الشعب بفكرهم كما أنقذه الشابي و الحداد و الحامي...
إن وعي هذه الفئة القليلة المثقفة العضوية المعرفة أعلاه رسالتها الوطنية لمهم جدا في النهوض بالشعب من كبوته التاريخية الحضارية بثلاثة شروط متكاملة :
-الشرط الأول : وزارة ثقافة وطنية فعلا ( أي ليست عنصرا من منظومة فاسدة مفسدة ) تدير بكل وطنية و جدية و مسؤولية و شفافية دفة ثقافة الإنقاذ مشركة فعليا أهل الثقافة الخلص المخلصين للوطن في التخطيط و التنفيذ .
-الشرط الثاني : استعداد المثقف العضوي للتضحية بالغالي و النفيس في سبيل النهوض بشعبه.
إن المنتظر من الوزارة و المثقف الحق ( الشرط 1 و 2 ) مدعومين بالشروع في تخصيب الساحة الثقافية ( الشرط 3) تأسيس مجلس وطني للثقافة و مجالس جهوية رسالتها إعداد و تنفيذ خطة عشرية، بداية، لنشر ثقافة الأنوار و النهوض بين أفراد الشعب، ألم يقل الشابي:
لا ينهض الشعب إلا حين يدفعه *** عزم الحياة، إذا ما استيقظت فيه؟
-الشرط الثالث: الأرضية الخصبة / المزرع / المغرس التي نزرع فيها و نغرس متأكدين إيناع المزروع و المغروس و إثمارهما، و هذه الأرضية هي تربية أصيلة حديثة و ثقافة تنشد المهارة و الإتقان و تكوين القوى العقلية و وسائل إعلام تدار من قبل عقول نيرة عميقة التكوين أصيلته و حداثيته واعية بثقل المسؤولية في الرفع من مستوى الشعب الثقافي و القيمي كافرة بالتغريب و الميوعة و الإباحية و السطحية و خدمة اللوبيات المافيوزية السائدة الآن.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: