بورقيبة و الاتحاد العام التونسي للشغل
أو إعقام حركة التحديث في تونس
د - الضاوي خوالدية - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4998 Dr_khoualdia@yahoo.fr
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
"عندما ذهب الحبيب بورقيبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج من الاكتئاب الذي أصابه 1970 قال له رئيس فريق الأطباء الأمريكيين: " حان الوقت لتسليم مقاليد الحكم لأبنائكم الذين ربيتموهم و تهتمون بهواية تحبونها كالموسيقى أو الرسم مثل ونستون تشرشل فرد عليه الرئيس حبيب بورقيبة:" انتظرت تونس ثلاثة آلاف سنة حتى ولد لها الحبيب بورقيبة" المعتبر نفسه أبا الأمة التونسية لذلك فهو لا يتردد في استخدام العنف إذا ما عجز الأبناء عن فهم سمو الأهداف التي يراها هو وحده لأنه أدرى بمصالحهم من الأبوين المباشرين، و هذه الأبوة للشعب التونسي ذات بعد ديني لأنه يعتقد راسخ الاعتقاد أنه هبة إلهية للشعب التونسي أو مرسل إلهي مكلف بإنقاذ تونس من الضياع و جعل هذا " الغبار من الأفراد" التائهين أمة واحدة اعتقاده أنّه " منة من الله لم يؤت مثلها الملوك و الخلفاء و أمراء المؤمنين في سالف الحقب".
إن هذه العبقرية الفذة الناضحة ألوهة و نبوة ( رغم عدم إيمانه بأي دين) تكفر بكل رأي مخالف بل ترى أن مخالفيها أو معارضيها شقان: شق مخدوع يمكن الصفح عنه إذا تاب و خضع " إذا رجعوا عن غيّهم" و اعتنقوا الحقيقة وهي التي يمثلها الحزب الدستوري أما البقية فحكم بورقيبة واضح تجاههم "هم كالجراثيم السامة التي تنتشر في خلايا الأبدان السليمة و لا سبيل للتغلب عليها إلا بقطع دابرها و اجتثاث أصولها بلا شفقة و لا رحمة و لا حيلة معهم إلا الضرب على أيديهم، الضربة الحاسمة إما بالرصاص أو النفي أو السجن" و أن تحالفها أو صداقتها مع أيّ كان وقتية و غالبا ما تختم بعداوة أو انتقام لذلك صحت في بورقيبة عبارة هندية :" الأمراء كالسرطان لديهم ميل سيئ السمعة لالتهام نسلهم" و لعل علاقة بورقيبة بالاتحاد العام التونسي للشغل لدليل صارخ على أن بورقيبة دائم الاستعداد لتدمير كل ما يعوق تألقه أو يحد من نفوذه و أبهته و سلطته أو من يخطر بباله منافسته سواء أكان فردا أو حزبا أو منظمة كاتحاد الشغالين فبورقيبة المتوجس خيفة من الاتحاد العام منذ كان جامعة عموم العملة التونسية إذ أزاح و زملاؤه الدستوريون بلقاسم القناوي 1938 عن رأس جامعة عموم العملـــــــــة ( كتحالف الدستوريين مع فرنسا عام 1924 للقضاء على محمد علي الحامي و جامعته) و نصّب الهادي نويرة المحامي المتربص عنده لأنه رأى، و هو السياسي المحنك المناور المهوس بالانفراد بالسلطة الممثل لطبقة الأثرياء و كبار الملاك و مشاركي المحتل الفرنسي في نهب البلاد، أن الاتحاد منظمة كبيرة ذو توجه يساري اشتراكي يستهوي الجماهير فلا بد من تدجينه و دسترته أو حتى تدميره لذلك ما إن تسلم أحمد بن صالح الأمانة العامة في المؤتمر5، 1954 ( بعد عـــــــام و نصف من اغتيال فرحات حشاد) بدعم من الجامعة العالمية للنقابات الحرة Cisl و احتراز كبير من الحزب الدستوري و صرح " أن الاستقلال الداخلي ليس هبة من أحد بل هو ثمرة نضال الشغالين و من حقهم، نتيجة لما قدموه، أن يكونوا ممثلين في البرلمان تمثيلا مشرفا و كافيا، هذا البرلمان الذي يجب أن لا يكون، بأيّ شكل من الأشكال، حكرا على أصحاب الطرابيش" حتى ارتج الدساترة "النقابيون" : أحمد التليلي و الحبيب عاشور... حسدا لهذا الشاب المثقف الجريء الفصيح الاشتراكي و خوفا على مصير حزبهم المترهل الهائم بالتفاوض و التنازل و التبعية للأم الحنون ! معلنين ضده حربا ذات جبهتين: جبهة خارجية يقودها بورقيبة و أعضاده و جبهة داخلية يقودها الحبيب عاشور و كان الهجوم البورقيبي عند الإعلان عن انعقاد المؤتمر6. 21/9/1956 متمثلا في خطاب ناري ألقاه إثر عودته المفاجئة من فرنسا منددا بالتوجه الاشتراكي لأحمد بن صالح مادحا الملكية الفردية و الرأسمالية :" إن مذهب الملكية الفردية، بالإضافة إلى ما فيه من احتــــرام و محافظة على كرامة الفرد باعتبار ما له من حرية التصرف فيما أنتجه، فإنه أحسن وسيلة لزيادة الإنتاج و توفير ازدهار الشعوب أما الملكية الاشتراكية فهي تؤول إلى النقص في الإنتاج و هذا ما نراه باديا في أراضي الأحباس، وهي أراض مشتركة، لانعدام الوازع الشخصي وازع الكرامة. أردت أن أتعرض لمسألة الملكية الفردية لتنتبهوا إلى الدعايات الشفوية و الكتابية مصورة المستقبل للعملة في إطار أسود..." و قد زامن هجوم بورقيبة هجوم الحبيب عاشور و رفاقه في الاتحاد الجهوي بصفاقس بتشجيع من بورقيبة و قد كان الهدف تدمير الاتحاد بقسمه منظمتين و إخراج أحمد بن صالح، يقول الحبيب عاشور:" و نظرا إلى أننا المنشقين جميعا ننتمي إلى الحزب الدستوري فقد قررنا طرح هذا الموضوع على الحبيب بورقيبة و التقيت معه بسرعة و كنت دائما أجد لديه القبول الحسن ... و أحطته علما بوضعية الاتحاد ... و إذا استمرت هذه الوضعية فلن يبقى أي شيء من هذه المنظمة، و في آخر اللقاء أعلمته برغبتنا في بعث مركزية نقابية جديدة تعمل على وحدة الشغالين و انسجامهم و التعاون الصادق مع المنظمات الوطنية... فقال لي بورقيبـــــة: " إذا رأيت أن ذلك مفيد فلتقم به و قد ذكرني بقوله فيّ: " إن الحبيب عاشور هو الذي يستطيع مواصلة مهمة فرحات حشاد على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل" ثمّ سرعان ما كون مركزية نقابية ثانية تحت اسم الاتحاد التونسي للشغل 8/10/1956 و أصبح عضوا بالديوان السيـــــــاسي، و صمد أحمد بن صالح في وجه القصف الدستوري متحديا قائلا في خطاب: " إن النقابيين متشبثون بعقيدتهم و ثابتون على مبدئهم لمواصلة رسالة فرحات التي وضعها جميع الناس في أعناقنا... و أقول: "إن مسؤولي الاتحاد عازمون على مواصلة الرسالة و لو كان نصيبهم في هذه الحياة رصاصتين في طريق رادس...
و أعلن أن الجامعة العالمية للنقابات الحرة CISL و نحن أعضاء في مكتبها وجدت لتقاوم الشيوعية..." ثم سافر إلى المغرب في مهمة نقابية مغاربية فاجتمع المكتب التنفيذي في غيابه مزيحا إياه مكلفا مكانه أحمد التليلي الأمين العام المساعد فاتصل بورقيبة بأحمد التليلي مهنئا قائلا:" لا أرغب في رؤية أحمد بن صالح بالاتحاد العام" و عمّ الفرح الدساترة و الدساترة النقابيين غير أنّ المجلس الوطني للاتحاد الذي انعقد للمصادقة على خلع أحمد بن صالح و تنصيب أحمد التليلي قد انفجر اعتراضا و تمسكا بأحمد بن صالح فاستنجد أحمد التليلي بأحمد بن صالح لتهدئة الأجواء فهدأ بكل شجاعة مادحا أحمد التليلي داعيا الحاضرين إلى الانضبــــــــــاط. و بإزاحة أحمد بن صالح أخذت استقلالية المنظمة الشغيلة تتهاوى تحت حذاء حزب الدستــــــــور و رأى بورقيبة أن مبررات شق الاتحاد شقين زالت فدعا الاتحادين إلى الاندماج فاندمجا في المؤتمر الاستثنائي 22/9/1957 و تجددت الكتابة العامة لأحمد التليلي و أصبح الحبيب عاشور أمينا عاما مساعدا، لكن القواعد لم ترضخ مواصلة المطالبة، في المؤتمر8، 1960 بالديمقراطية و العدالة الاجتماعية فأطرد أحمد التليلي في المؤتمر9 ماي 1963 و نصّب الحبيب عاشور أمينا عاما لكن بدا عليه التمرد رغم دستوريته التاريخية فلفقت له تهمة حرق المركب الرابط بين صفاقس و قرقنة جوان 1965 فحوكم و سجن و نصب أمينا عاما الدستوري بشير بلاغة الذي أعلن أنّ الاتحاد جندي يطبق خيارات حزب بورقيبة و تواصل ضرب الاتحاد وهو تابع حتى التهشيم الشامل الخميس الأسود 1978...
لكن اللافت لنظر علماء الاجتماع و التاريخ أن المعاشرة التلاكمية بين ديمقراطي الاتحاد و يسارييه من ناحية و الحزب الحاكم من ناحية ثانية جعل كليهما يحن إلى الآخر بل لا يصبر الضارب على الضرب و لا المضروب على الضرب قد يعود ذلك إلى البعد العلماني المتشدد لكليهما و قد يعود أيضا إلى ظهور الحركات القومية و الإسلامية المعتبرة خطرا ماحقا على علمانيي تونس عامة، و لعل دور الاتحاد في خنق الترويكا و إيصال النداء إلى الحكم لأكبر دليل على ذلك.
و هكذا جفف بورقيبة ينابيع الحرية و الفكر و الإبداع و التحديث فتصحرت البلاد مصبحة لا تنبت غير الصبار و القتاد و لا يرتع في فيافيها غير الأفاعي و العقارب... و صدق أحمد مطر:
...ربما يبرأ إبليس من الذنب
فيعفو عنه غفار الذنوب !
إنما لا يبرأ الحكام
في كل بلاد العُرب
من ذنب الشعوب !
----------
مرجعا المقال:
- د.الضاوي خوالدية: منزلة الشعب في الدول العربية الاستبدادية الحديثة، الشعب التونسي في دولة بورقيبة نموذجا دنيا برانت، سيدي بوزيد 2013.
- سالم الحداد: الحركة النقابية في تونس بين الاستقلالية و التبعية III: الاتحاد العام التونسي للشغل و نظام بورقيبة بين الوئام و الصدام ج I تونس، ديسمبر 2011.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: