د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6464
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تردّدت لفترات قبل أن أتّخذ قراري وأقدم على كتابة هذه الأسطر التي أتمنى أ، تفهم في سياقها الإنساني والقيم والثوابت الأخلاقية التي ما جاء الإسلام الحنيف إلا لتصويبها وتعديل السلوكيات البشرية كافة بعد أن انحرفت عن القواعد والأعراف السّمحة التي بنيت على الرحمة " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ "[1].
لقد سبقت الأخلاق الحميدة كل الرسالات السماوية وأسس لها العقلاء ونظّر لها الحكماء والفلاسفة في كل زمان ومكان باعتبارها جبِّلة في التركيبة النّفسية للبشر، غير أنّ الميول الغريزية عند هؤلاء (البشر) لكل أشكال التّجاوز، نتج عنها تحريف " فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"[2]، مشكلة بذلك، عبر العصور وعلى امتداد الدّهور مؤسسات الظلم والاستبداد والقهر والاستعباد..
أتت الديانات قبل الإسلام لتصحيح تلك الانحرافات، فقد نُقِلَ عن لسان المسيح، عيسى ابن مريم، عليه السلام قوله: "من صفعك على خدّك الأيمن، أدر له خدّك الأيسر"، إلا أنّ هذا التّسامح لم يكن كافيا لوقف الطغيان، ثم جاءت الرسالة المحمدية الخاتمة، ليعلن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم أهم أسباب بعثته قائلا: "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[3].
أين مكارم الأخلاق من الذين هبّوا ضدّ الظالم، المتغطرس الذي طغى وتجّبر وحكمهم بِكِبْرِ وتعال كمن " قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى "[4]؟. لقد منّ الله على ثوار ليبيا الأحرار بالنّصر المبين وقد حضرتهم العزيمة في كل أشكالها وبكل أبعادها، عزيمة الثبات على الحق، عزيمة كسر الاستبداد وتحرير البلاد والعباد من الاستعباد وغاب عنهم العزم، عزم الأمور، فنسوا وغاب عنهم قوله تعالى: "وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور"[5].
يعجز إنسان عادي مثلي عن فهم الدوافع النفسية والسلوكية وحتى السياسية التي جعلت بعض الثوار من الذين حالفهم الحظ، ليدخلوا، (لا تاريخ الشقيقة ليبيا فقط بل ليسجلوا أسماءهم في تاريخ الثورات الإنسانية الكبرى، بقبضهم على أحد طغاة العرب)، أن ينجروا وراء العنف "المجّاني" من ضرب وشتم وركل[*] من كان بالأمس القريب يحكمهم وكانوا في ذات الوقت يصفقون لخطبه النارية تارة، تأييدا لأرائه الشّاذة ويحملونه على الأعناق تارة أخرى... ثم يعدمونه (رغم تضارب الروايات) في غمرة من الفوضى الجارفة، دون الرّجوع إلى حكم الشعب و/أو استشارة قادة المجلس الاستشاري للثورة.
من هذا الذي غامر وغيّب رأي الشعب الثائر وأقصى قرار من ارتضتهم الثورة حكّاما انتقاليين لليبيا الحرّة؟ أقول بكل موضوعية، أن هذا الفعل قد أساء للثورة الليبية المجيدة من حيث يدري أو لا يدري. في اللحظة التي انتهى فيها الاستبداد، انطلق استبداد جديد وكأنّما الاستبداد قدر هذه الأمة؛ في حين أنّ الإسلام كمرجعية دينية وأخلاقية وثقافية يزخر بضوابط سلوك تسليط العقاب على الظَلَمَةِ "إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ"[6].
قد يفتح مثل هذا التّصرف الباب على مصراعيه أمام قانون الغاب وما أسميه بلاعقلانية القصاص الذي هو جزء من العقد الاجتماعي المنظّم لحياة المؤمنين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ "[7] وجاء في تفسير القرطبي "" كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاص " " كُتِبَ مَعْنَاهُ فُرِضَ وَأُثْبِتَ" وهو أمر إلهي يمهد لحياة قوامها العدل بين الناس كي يستمر وجودهم كآدميين، متميّزين بالعقل والحكمة باعتبارهما ضامنين لإنسانية لا تستقيم بأي حال من الأحوال، إلا بالعدل الذي هو "أساس العمران"[8]. لم يشّذ فكر صاحب المقدمة، سليل المدرسة الزيتونية وقاضي المالكية بمصر عن تعاليم القرآن الكريم، وإني أحسبه قد أوجز في بلاغة متناهية الدّقة قول الله تعالى "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"[9]؛ فلا عمران بدون حياة ولا حياة بلا قصاص وبالتالي لا عمران بدون عدل، إنها السببية والعقلانية في أجلى صورة، كرمتا مجتمعتين الإنسان عن بهيمة الأنعام.
من البديهي أن يكون في الحرب أسرى وهم حسب أعداء بالضرورة. لقد أعطى القانون الدولي، المستند إلى الشرائع الإنسانية والأخلاقية تعريفا عاما لمصطلح أسير الحرب، فاعتبرته "مقاتلا في جيش أو في ميليشيا، منظمة، وقع بين أيدي عدوه"[10]. وفي نفس السياق، أضاف ميثاق جينيف الثالث الموقع في 15 أوت 1949 إلى التعريف السابق صفتا "عجز الأسير عن القتال و/أو الاستسلام". كما تضمن الميثاق من يعتبرهم أسرى حرب: "1/ جندي في جيش دولة معترف بها. 2/جندي في جيش لكيان سياسي يدار كدولة ولو كان غير معترف به. 3/ عضو في ميليشيا لا تخضع لأي دولة أو كيان سياسي بشرط أن تكون لها المميزات التالية: قيادة مسؤولة عن أعضاء الميليشيا، أزياء خاصة أو شعار يمكن ملاحظته في ساحة المعركة، يحمل أعضائها أسلحتهم علناً، تلتزم بالمواثيق الدولية. 4/ مدني أمسك بسلاح للدفاع عن بلده من عدو يتقدم تجهه دون أن يكفي له الوقت للتجنيد. "[11].
وبناء على أوردته تصريحات ثوار ليبيا، خاصة أولائك الذين أسروا "العقيد الهارب"، وقد تمّ الإمساك به مرتديا زيا عسكريا وفي حوزته أسلحة خفيفة للدفاع عن النّفس، يحق اعتباره (أسير حرب)، كان من الواجب التعامل معه على هذا الأساس. ويحدّد ميثاق جينيف طريقة التعامل مع أسرى الحرب (وهو تحديد ملزم، نظريا) بطريقة إنسانية، تقوم على توفير الطعام والشراب والدواء واللباس اللائق مع احترام عاداته وتقاليده وتعاليم دينه... إضافة إلى عدم تعذيبه حين استجوابه الذي لا يتجاوز طلب معرفة اسمه وتاريخ ولادته ورقم هويته العسكرية.
إن القيم الأخلاقية التي جاء رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم ليتمّمها قد أكدت عليها منذ ما يزيد عن خمسة عشر قرنا. أ لم يقل القرآن الكريم " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا"[ 12]. ونقل ابن كثير عن ابن عباس قوله في تفسير هذه الآية: {كان أسراهم يومئذ مشركين ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء... قال مجاهد هو المحبوس أي يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه}"[13]
غير أن ما نقلته الصور عن لحظة اعتقال "القذافي" كان تعرّضه للإهانة من الوهلة، بالرّكل والضرب والسّباب والشتم... حتى وهو ميت مسجّى. صور استاء لها كل من شاهدها، كادت تنسينا شخصية الأسير الميت وويلات حكمه. لقد انحرف الثوار (للأسف) عن تعاليم الإسلام المتعلقة بمعاملة الأسرى معاملة إنسانية. يرى الإسلام في الأسير إنسانا ضعيفا، محطم الكبرياء، يستحق الشّفقة والإحسان وخاصة الرّعاية. المسلم المنتصر في الحرب له من الله سبحانه جزاء موفورا ورفعة في الدنيا، في تلك اللحظة التي تغري المنتصر، نجد المسلم وهو يتعامل مع من أذّله الله، يستحضر قوله تعالى وهو الذي منّ عليه بالنّصر والعزّة "إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا"[14].
أفرز التحام البُعد الديني بالبُعد الإنساني سلوكا فريدا عند المسلمين الأوائل في تعاملهم مع الأسرى، يتجلى هذا السلوك في وصايا نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام بالأسرى خيرا والصبر على المُتّمسك منهم بموقفه واحترامه صلى الله عليه وسلم لوفاء بعضهم لاختياراته. ومعاملته لــ (مثامةبن أثال، سيد بني حنيفة) وهو أسير مقيّد إلى سارية بالمسجد النّبوي، خير شاهد على صبره وأحسن دليل احترامه للأسرى، صلى الله عليه وسلم. جاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ثمامة فقال: "ماذا عندك يا ثمامة ؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل، تقتل ذا دم – أي من قاتل وقتلت من المسلمين - وإن تُنعم، تُنعم على شاكر... فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام؛ وفي كل يوم يأتي إليه فيسأله مثل هذه الأسئلة ويجيبه ثمامة بمثل إجابته تلك. وبعد اليوم الثالث أمر بفك أسره، فانطلق ثمامة إلى نخلٍ قريب من المسجد فاغتسل ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، ثم قال : يا رسول الله، والله ما كان على الأرض أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ ووالله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحب إليَّ...". فهل من مدّكـــــــر؟[*].
هل من مدّكر في ثوار ليبيا وهم يلحقون الإهانة بأسير حرب قبل قتله دون محاكمة؟ لماذا لم يقتصوا من جلاّدهم بالعدل والقسطاس؟ لقد وفّر الثوار على "العقيد" خزي الدنيا وقد طغت العاطفة الشخصية وربما الاعتبارات الخاصة فدفعت بأحدهم إلى إعدامه "برصاصتين، إحداهما تحت إبطه والأخرى في رأسه"[15] العقيد. لم ينكر قاتله صفع الأسير، مرتين وهو يستغيث قائلا: "أنت مثل ابني... أنا مثل والدك..."[16] يحضرني في هذا الموقف مثل تونسي يقول: "أكره عدّوي ولكن لا أتمنّى له الموت".
هل كان قتل العقيد الليبي عملا معزولا أم فعلا مقصودا؟ لا يمكن تحديد هذا الفعل على وجه الدّقة. مات العقيد القذافي يقاتل من ثاروا عليه، مارس حقه في الدّفاع عن نفسه (بالغريزة) غير مدبر ومارسوا حقهم في الثورة على ظلمه وبطشه ودمويته، في شجاعة وإقدام؛ إلا أنهم حرموه حقه في محاكمة عادلة وحرموا أنفسهم طهارة اليد، فسقطوا في التّشفي والانتقام.
مهما كانت التّعلات والتبريرات التي يمكن تقديمها، تبقى إمكانية إسناد الإجهاز على عقيد ليبيا بهذه الصورة المرتجلة، اللامسؤولة، التي أحرجت قادة المجلس الوطني الانتقالي الليبي وأربكت تصريحاتهم، إلى أيادي من الطابور الخامس، وهي قراءة بدأت تتردّد على ألسنة الناس.
سقوط والقذافي والخزي الذي لحقه ومن سبقه من رؤساء عرب أطاحت بهم شعوب طال اضطهادها وتحقيرها وإذلالها وتعذيبها ماديا ونفسانيا، هو عبرة لمن أراد أن يعتبر من حكّام ومحكومين. لقد أعادت الثورات العربية إلى الأذهان أنّنا أمة، كانت خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، لن تحني الجباه إلا لخالقها، أمة العدل والقصاص رغم بعض الانحرافات السلوكية التي تستوجب المساءلة والمحاكمة.
ما انفكت أحداث العالم العربي وحراكه خلال عام 2011 تفاجئ العالم بأسره، أعادتنا إلى التاريخ الإنساني، فمن واجبنا أن نكون أول من يتذّكر ويتعّظ ويؤمن بأن الحق مهما حُجِبَ فإنه ظاهر والباطل مهما ظهر فإنه زاهق" هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"[17].
-----------
1) سورة الأنبياء الآية 107
2) سورة الروم الآية 30
3) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم
4)سورة النازعات الآية 24
5) سورة الشورى الآية 43
*) المصدر: فيديو كليب عرضته إحدى القنوات العربية مساء يوم 21/10/2011
6) سورة النحل الآية 126
7) سورة البقرة الآية 178
8) ابن خلدون، المقدمة
9) سورة البقرة الآية 179
10) القانون الدولي، النّص المحيّن في 2011
11) من يعتبر أسير حرب، موسوعة ويكيبيديا
12) سورة الإنسان الآية 8
13) تفسير ابن كثير، موقع الإسلام الإلكتروني
14) سورة الإنسان الآية 9
*) إشارة إلى قوله تعالى " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرٍ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ"
15) جريدة الشروق، ص: 23، الأحد 23 أكتوبر 2011
16) جريدة الشروق، المصدر السابق
17) سورة إبراهيم الآية 52
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: